أبطال الارتياب
في مستهل كتابه «فرويد والفلسفة» يلفت ريكور الانتباه إلى الشخصيات المحورية الثلاث (ماركس ونيتشه وفرويد) الذين حاولوا، كلٌّ من زاويته الخاصة، إزالة الأقنعة وفضح الزيف وكشف الباطن الحقيقي من الظاهر السطحي، ويبدو أن الارتياب الذي مارسه هؤلاء الثلاثة يمثل نماذج شارحةً لهرمنيوطيقا ريكور نفسه، ومن ثم تجدر دراستهم إذا شئنا أن نفهم تأويليته حق الفهم، لقد حاول كل واحدٍ من هؤلاء أن يعثر على المعنى الحقيقي للعقيدة بواسطة نزع المعنى الزائف وتعريته، أما تحليل ماركس للعقيدة فقد أفضى به إلى نتيجةٍ مؤداها أنه بينما تبدو العقيدة معنيةً بموضوعاتٍ رفيعةٍ من السمو الروحي والخلاص الشخصي فقد كانت وظيفتها في حقيقة الأمر هي التعتيم على الأحوال غير الإنسانية للعمل الإنساني، وجعل البؤس الحياتي أكثر احتمالًا، وبهذه الطريقة كانت العقيدة تُستخدم كأفيونٍ للشعوب، وأما نيتشه فقد اعتبر الهدف الحقيقي للعقيدة هو أن ترفع الضعفاء إلى موقع قوة، وتجعل من الضعف فضيلة، وهو هدفٌ يكذِّب هدفها الظاهري، وهو أن تجعل الحياة أكثر احتمالًا بالنسبة للضعفاء والطغام، وذلك بتدعيم فضائل من قبيل الشفقة والكدح والتواضع والود وغير ذلك مما أسماه «أخلاق العبيد»، هكذا أزال نيتشه القناع عن العقيدة وكشف أنها مهرب الضعفاء وملجأ العجزة.
وأما فرويد، وقد مارس نفس العملية الارتيابية التي تعمد إلى إزالة الأقنعة وكشف الحقيقي من السطحي، فقد خلص في تحليله إلى أنه بينما تُدرَك العقيدة كمصدرٍ مشروع للسكينة والأمل عندما يواجه المرء مصاعب الحياة فإنها في حقيقة الأمر وهمٌ لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن رغبة المرء في «أب-إله»، هكذا قدم رءوس الارتياب نماذج واضحةً للشك في العقيدة والثقافة، وبقي على ريكور أن يطبق المبدأ نفسه على فعل التواصل تحت عنوان «هرمنيوطيقا الارتياب» Hermeneutics of suspicion ولم يكن خافيًا على ريكور أن هؤلاء الارتيابيين الثلاثة لم يكونوا بأية حال من أصحاب «مذهب الشك» Skepticism من أمثال فيرون وزينون الإيلي والأكاديميين الجدد، ذلك أنهم بينما يمارسون هدم الأفكار الراسخة، فقد كان ثلاثتهم في حقيقة الأمر يقومون ﺑ «تنقية الأفق من أجل عالمٍ أكثر أصالة، وحكمٍ جديدٍ للحقيقة، لا من طريق النقد الهدمي فحسب، بل بابتكار فنٍّ للتأويل»، وكان ثلاثتهم في حقيقة الأمر يفضحون الوعي الزائف والفهم الزائف ﻟ «النص» (المجتمع) بتطبيقٍ منظمٍ للنقد الارتيابي؛ لكي يخلصوا من ذلك إلى فهمٍ صادقٍ للأمور في بواطنها وإدراكٍ للحقيقة كما هي دون تنكرٍ ودون أقنعة، لقد كان ثلاثتهم، عند ريكور، يمثلون ثلاثة طرائق متقاربةٍ لكشف الزيف
عندما تُطَبَّق مثل هذه الهرمنيوطيقا على نصٍّ من النصوص فإنها تفضي إلى إمكان الوصول إلى ما أسماه ريكور «براءة ثانية» Second Naivete والتي يمكن بواسطتها تحقيق هدف التأويل وهو إيجاد «عالمٍ أمام النص، عالمٍ يفتح إمكاناتٍ جديدةً للوجود»، إن من أيسر الأمور وأكثرها رجحانًا عندما يقرأ المرء نصًّا من النصوص (وليكن نصًّا إنجيليًّا)، وبخاصة إذا كان نصًّا مألوفًا، أن يفعل ذلك بتصلبٍ ورضا ذاتي يميل إلى «تجميد» معنى النص تجميدًا لا رجعة فيه، ويبدو أن مقاربة النص بارتياب معين — أي بتساؤلٍ عما إذا كان ما يبدو أن النص يقوله هو مطابقٌ حقًّا لرسالته الحقيقية التي يريد إبلاغها — هو عمليةٌ تأويليةٌ صحيحةٌ وضروريةٌ أيضًا.
ثمة نقطة أخرى أوضحها أساتذة الارتياب الثلاثة وهي أن الارتياب يجب أن يكون مزدوجًا يتوجه إلى المشاركين (المجتمع بصفة عامة أو أفراد المجتمع) وإلى النسق (العقيدة)، كذلك يجب أن يكون الارتياب مزدوجًا في تناول أي نص من النصوص، فعندما أُقارب نصًّا ما يلزمني أن أطبق الارتياب على نفسي (هل أقوم بإقحام معنى ما على النص؟) وأن أطبق الارتياب على النص (هل يقول النص ذلك حقًّا؟) يقول ريكور إن كلا قطبي الارتياب صحيحٌ وضروري إذا شئنا أن نصغي إصغاءً جديدًا لما يريد الرب أن يقوله لنا، والحق أن ريكور لا يعدو في هذا الأمر أن يذكرنا — وإن يكن ذلك بطريقةٍ شائقة من غير شك — بحقيقة «الدائرة التأويلية» العتيدة، علينا أن نقارب النص بطريقة نقدية وارتيابية حتى يتسنى لنا أن نسمع رسالته وبلاغه، وحتى لا ندع فهمنا المسبق وقناعاتنا المسبقة تغشي على الحقيقة وتحجبها.
عادل مصطفى
الكتاب: فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا:
نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر (٢٠٠٣)
إضافة تعليق جديد