أدب السجون في سوريا
قد تمر عشر سنين أو عشرون، وربما أكثر من ذلك بكثير، قبل ان يأتي يوم تصير فيه الكتب التي ترصد حياة السجون وتجارب الاعتقال في سوريا أدب سجون حقيقياً، وتتحول من مسرح لكشف الانكسارات والهزائم واستعراض البطولة في مواجهة الطغاة، إلى كتب تُطبَّق عليها معايير الروايات والمؤلفات الأخرى. عندذاك، ويا للأسف، ربما يسقط قسم كبير منها ويصير مجرد حبر على ورق. حقيقة ستكون محزنة حقاً، لكن هذه الحقيقة يصنعها الكتّاب أنفسهم، كنتيجة حتمية، في رأيي، لوقوعهم تحت ضغط الديكتاتوريات، وربما لاعتقادهم أن كتابة وقائع حقيقية على شكل كتاب أدبي، أي كرواية تخييلية، سيحول دون اعتبارها وثيقة قد يحاسبهم عليها الطاغية. لكن من أين لذلك أن يختبىء أو ينجو من المساءلة، فشخصيات السجون هم الرفاق أو معتقلو الإيديولوجيات الأخرى. أما جواب الكتّاب فجاهز: أدب السجون رواية وليست سيرة ذاتية. وهنا الطامة الكبرى.
قلائل في سوريا كتبوا عن تجربة السجن من دون أن يعيشوها، وخصوصاً أيام المد "النضالي"! "السجن" للروائي نبيل سليمان من أوائل الروايات التي خاضت في المسألة، ثم روايته "سمر الليالي". ولا يزال ثمة كتّاب حتى اليوم يكتبون السجن وأجواءه من دون أن يعيشوه، مثلما فعل خالد خليفة في روايته "مديح الكراهية". لكن أن يكتب سجين كتاباً عن السجن فأمر مختلف كلياً وخصوصاً عندما تتكشف اللغة عن أداة عاجزة أمام سطوة الواقع الحقيقي، فتقول دائماً أقل مما نحسّ أو نريد، وتخرج إلى القارئ أقل بكثير مما نزفته أو تنزفه أرواحنا.
في السبعينات افتتح إبراهيم صموئيل أدب السجون الحديث في سوريا، بمجموعاته القصصية الثلاث، "رائحة الخطو الثقيل"، "النحنحات" و"الوعر الأزرق". كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّق، الأمر الذي جعل تلك القصص بمثابة مانيفست عن السجون السورية، لا تزال الأيدي تتداوله حتى اليوم. ثم انقطعت الكتابات عن السجن طوال الثمانينات حتى أواخر التسعينات، لتعود حسيبة عبد الرحمن فتفتتح مرحلة أخرى بروايتها "الشرنقة" التي صدرت عام 1998. لكن "الشرنقة" التي حددت عبد الرحمن جنسها إذ سمّتها رواية، قد ظلمتها للغاية، لأن اعتبارها هذا جعل النقاد يحاسبونها على هذا الأساس، وليس كونها يوميات ذات حساسية عالية عن تجربة السجن المقيتة. تفتقر "الشرنقة" في اعتقادي الى بعض مميزات الرواية، من تماسك الشخصيات وتطور الحوادث ولغة القص وما إلى ذلك، كما أنها تقع في فخ أحكام القيمة التي تعج بها الرواية. على الرغم من ذلك سيسجل التاريخ الأدبي لحسيبة عبد الرحمن جرأتها التي قل مثيلها، وخصوصاً لجهة كونها أول معتقلة سورية تكتب السجن بلغة أنثى، لم تكترث بكل الضغط الأمني المحيط بها.
أصدر مالك داغستاني "دوار الحرية" عام 2002 عن "دار البلد"، لكن كتابه ظل طي الصمت حتى اليوم. سمّى نصه "لعبة" رغم أنه ينطوي على أدب سجون حقيقي، ويمكن اعتباره رواية. نص واحد متماسك، تندفن فيه تفاصيل المعتقل المشحونة والمكثفة بشكل لماح وغير مباشر، وقد كتبه كرواية مفترضة لحوادث مفترضة، نسجها سجين في عتمة الأقبية، وقصها كما أملى عليه تخييله الخصب، في محاولة حثيثة لاستعارة المكان والزمان، وتحويل محكمة أمن الدولة، التي يخضع للمحاكمة فيها، إلى حديقة، وبرد السجون إلى دفء العشق، وغياب المرأة إلى جسد حبيبة يحضر بكل سطوة الأنثى وهيمنتها. يقول داغستاني في أحد المقاطع: "إن الكتابة كالحب تماماً، فعل مبرر بذاته، إنه أولاً وقبل كل شيء فعل حرية، ولا يحتاج إلى التبرير من خارجه". جملة أجدها غاية في الدلالة، وقد تنسحب على كل ما يمكن أن يكتب في أدب السجون.
لكن إلى أي حد استطاعت الكتابات عن السجن في سوريا أن ترقى إلى مستوى الكتابة المبررة في ذاتها، أو أن تكون فعل حرية بحق؟!
هبة دباغ افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها "خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا" في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. إلى الآن كانت كتابات السجون في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب هبة الدباغ هو الأول تصدره معتقلة "إخوانية" عن تجربتها، بعدما أصدر محمد سليم حماد، وهو شاب أردني سجن في سوريا، كتابه "تدمر... شاهد مشهود" عام 1998. لكن كتاب دباغ الذي لم يوسم بأنه رواية، كان مليئاً بالمبالغات والشطحات التي أثرت على صدقيته، كأن ينبت لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، أو أن يلتصق جلبابها بجسدها كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. يضج الكتاب بمثل هذه المبالغات، كما أنه يمتلىء بالنظرة السلبية إلى الآخر الذي لا يماثلنا في اعتقاده أو إيديولوجيته. الآخر دائماً سيىء في كتاب هبة دباغ. على الرغم من ذلك تقدم الكاتبة وثيقة صادمة لم يتم فضحها قبلاً، حتى لو اضطررنا الى حذف نصفها.
وجد مصطفى خليفة الحل بإصدار كتابه عن السجن،"القوقعة - يوميات متلصص"، بالفرنسية وفي باريس أيضاً. أول ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين، بالعربية، الالتفاف حول الحقيقة، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية، ويبدو أنها لن تطبع في وقت قريب.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه "الفقد" سنة 2006، معتبراً إياه "حكايات متخيلة لسجين حقيقي"، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل، رغم قلتها، موحية ومؤثرة.
خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ روايتها "عينك على السفينة"، وقد ظلمت كتابها حين سمّته رواية. فعلى الرغم من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة التي تنتشر على طول صفحات الكتاب، ومع أن الكاتبة بذلت جهوداً حثيثة لتحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، فإن الاستعاضة عن الأسماء الحقيقية بأسماء مستعارة لا يحقق المطلوب، وهو خلق مسافة بين الراوي والحادث، ولم يكن ذلك كافياً لحقن الشخصيات بالدلالة، ولا لحقن النص بشحنة روائية خاصة، ذلك أن النص وقع في كثير من الأحيان في فخ المباشرة الشديدة والآراء المنجزة التي دفعتها مي الحافظ في وجه القارئ بشكل صادم. إضافة إلى أن لغة الرواية، وهنا مشكلتها الكبرى، لم ترق إلى لغة القص وهي تنوء بالأخطاء، مما يحوّلها من رواية إلى مشروع نص لا غير.
لطالما ناوشتني في هذا الموضوع تساؤلات عدة: لِمَ الكتابة عن السجن، وهل يحقق النص الجمال المطلوب، وهل سأغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟ يرى إيتالو كالفينو أننا "في الكتابة في حاجة إلى تركيز فولكان، الإله الحداد القابع في فوهات البراكين، وحرفيته المهنية لتسجيل مغامرات عطارد، الإله الخفيف الرشيق بقدميه المجنحتين". أسمح لنفسي بأن أستعير قول كالفينو هذا في معرض الحديث عن أدب السجون: كم نحن في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية وإلى نحت الكلمات كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا. وكم نحن في حاجة إلى ألم السجن وتجربته المشدودة كوتر في أعماقنا كي نهب اللغة تلك الحقنة من الواقعية المؤلمة الى حد الإنهاك!
روزا ياسين حسن
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد