«صحّ النوم»: الكوميديا التلفزيونية في أهمّ تجلياتها ،45 عاماً على أهمّ وأنجح مسلسل في منطقتنا

17-10-2017

«صحّ النوم»: الكوميديا التلفزيونية في أهمّ تجلياتها ،45 عاماً على أهمّ وأنجح مسلسل في منطقتنا

في مثل هذا اليوم، انطفأ نهاد قلعي (1928 ــ 1993)، الكاتب الفذ وصانع أهم عمل دخل وجداننا وذاكرتنا، وطبع أجيالاً على«صحّ النوم»: الكوميديا التلفزيونية في أهمّ تجلياتها ،45 عاماً على أهمّ وأنجح مسلسل في منطقتنا مدى عقود. عند متابعة هذا المسلسل على اليوتيوب اليوم، تتملكنا الدهشة كما عند المشاهدة الأولى. ويبقى السؤال: لماذا ليس لدينا مسلسلات كوميدية ناجحة جماهيرياً في لبنان مثلاً؟

إلى روحكم الكوميدية الفذّة المتجسّدةِ في هذا العمل

في كلِّ مرّةٍ نستعيدُ فيها، مع العائلة والأصحاب، بعضَ العبارات الفكاهيّة من مسلسلاتٍ قديمة، أطرحُ على نفسي السؤالَ ذاته: لماذا ليس لدينا الآن مسلسلات كوميدية ناجحة جماهيرياً في لبنان أو في الوطن العربي؟ كان لدينا مثلاً «المعلّمة والأستاذ»1، و«الدنيا هيك»... ياه، حفظنا غيباً حركات وعبارات زمرّد وهي تحكي مع «عزيز عزّو عزّوزتي».

ولكن، كان لدينا، خاصّةً «صحّ النوم». أذكرُ تماماً كيف كنّا ننتظرهُ على أحرِّ من الجمرِ حين كان يُعرَض للمرّة الأولى. أذكر كيف كنّا نتسمّر كلّنا أمام الشاشة، أذكر كما كنّا صغاراً، وأذكر كم كنّا نضحك. وفي يوم من الأيام، تساءلت: تُرى، إذا شاهدتُ «صحّ النوم» الآن، بعد كلِّ هذه السنين، هل أضحكُ كما ضحكتُ وأنا طفلة، ومعي جيلٌ عربيٌّ بطوله؟ هل سأراه الآن كما رأيته حينها، خاصّةً بعد كلّ التطورات التقنية والإجتماعية؟ فكّرت: فلنجرّب. فإن لم أضحك، على الأقلّ تذكّرتُ أياماً جميلة. وجدتُ الحلقات على اليوتيوب، وغطستُ ... وغطست.

جاءت النتيجةُ بما لم أكن أتوقّعه. لم أعجبْ به فقط، بل كنت مأخوذةً مشدوهةً: ضحكتُ كما لم أضحك منذ زمن! ما هذا؟! كتابةٌ كوميدية بامتياز، تمثيلٌ مهنيٌّ وعفويّ في نفس الوقت، لم نرَ بعد ما يضاهيه، مواقفُ فكاهية بالعمق، وخيوطُ قصصِ حبٍّ محبوكةٍ في بعدٍ إجتماعيّ تراجي- كوميدي. كلُّ هذا في قالبٍ محليٍّ صرف، يحاكي عيشَنا، وذهنيتنا، وشخصياتنا، ولغتنا، وطريقة حكينا. ما هذا الكنز؟! صرخت بتعجّب. وصرتُ، كلّما خلصت حلقات المسلسل، أعود وأشاهدها من جديد. حفظتُ المشاهدَ والمواقفَ والحوارات والحركات. ثمّ استنتجتُ: هذا أهمّ وأنجح مسلسل - عمل كوميدي في تاريخنا وفي منطقتنا.

بالفعل. لقد لاقى «صحّ النوم» نجاحاً جماهيرياً واسعاً تخطّى حدود سوريا ولبنان، وصار جزءاً من ذاكرتَنا ووعينا ونظرتنا عن أنفسنا. فمن منّا لم يردّد على سبيل النكتة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، علينا أن نعرف ماذا في البرازيل»؟! ومن منا لم يقلّد حركات غوار الطوشة، أو فطوم حيصبيص، أو حسني البرظان، أو ياسينو، أو أبو عنتر وأبو كلبشا؟ دخلَ المسلسل، بشخصيّاته وبمواقفه وبعباراته، ذاكرتنا العربية المشرقية الجماعية، كما لم يدخل ربّما أيُّ مسلسلٍ آخر3.. فهل نغنّي سويةً مرّةً بعد؟

فلنعطِ إذن العاملين في هذا المسلسل حقّهم: «صحّ النوم» هو من كتابة نهاد قلعي، وإخراج خلدون المالح. وهو من تمثيل: نهاد قلعي في دور حسني البرظان؛ دريد لحام، غوار الطوشة؛ نجاح حفيظ، فطوم حيصبيص؛ ياسين بقوش، ياسين؛ ناجي جبر، أبو عنتر؛ عبد اللطيف فتحي، أبو كلبشا. صُوِّر في استديو في لبنان، وعُرضَ عام ١٩٧٢ على التلفزيون الرسمي السوري4.

ولنستعيد المشهد الأوّل من الحلقة الأولى، الذي يبني، بدقائق معدودة، مسرح الأحداث وكلّ دينامكيات العلاقات التي هي في صلب الحركة الدرامية: في الخارج، لوحةٌ كُتب عليها «فندق صحّ النوم لصاحبته فطوم». مكتب استقبال فندق. غوار يجلس في مكان «المديرة». يغيّر ليغشّ بورق اللعب المفرود على الطاولة وهو ينظر باستمرار ناحية اليسار. يدخل ياسين، يكملان اللعب فيربح غوار ويعترض ياسين، ولكن غوار يقسو عليه ثم يلين. تنزل فطوم من على الدرج وتراهما وتبدأ بنهرهما. يخافان ويقومان للعمل، لكن غوار يحاول التغزّل بمعلّمته، فتنهره بقسوة. ثم تجلس لتشرب الأرجيلة. يدخل حسني البرظان. تتغنّج فطوم.. هو على كوكب آخر، كوكب مقالته الشهيرة التي سيظل يكتب فيها على طول المسلسل.

دقائق قليلة كانت كافية لتحضير المسرح الذي ستجري عليه الأحداث. بحركة بسيطة وبكلام قليل تعرّفنا على كلّ الشخصيات الأساسية (سيدخل أبو عنتر لاحقاً، وأبو كلبشا بعد حلقتين). تعرّفنا على موقع كلّ شخصية في علاقتها مع الآخرين: غوار «الشغّيل» مغروم بمعلّمته فطوم، وفطوم صاحبة الفندق الشعبي مغرومة بالمثقّف والصحفي حسني البرظان. ياسين طيّوب وساذج، وغوار يسيطر عليه. غوار لا يطيق البرظان لأنه يأخذ فطوم منه. أما المواقف المرتبطة بهذه الديناميكيات فلقد جاءت كوميدية منذ البداية: الرجلان العاملان في الفندق يلعبان الورق بدل أن يقوما بعملهما. والريّسة (الـ boss) هي امرأة يخاف منها العاملان، يحبّها واحد منهما، ويحترمها ويخدمها الآخر. فطوم تدير فندقها بيد من حديد لكنها تذوب عند رؤية حسني البرظان. هذا الأخير يبدو منشغلاً بأمور أخرى ولا ينتبه حتّى إلى إعجاب فطوم به.

أمّا الحوارات والتمثيل المؤدي لها فهي، وعلى طول المسلسل، قمّة في الفكاهة. إذ تتميّز مثلاً كلّ شخصية بخاصية أو ميزة في الكلام والأداء: أبو عنتر يصرّ على أنّ أغلب الأشياء «شنّو.. مالا .. لا فكاهة ولا مازيّة»... ياسين يظل يقول «معلمّتييي» ووجهه وجه المغلوب على أمره. أبو كلبشا يردّد أنّ «أنفي لا يُخطئ». فطوم، عدا كلمتها المفضّلة «ريجاءً»، تطلق الإهانات وبصوت قويّ من ناحية («ولك انضرب قوم ولا ياسين، ولك ياسيييين»)، ثمّ تذوب غنجاً وتصير قمّة في الأنوثة وهي تلفظ اسم معشوقها: «حسنييي، حسّوونتي». وحسني يظلّ يغمز بعيونه ويزمّ بشفاهه، يبدو متضايقاً طوال الوقت ويجيب بطريقة سريعة مقتضبة على أسئلة فطوم الممَّغَطَة دلعاً.

الدراميّة الكوميدية

الخطّ الدراميّ الأساسيّ في المسلسل، هو مثلّث غوار- فطوم- حسني. والمثلّث، كبناءٍ روائيّ للشخصيات، هو من أكثر الديناميات دراميةً، فكاهيةً كانت أم مأساوية. وثمّة خطٌّ دراميّ ثانوي، هو خطّ غوار ومشاكله، المرتبط بشكل أساسي بهذا المثلّث. يلعب أبو عنتر دور المساعد لغوار (وهو ما أسماه فلاديمير بروب الـ adjuvant في تحليله لبنية الحكاية الشعبية). أمّا ياسين الشغّيل الساذج، والشخصية التي لا تبدو رئيسية بل مساعدة لكلّ الأطراف (ياسين يساعد فطوم، لكنه يساعد أيضاً غوار، غالباً تحت الضغط)، فإنّه يحظى بفطوم في النهاية، ويتزوّجان.. بينما غوار وأبو عنتر في السجن، وحسني يتابع مقالاته العظيمة.
لا تخلو حلقةٌ واحدة من موقفٍ أو حدثٍ أو حوارٍ كوميدي. ودريد لحام، الذي يؤدّي دور غوار الطوشة، حاضر فيها كلها. غوار هو الشخصية الأكثر شعبية ونجاحاً في المسلسل، كما في مسيرة الممثِّل. بدأ دريد لحام يؤدّيها منذ «حمّام الهنا»، ثمّ «مقالب غوار». حاول أن يخرج منها ولكن، ككلّ ممثل ينجح نجاحاً باهراً في دور ما، بقيت شخصية غوار الطوشة مرتبطة بدريد لحام، والعكس. أداؤه في «صحّ النوم» مذهل. طاقة ودينامية ومستويات متنوّعة خارقة في التمثيل، لكن أيضاً في الغناء. وإن كان يغلب علي هذه الشخصية الدور الفكاهي، ثمّة مستويات أخرى مفاجئة، جاءت أكثر رقّة وتراجيدية، كمشهد غنائه في السجن، في أوّل المسلسل وآخره. ولعلّ المشهد التالي هو خير مثال على أداء دريد لحام الفذّ، وهو مشهد فطوم وغوار حول صحن الحمّص:

حيلةٌ عظيمة تنمّ عن ذكاء خارج عن المألوف! يُلهي غوار فطّوم بأمر يعرفُ أنها مهتمّة به (ثمة من يسرق منها)، ويضع نفسه مكان الحريص على أعمالها وشخصها، ويستعمل هذا الحرص بالذات لينال ما يريده: أكل الحمّص! وفطوم عالقة بين ثلاثة أمور: رغبتها في الأكل، حشريتها في معرفة من يريد لها ضرراً، ومحاولة منع غوار عن مشاركتها طعامها. هكذا يكون من يريد ردع السارق، أي غوّار، هو نفسه من يسرق! هذا مثال واحد على الكتابة الكوميدية الذكية، وعلى الأداء المكثّف المتنوّع لدريد لحام.
وفي المشهد التالي، الذي يجمع كلّ الممثلين الرئيسيين، تتجلّى كلّ شخصية في بعدها الحقيقيّ، إذ توضع كلّ منها أمام استحقاق لا مفرّ منه:

أبو عنتر يلبس دور القبضاي بكلّ معانيه، فيهدّد ويفرض بالترهيب كلّ ما يريد. وهذا يدلّ بلا شكّ على موقع القويّ الأزعر المؤذي، لكن النافذ في مجتمعنا (وإن كان سينتهي به الأمر في السجن). وياسين يلبس كذلك شخصية العامل المغلوب على أمره والذي لا قدرة له على مواجهة القبضاي، فيذعن لأوامره تحت التهديد، وهذه بلا شكّ حال كثير من الناس في مجتمعنا. أما أبو كلبشا، ممثّل السلطة والأمن، فيلبس هو الآخر شخصية السلطة التي تفتقد إلى الحنكة والبصيرة، فتقع ضحية المحتالين الدهاة مثل غوار، لكن إلى حين فقط، إذ تستفيق في الآخر وتقبض على المجرمين. وهذا بلا شكّ لا يشبه مجتمعنا، حيث بعض السلطة متواطئ مع الزعران القبضيات. وهنا نفهم كيف أنّ إنتاج المسلسلات وخاصة الكوميدية منها، لا بدّ أن يتجاوب مع السلطة وإلا لم يعرض على التلفزيون. أما حسني، فهو أيضاً نموذج عن المواطن المغلوب على أمره، وإن كان، على خلاف ياسين، يفهم كل اللعبة ويتعامل معها بتسليم لكن بسخرية عالية. أمّا فطوم، المرأة الوحيدة بين كل هؤلاء الرجال، فهي الوحيدة التي تنتفض على غوار وتهاجمه. وشخصية فطوم تجسّد بلا شك دوراً ريادياً للمرأة نعود إليه بعد قليل. أما غوار، فيبدو متفاخراً في هذا المشهد، وينكر أيّ علاقة له بالجرم. وهو في هذا مثالٌ على الشخص الذكي، لكن الضعيف، الذي يختبئ وراء القبضاي القويّ ليحقّق مآربه. وهذه حال كثير من الناس في مجتمعنا.

كوميديا الشخصيّات الرياديّة

يعتقد معظمنا أنّ «صحّ النوم» هو مجرّد مسلسل كوميدي ناجح جداً. لكنّنا ربما لم ننتبه إلى أنّ هذا النجاح مرتبط بكسر قوالب كثيرة، وتقديم شخصيات ريادية بالمعنى الدرامي. هكذا فإن شخصية فطوم ملفتة جداً: فهي إمرأة قوية مستقلة تدير فندقاً وموظفين رجالاً، لكنها غاية في الأنوثة، وتطمح في أن تتزوجَ من رجلٍ هو من خارج بيئتها، رجل مثقف (هكذا تراه هي، وإن كنا نحن نجده تعيساً كصحافي!). هذه بالفعل شخصية رائدة، إذا ما قارناها مثلاً بكلّ سيدات «الدنيا هيك» الذي عرض بعد ذلك بسنوات: فكلهن ستات بيوت منشغلات أساساً بأزواجهن. وكذلك هي شخصية أبو عنتر: فهو القبضاي خريج الحبوس الذي يخافه كلّ الناس، لكنه صديق أمين مخلص، ورقيق أيضاً. فيه مزيجٌ غريبٌ فريد من الرجولة-الفحولة، والغنج: شاهدوا كيف يهزّ بأكتافه وبخصره في السجن على أغنية «فطوم فطوم فطومة»، فيما شخصية غوار التي أضحكتنا بحِيَلها، تأخذ فجأةً في هذا المشهد بعداً دراماتيكياً لم نكن ندركه.

غوار قصّةٌ بحدّ ذاتها. فهو الشخصية الأكثر تعقيداً في تعدّد مستواياتها الدرامية. هو شغّيل في الفندق مثل ياسين، ولكنّه يطمح إلى أكثر. يطمح للزواج من صاحبة الفندق، كما يطمح لأن يصير أعلى شأناً، فلا ينفكّ يحاول، ولكن عن طريق الاحتيال، فيفشل. هو إذن «محتال وحربوق» كما نقول بالعامية. ولكنه يحبّ فطوم حقاً وليس فقط لأنه طامح إلى إعلاء موقعه الاجتماعي. هو أذكى الشخصيات وأكثرها دراية ومعرفة بشؤون الحياة. ولكنه يتحالف مع أبو عنتر القبضاي، ويرتكبان سوية أعمالاً ليست مثالاً في حسن السلوك والأخلاق (سرقة، افتراء، ضرب، الخ). هو يحبّ ياسين كرفيق وصديق، ولكنه يوقعه دوماً في المشاكل. غوار هو الشخصية الوحيدة في المسلسل التي تتمتّع بهذه التناقضات في بنائها. وهذا بلا شك هو ما جعل منه «بطل» المسلسل.

لم يحدث على علمي أن كان بطل مسلسل أو فيلم عربي هو شخص محتال لهذه الدرجة. عادة يكون البطل شخصية إيجابية، لكن غوار ليس إيجابياً وليس مثالاً يُقتدى به وبسلوكه. فكيف هو البطل؟ هذه برأيي هي أهم نقاط نجاح هذا المسلسل بالمعنى الرياديّ. وهذا يدلّ بلا شكّ على أهمية نهاد قلعي ككاتب. غوار هو البطل - الضد (anti-héros). فهو ليس وسيماً حقاً، وليس قوياً، وهو مجرد عامل في فندق، وغير موفّق مع النساء. ميزته الوحيدة ذكاؤه الحادّ الذي يفوق ذكاء كلّ من حوله. فهو يلّعب الكلّ بين أصابعه. ولكنه لا يستعمل هذا الذكاء إلا بطريقة تخريبية (subversive). وينجح دوماً في التخريب، وإن كان يدفع ثمنه أحياناً (يُسجن، يخسر فطوم، الخ). غوار هو الطاقة الذكية لكن المخرِّبة لمجتمع بالٍ وتقليدي، يبدو وكأنه ميؤوسٌ من بنائه. و«صحّ النوم» بهذا المعنى سياسي بإمتياز. خذوا عنوان المسلسل مثلاً: هل هو مجرّد لعب على الكلام، كون الفندق حيث ينام النزلاء إسمه «صحّ النوم»؟ أم أنّ العنوان هو دعوة لكي تصحو الناس من سباتها المتجذّر في حاراتها القديمة وحيواتها الرتيبة، الحارات والحيوات التي لا ينفكّ غوار «يحرتق» فيها ليخرّب رتابتها وكلّ موروثاتها؟

الكاتبُ من الناس وإليهم

لم يأتِ «صحّ النوم» من الفراغ ليخبط هذه الخبطة. جاء من مسارٍ طويل أدّى إلى هذه الرائعة الكوميدية. فسوريا بلد رائد في المسلسلات الكوميدية. ولقد سبقت «صحّ النوم» أعمال أخرى، من أبرزها مسلسلان جمعا نفس الممثلين تقريباً، «مقالب غوار»، و«حمام الهنا»5، وجمعهم كلّهم نفس الكاتب: نهاد قلعي. هو الأساس. وهو الكاتب الفذّ. لكنّ نهاد قلعي ليس كاتباً-مثقّفاً تقليدياً. جاء من الناس ومن العمل في وظائف مختلفة استقى منها كلّ ما كتب. نعم، لم يأتِ من المعاهد والجامعات والمدارس - ولا نقول أنها عاطلة.. إسمه الكامل نهاد قلعي الخربوطلي - معقول؟! كيف لا يصبح كوميدياً مع هكذا اسم؟! عند انتهاء دراسته الثانوية، «قرّر الالتحاق بمعهد التمثيل في القاهرة إلا أنّه قبل سفره بأيام تعرّض لسرقة نقوده، مما أجبره على ترك السفر والعمل في دمشق». هكذا بدأت مسيرته بمقلب مأساوي، لكنه يصلح ليكون مقلباً كوميدياً! ثمّ «عمل مراقباً في معمل للمعكرونة ثم ضارباً للآلة الكاتبة في الجامعة، ونُقل بعد ست سنوات من العمل إلى وزارة الدفاع واستقال بعدها ليعمل مساعداً لمخلّص جمركي طوال خمس سنوات، إلى أن عمل لحسابه الخاص»
ولكنه كان شغوفاً بالمسرح وبالتمثيل منذ أيام المدرسة. وعمل في مسرحيات المدرسة، ثمّ أسّس نوادي للمسرح، وكتب ومثّل في عدد كبير من المسرحيات. إلى أن جاءت فترة الستينات الذهبية وجاء التلفزيون السوري الرسمي، فعمل فيه. قال في مقابلة معه إنّ كثيراً من القصص التي كتبها للتلفزيون مستوحاة من قصصٍ وشخصيات التقاها خلال عمله المتنوع هذا. نهاد قلعي: الكاتب الوحيد ربما الذي لم يتعلّم في جامعة، فلم يكتب انطلاقاً من الكتب والفكر والثقافة التقليدية، بل كتبَ عما عاشه وعايشه، عن الناس الذي عاشرهم، عن المواقف التي مرّ بها هو أو معارفه. وفي المسلسلات والأفلام التي لاقت رواجاً شعبياً جماهيرياً، هذه هي الكتابة التي تصل إلى قلوب الناس وتُبدع ترفيهاً ذات مستوى، لا ترفيهاً سطحياً أو مبتذلاً.

أعودُ إلى السؤال الذي ابتدأتُ منه: لماذا ليس لدينا الآن مسلسلات كوميدية ناجحة جماهيرياً في لبنان مثلاً؟ وأحاول أن أجيب، راصدةً بالطبع حالةً عامّة أو طاغية، لا تشمل كلّ المساسلات.

أوّلاً: إنّ من يكتبون اليوم، وبشكل خاصّ للسينما وللتلفزيون، هم بأغلبهم أشخاص جاؤوا إلى الكتابة من خلفية مؤسساتية وليس من خلفية العيش المباشر. وأعني بخلفية مؤسساتية: إما جامعة، أو معهد، أو صحافة، أو أدب، أو إعلام، الخ.. أي أنهم جاؤوا من ثقافة غير ثقافة العيش والتفاعل مع الناس، ثقافة تعلّب الكتابة بأطرٍ كتابية، لا حياتية-عيشية. فتأتي الكتابة من الذهن والأفكار المسبقة الجاهزة، لا من مغامرات الحياة ومفاجآتها وغرابة ناسها وأماكنها7. يفكّر الكاتب بشخصية المرأة الفاسقة، أو الرجل اللعوب أو العنيف، أو المرأة المهضومة، فيرتسم في ذهنه شكلٌ وسلوكٌ وطريقةُ كلامِ شخصٍ ما، وربّما يستوحي أشياء من أناس عرفهم، فيكتب هذه الشخصية في المسلسل. هذا على ما يبدو هو أسلوب عمل كثير من كتّاب المسلسلات اللبنانية. أما الأسلوب الآخر، أي أسلوب نهاد قلعي وكلّ كتّاب السيتكوم والمسلسلات الأميركية الناجحة، فهو مختلف تماماً: يستوحي الكاتب قصّة المسلسل وفكرته من تجارب ومواقف وأناس عرفهم وعاشرهم، أو رآهم وراقبهم. فتتكوّن لديه فكرةُ شخصيةٍ تشبه شخصاً أو أكثر من الذين عرفهم. وغالباً ما تكون شخصية المسلسل أو الفيلم مزيجاً غريباً من شخصين أو أكثر من الواقع. فيكتب وفي باله الأشخاص الذين عرفهم، بعد أن يضيف إليهم بهاراً وملحاً، مبالغةً من هنا وتغييراً من هناك.

ثانياً : لقد فقد الإنسان العربيّ بشكل عام، واللبنانيّ بشكل خاصّ، إيمانه بأنّ ما يعيشه كشخص عاديّ هو جديرٌ بالإهتمام وبالتحوّل إلى قصّة. بمعنى آخر: فقدنا نحن كلّنا ربما، الحسَّ الشعبيّ الحقيقيّ في مجال إبداع حكاياتنا، أو صُوِّر لنا هذا الحسّ على أنه غير جدير بالإهتمام. فتوجّهنا صوب إنتاجِ مسلسلات وأفلام تحاكي مباشرةً ما ينتجه الغرب المتحضّر في نظرنا. فقلّدناه بأسوأ الطرق وابتعدنا عما يشكّل خصوصيتنا، بعكس ما فعله «صح النوم». قلّدنا المسلسلات الأجنبية بإمكانات ضئيلة تُؤذي كلّ شيء: بدءاً من الممثلين والتقنيين والمخرجين المضطرين لتصوير حلقة بسرعة مخيفة لا تتيح لهم إلا «سلق» كلّ شيء، إلى الكتّاب الذين وضعوا في ذهنهم قصصاً غالباً ما تبدو غريبةً عن نبضنا وروحنا. بمعنى آخر: لا نستطيع إنتاج مسلسلات مشابهة لما نراه في بلاد تُخَصّصُ ميزانيات هائلة لهذه الأعمال. فنحن ليس لدينا حالياً هكذا تمويل. وفي نفس الوقت، صارت فكرتنا وصورتنا عن ذاتنا مضروبة مكسورة مشوّهة دونية. هكذا تأتي مسلسلاتنا بلا روح، وبلا ميزانية. فتفشل.

أما «صحّ النوم»، فلقد جاء عكس هذين التوجّهين: لم يكلّف كثيراً لأنه صُوّر في استديو (وفي لبنان!) وبإمكانات محدودة في حينها. واستوحى قصصه وشخصياته من الناس ومن العيش في حارات سوريا في ذلك الحين. فلعلّنا نحتذي بما قدّمه، هو وغيره من المسلسلات الناجحة، من كتابة كوميدية شعبية، ومن شخصيات إجتماعية ريادية، ومن تواضع في الإنتاج. فنرى مجدداً على شاشاتنا أعمالاً من هذا المستوى.

المصدر: ليلى الخطيب توما - الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...