«حكايات الحمراء» لواشنطن إيرفنغ: تراث عربي من العالم الجديد

13-06-2014

«حكايات الحمراء» لواشنطن إيرفنغ: تراث عربي من العالم الجديد

من الممكن لمن يريد ان يبدو متحمساً اكثر من اللازم لنقاء الحياة ودماثتها في قصور الحكم العربية في العصور الوسيطة، ان يندّد بأعمال مثل مجموعة الكاتب الاميركي واشنطن إيرفنغ المسماة «حكايات الحمراء» إذ يعثر فيها على ما يعزز نظرته المسبقة والجاهزة الى «الاستشراق» و «الشرير دائماً» و «المدان دائماً»، ولكن، دائماً من موقع ايديولوجي يفسر الماضي بالحاضر. غير ان هذا لا يقلل من اهمية هذا العمل الادبي التأسيسي ومن عمق جوهره بوصفه، من ناحية، من اوائل اطلالات الأدب الاميركي، الناشئ حديثاً آنذاك، على العالم الخارجي - «الشرقي» بمعنى ما -، وبوصفه، من ناحية ثانية يعكس ذلك التمزّق، او الازدواجية التي بدأ بعض الاميركيين المثقفين يستشعرونها، بين انغماسهم في هويتهم الجديدة (في العالم الجديد، الذي كان لا يزال عالم رواد ومجازفة وتأسيس)، وبين ادراكهم لنوع من الانتماء الى عالم قديم، لم ينفصلوا عنه عضوياً في شكل كلي بعد، وهم يعودون الى اكتشافه في كل مرة يزورون فيها اوروبا او يقيمون فيها. ومنذ الآن لا بد من القول إن كاتباً مثل واشنطن إيرفنغ، لم يكن بالضرورة داعياً لهذه الحال وعيَ هنري جيمس وهمنغواي وجرترود شتاين لها لاحقاً، غير ان ادبه يقولها، في ثناياه، وإن كان كُتب، قبل اي شيء آخر، كأدب ترفيه وغرابة.

> ففي الوقت الذي كتب «حكايات الحمراء»، كان إيرفنغ يقيم في اوروبا منخرطاً في عمل ديبلوماسي أميركي، وكان بالكاد بدأ يُعرف بوصفه من ابرز كتاب الأدب الغرائبي في بلاده. قبل ذلك، اي قبل السبعة عشر عاماً التي امضاها بين اسبانيا وانكلترا او فرنسا، كان واشنطن إيرفنغ منتمياً كلياً الى اعرق ما في التقاليد الاميركية الناشئة، خصوصاً انه كان ابناً لعائلة مقربة من الرئيس الاميركي المؤسس جورج واشنطن، وسُمّي تيمناً به. اما في اوروبا، فإنه بدا بوصفه اول وأكثر الروائيين مقدرة على «اعطائنا صورة للتمزق الثقافي لدى الكتاب الأميركيين الذين ينقبون، عن قناعة، في ماضيهم القومي الخاص، في الوقت الذي يستكشفون الميراث الاوروبي، ولكن بالقوة نفسها في الحالين». ومن هنا من المؤكد ان روايات شهيرة لإيرفنغ مثل «ريب فان وينكل» و «سليبي هالو» تنتمي في غرائبيتها الى الخرافات الجديدة التي راحت تتراكم في العالم الجديد (شرق الولايات المتحدة خصوصاً، ومن حول نيويورك)، لكنها تنتمي ايضاً الى اعرق ما في التقاليد الغوطية الاوروبية. وفي هذا السياق قد يكون من المفيد ان نشير الى ان إيرفنغ، اذا كان قد كتب في آخر حياته سيراً لكولومبس، وجورج واشنطن، بوصف الاول مكتشف القارة، والثاني مؤسس الأمة، فإنه كتب ايضاً سيرة - مثيرة للجدل - للرسول العربي وصحبه، غير ان هذه السيرة تكشف عن ان ما تبقى من حماسة لدى إيرفنغ، في آخر ايامه كسفير للاتحاد في مدريد، كان قد بهت.

> المهم ان «حكايات الحمراء» تبقى من اجمل ما كتب واشنطن إيرفنغ، وإن اكتشفنا بساطة الحكايات التي يرويها، وكونها انتاجاً ثانوياً بحتاً، مقارنة بـ «ألف ليلة وليلة»، التي يبدو ان إيرفنغ اكتشفها في اوروبا في ذلك الحين. فالمهم في هذه الحكايات، ليس القوة الادبية، بل الموضوع والاجواء التي يحسن إيرفنغ وصفها. الموضوع هو نفسه دائماً تقريباً: محاولة التقاء عالمين تقوم في وجه لقائهما عقبات تؤدي احياناً الى انتصار المتمردين عليهما، وأحياناً الى التقائهما. فهل نجد في هذا كناية عن توزع إيرفنغ بين عالمين. وحتى «ريب فان وينكل» الا تراها تحمل الفكرة نفسها عبر ذاك الذي يغيب عن مدينته وأصله ويعود وقد خيل اليه انه غاب فترة يسيرة من الزمن، فإذا به غاب عشرات السنين فمات في غيابه كل من يعرف وتبدّل العالم؟

> ينطلق واشنطن إيرفنغ في حكاياته من تمهيد يتحدث عن الرحلة التي قام بها الى اسبانيا في عام 1829. وهناك تستقبله العائلة المكلفة حراسة قصر الحمراء، نصف المهدم، في غرفة جانبية، لكنه هو يرغب في الانتقال الى جناح آخر كان يشغله الملك فيليب الخامس. وهناك تصله الحكايات التي يرويها في الكتاب، وهي تتعلق خصوصاً بـ «بو عبدول» (أبي عبدالله) آخر ملوك غرناطة. الحكاية الاولى عنوانها «حكاية الفلكي العربي»، بطلها ابراهيم بن ابي عجيب الذي عاش في زمن الملك ابن جوش (!). وابراهيم، بفضل مهارته وسحره، يتمكن من تدمير جيوش الاعداء. ولكن بعد ذلك يرفض الملك تزويجه بمن يحب، فيندفع معها قافزاً من اعلى الجبل. في الحكاية الثانية «برج الأنجال» نجدنا امام قصة بنات الأمير محمد الهيجري الثلاث، اللواتي سجنهن الأب في برج لكيلا يُغرمن بأحد ويتركنه. لكن البنات يتعرفن الى ثلاثة فرسان مسيحيين أسرى، فيُغرمن بهم. وفيما تهرب ابنتان مع فارسيهما، تجبن الثالثة عن ذلك، وتبقى هناك حتى تموت يائسة. الحكاية الثالثة عنوانها «حكاية الأمير أحمد الكامل، او حاج الغرام» وهي تروي حكاية أمير شاب ادت غيرة ابيه منه الى سجنه هو الآخر، في برج، لكنه يتمكن، عبر استخدامه حمامة زاجلة، من الوقوع في غرام أميرة مسيحية شابة، ويتزوج منها بعد الكثير من المغامرات.

> في الحكاية الرابعة، وعنوانها «إرث العربي» (ويسمى «المور» هنا)، نجدنا في ازاء كنز خرافي يعثر عليه في نفق ماء يقع تحت برج الطوابق السبعة، وذلك بفضل خريطة تركها عربي لا يعرف احد عنه شيئاً. اما الحكاية الخامسة «وردة الحمراء»، وهي الأكثر شاعرية وشفافية، فتبدو مقحمة على الحكايات الأخرى لأنها لا تنتمي الى عالمها، إذ تطالعنا حكاية شابة حسناء تعثر على عود يقال ان صوته شفى فيليب الخامس من آلامه فتستخدم الشابة العود للالتقاء بحبيبها الفارس في حاشية الملك وتتزوجه في النهاية.

> وفي الحكايتين الاخيرتين يعود واشنطن إيرفنغ الى حكاية بو عبدول، التي يؤكد لنا، انه - على عكس ما يقول التاريخ - لم يُقتل عند سقوط غرناطة، بل حُبس مع جيشه في مغارة، ويحدث في بعض الليالي المقمرة، ان يخرج منها برفقة هذا الجيش ليغير على جيوش الأعداء محاولاً استعادة ملكه، مؤمناً بأنه ذات يوم سيخرج نهائياً ويتمكن حقاً من حكم غرناطة من جديد. وكما يبدأ إيرفنغ حكاياته بوصف حي، ووثائقي، لوجوده في غرناطة، يختتمها ببعض الوثائق التي ينشرها باعتبارها مستخلصة من مكتبة اليسوعيين في هذه المدينة، ما يحاول من خلاله ان يعطي الكتاب ذلك الايهام الطريف بالواقع.

> في الامكان طبعاً تحميل هذه الحكايات والكتاب ككل، ابعاداً ايديولوجية كما اشرنا سابقاً، ولكن، من المؤكد ان إيرفنغ انما كتبه ضمن سياق كتابته الحكايات الغرائبية، وفيه نجد صدى للكثير من اعماله السابقة او اللاحقة، والتي تبدو غير ذات علاقة بالتاريخ الاندلسي الذي يصف بعض سماته، على طريقته الخاصة.

> ولد واشنطن إيرفنغ، في الوقت الذي نالت بلاده استقلالها، وصدرت اول رواية اميركية حقيقية. وهو سافر باكراً الى اوروبا حيث امضى سبعة عشر عاماً. وكان اول ما نشره، وهو بالكاد بلغ العشرين من عمره، يوميات يصف فيها وصوله الى اوروبا. ثم كان عمله التخييلي الاول الذي وضعه في شكل تاريخ متخيل لنيويورك تحت الادارة الهولندية. في اسبانيا وانكلترا، عمل إيرفنغ اولاً في التجارة، لكنه بعد ذلك صار ملحقاً لحكومة بلاده في سفارتها في مدريد ثم في لندن، وراح يوطد علاقته بالأوساط الادبية في البلدين، في الوقت الذي راح ينشر رواياته تباعاً فتلقى حظوة النخبة واعجاباً من عموم القراء. وبعد سنوات الغربة تلك عاد إيرفنغ الى الولايات المتحدة حيث عمل في الصحافة والكتابة، ينشر أعماله التي راحت تلقى رواجاً كبيراً، وجعلت له مكانة أكبر. بل انه اعتبر احد المؤسسين الكبار للأدب البوليسي من خلال رواية «سليبي هولو» على رغم ان هذه الرواية (المتحدثة عن فارس دفن مقطوع الرأس فيعود دائماً باحثاً عن رأسه قاتلاً اعيان بلدة «سليبي هولو» حتى يستعيد رأسه وينام نومه الأخير مطمئناً) تعتبر رواية غرائبية اكثر منها بوليسية.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...