«فيينا نهايات القرن»: صورة زاهية لعالم يموت وأخرى قاسية لعالم يولد

03-11-2012

«فيينا نهايات القرن»: صورة زاهية لعالم يموت وأخرى قاسية لعالم يولد

ينتهي الكاتب من تسطير الكلمات الأخيرة على الورقة.. يقرأ الصفحة الأخيرة بعناية، ثم يضعها فوق عشرات الصفحات الأخرى، بعناية ايضاً.. يمسك المخطوطة بين يديه وينظر إليها بإعجاب شديد، يضعها على الطاولة، يتجه نحو النافذة وينظر الى المدينة: ساحة تضج بالحركة والناس، عصر يضج بالحركة والناس، أزقة تضج بالحركة والناس. يعود الى الطاولة ينظر الى المخطوطة من جديد، يتناول ورقة بيضاء وقلماً، يخط بعض الكلمات وهو يبتسم.. ويبتسم، لكن في عينيه شيئاً من قلق غامض. يطوي الورقة التي خطّ عليها كلماته الأخيرة ثم يسوّي من هندامه بعض الشيء. ويخرج من الغرفة، فمن المنزل الغارق في صمته، فمن البناية الغارقة في لونها الرمادي. فمن الزقاق. فمن الشارع... ويبدأ جولة في المدينة: فيينا، عند نهايات القرن الماضي، إنها تماماً كما شاهدها من نافذته، تعبق بالحركة وبالضجيج. لكنه هنا عن قرب لاحظ أن اللونين الرمادي والبني الشاحبين يغلفان كل شيء. ولاحظ أن عيون الناس تبدو على حقيقتها أقل اطمئناناً، وأكثر قلقاً. عيون ذكرته بالعيون الخائفة في لوحات الهولندي بروغل. ولكن لماذا تراه يبتعد: إنها تذكره أيضاً بعينين رآهما قبل دقائق في مرآة غرفته... وبالعيون التي تملأ صفحات مخطوطته. إنها عيون في فيينا عند نهايات القرن التاسع عشر. يحس الكاتب فجأة بسأم شديد. يعود أدراجه من دون أن يحاول أن يلقي نظرة أخرى على الناس في المدينة، يعود إلى بنايته الرمادية، فشقته الصامتة، فغرفته... من فوره يفتح درجاً يتناول من الدرج شيئاً يقربه من صدغه ويطلق الطلقة الأخيرة: في عينيه خوف ورعب... ولكن على شفتيه ابتسامة صفراء.

> إنها فيينا. في الخارج تصخب بالحياة. لكنها حياة موقتة جداً. هي بالأحرى حياة نهايات العالم. ربما ألوف الناس الذين كانوا يتجولون في الشوارع والساحات يومها، كانوا ساهين عن واقع أن هناك نهاية ما تقترب، لكن الكتّاب والفنانين لم يكونوا يحدسون بالأمر فقط، بل كانت كتاباتهم وحياتهم وموتهم جزءاً من ذلك الحدس وقد تحوّل إلى واقع، ففي فيينا يومها كان يولد القرن العشرون كله. ولأن كل ولادة هي موت يحدث وموت آخر يبدأ سيرورته، كان واضحاً للكتاب والفنانين أن ولادة القرن الجديد، ولادة الحداثة، هي من يحمل الموت لمدينة ولد كل شيء من رحمها.

> صورة فيينا هذه تمكَّن كتاب جامع صدر العام 1980 من ان يلتقطها تماماً. كان عنوانه «فيينا نهاية القرن» وقد نال عليه كاتبه المؤرخ كارل شورسكي جائزة بوليتزر في العام التالي. ويضعنا الكتاب مباشرة في مواجهة تلك الحقبة... ولنقل: في مواجهة حلم الحداثة، أو في مواجهة طفولة القرن التالي، ففي فيينا، في مناخ النهايات، ولد كل ذلك الشيء الكبير الذي سيطلق عليه المؤرخون في ما بعد اسم الحداثة: والحداثة هنا هي الابتكار، بمعنى انه من الصعب أن نقول إن ما كان يولد في رحم تلك المدينة آنذاك، كان يولد من تيارات أو مدارس أخرى في مجالاته الإبداعية، فالإبداع كما ولد في عاصمة الإمبراطورية النمساوية/ الهنغارية، لم يكن نقطة ذروة مثلاً، في مسيرة ابداعية: كليمت، وشيل، وكوكوشكا والآخرون، لم يكونوا الاستمرار الطبيعي لتيارات فنية سبقتهم، حتى ولو كانوا الركيزة التي على أساسها قامت التيارات الفنية التي لحقتهم. وهذا الذي يمكن أن يقال عن الفن التشكيلي ينطبق كذلك على العمارة وعلى الأدب والشعر والفكر ومجال التحليل النفسي...

> في فيينا في ذلك العصر كان الجديد الأول يكمن في أن كل النتاجات الذهنية (من فكر وفن وأدب) إنما تولدت من فلسفة جديدة ونظرة إلى العالم مختلفة عن كل نظرة سابقة له. من هنا كان من الطبيعي أن يتحقق في حيز فيينا الثقافي ذلك الالتحام الذي حلم به الفلاسفة طويلاً منذ أرسطو، بين الفنون والآداب والعلوم وشتى ضروب الفكر والعمران.. تحقق الالتحام عبر نظرة جماعية إلى العالم، وفلسفة تنظر إلى الإنسان، مرة أخرى، في ارتباطه بالمدينة كمكان وبالانعطافة بين القرنين كزمان. في هذا المعنى يمكننا أن نقول بأن ما تحدث عنه هيغل مطولاً حول ارتباط المواطن الإغريقي (في أثينا وأسبارطة خاصة) بالمدينة وبعمرانها وفنونها، كارتباط بمثل أعلى يغيّب قلق الموت عن الذهن، هذا الأمر يحقق ما يبدو شديد الشبه به، ولو فقط على صعيد علاقة المثقفين بالمدينة. ففي فيينا، كانت المدينة بشموخها وغموضها. بميتافيزيقيتها وعاديتها، بإنسانها اللاهي وإنسانها القلق، كانت هي العالم الصغير الذي شكل لفئة مميزة من البشر مرجعيةً وربما مثلاً أعلى. وذلك الارتباط الحتمي للمنتوج الثقافي بالمدينة كان هو الذي أعطى لفيينا نهايات القرن التاسع عشر، ذلك الطابع الفريد.

> اذا كانت مسرحيات هوفمنشتال، وروايات شتيفان تسفايغ، وقصص شنيتزلر، وابتكار فرويد للتحليل النفسي. وكتابات ورثة فرويد وحوارييه... اذا كانت كلها قد أمضت في لحظة أو في أخرى في تعرية الإنسان من ثوب السعادة الوهمي الذي ارتداه في غفلة عن حقيقته، فإن اللوحات التي راح ثلاثي فيينا (كليمت وشيل وكوكوشكا) يرسمها، أمعنت في إعطاء ذلك الكشف العنيف طابعه البصري... وليس فقط عبر الموضوعات المرسومة. بل يمكن القول إن الموضوعات كانت إذاك أضأل ما ينبغي الاحتفاء به... لأن لعبة الكشف تقوم في مكان آخر: في ذلك التزيين والتخطيط المبالغ فيه. في ذلك الكمون الغامض للموت في ثنايا الوجوه التي تحاول الابتسام (شيل) الموت عبر العري وانحناءات الأجساد وكأنها تلقت الطعنة النهائية (شيل كذلك)، والموت عبر العيون الشاخصة في تحدٍّ نحو رائي اللوحة (لوحات غوستاف كليمت)، او ذلك السواد العنيف وخطوط الزاوية التي تميز حركة الشخصيات والأشياء (كما في لوحات كوكوشكا.. وطبعاً نحكي هنا عن مرحلته الفييناوية، قبل أن ينتقل إلى الخارج ويتحول إلى التجريد ويكاد يصبح منسياً حتى رحيله). إنه الموت العادي، للوهلة الأولى، في فيينا العادية جداً: فيينا القطار الكهربائي ومقاهي الرصيف وفالسات آل شتراوس، والبدايات الخجولة للحس التعبيري في سينما تعيش أولى ولاداتها، وفي مسرح يعيش أواخر أيامه الذهنية. والموت العادي وقد صار جزءاً من الجنس العادي في كتابات فرويد وتفسيره للأحلام وفي كتاباته عن هاملت وعن قلق الحضارة، وعن الجنس والموت. الموت العادي يغمر كل شيء، ويرتاح في نظرات داناي (في لوحة كليمت) بل ووراء أغصان الغابة (في لوحة أخرى لكليمت) وفي أحشاء المرأة الحامل ووجوه الموتى وراءها (في لوحة ثالثة لكليمت). هذا الموت نفسه هو الذي نراه كامناً في تحركات شخصيات قصص شنيتزلر وهرمان بروخ. وإذا كان الموت يكمن خلف لوحات ثلاثي فيينا وفي ثنايا هواجس فرويد وأعماله، وفي نهايات بعض أفضل الأعمال الأدبية التي خلفها لنا ذلك العصر، فإن انحطاطاً يشبه الموت وينافسه في عنفه وقتله، سيلوح لمن ينظر الى نهايات روايات وقصص شتيفن تسفايغ، كما في موسيقى شونبرغ وآلبن برغ وفيبرن.

> في كل حديث عن فيينا، يجد المرء نفسه أمام عالم كامل: بدءاً بالمفروشات المنزلية الى ستائر النوافذ، الى السيارات الأولى الى الأشرطة التي تحكي لنا المدينة وحياتها العادية في تلك الأثناء، الى اللوحات الفنية فنماذج المخطوطات والكتب والمجلات. ولعل الملاحظة الأولى التي يستخلصها المرء من هذه الجولة البانورامية تكمن في ذلك الالتحام الذي يربط بين مختلف أشياء فيينا: فهنا أمامنا أشياء ومنتوجات تبدو متلازمة بعضها مع بعض، ولا يبدو أي منها وليد صدفة من الصدف، تبدو وكأنها تنويعات على عالم واحد، عالم يعيش انطلاقاً من نظرة أحادية إلى العالم... نظرة لا ترى من العالم، كما أسلفنا، سوى نهاياته المقبلة في تسارع مدهش.

> لكن فيينا اخترعت كذلك ما هو أبعد من ذلك كله وأخطر، اخترعت التيار الذي سيكون أخطر ما يؤثر سلباً على مسيرة الإنسان في القرن العشرين: ففي فيينا نفسها كان يولد وينمو في تلك الآونة بالذات ادولف هتلر، وتولد معه نازيته التي كادت تدمر نصف حضارة العالم، لكن هذه حكاية أخرى طبعاً.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...