أدونيس: (فرس اسمها الموت)
ـ1ـ
< يحلم أن يرى في أيّة مركبةٍ فضائيّةٍ أثراً من اللغة التي خلّدها امرؤ القيس. أن يرى، على الأقلّ، أيّ منديلٍ تركَتْه أيٌّ من عشيقاته في أيّة
خيمةٍ من خيامهنّ.
ـ2ـ
أخذ من الثورة فرَساً سمّاها الموت،
أخذ من الموت فرَساً وقال: كوني بابَ السّماء.
ملاكٌ إلكترونيّ
يفتح الباب.
ـ3ـ
نعم، بيتي في هذا العالم السياسيّ السائدِ قائمٌ في كلمة : «لا».
ـ4ـ
جسورٌ عاليةٌ وخاصّةٌ تملأ جُزُرَ هذا العالم،
لكن لا يقدر أن يعبرَ عليها إلاّ مهاجرون استضافَتْهمُ السّماء.
ـ5ـ
نحن العرب الآن، نتهيّأُ ونتجيّشُ لكي نسافرَ جميعاً، غالبين ومغلوبين، في غيمةٍ واحدةٍ
نحو الغيب.
ـ6ـ
يحبّ أن يلمس طرفَ المقعد الذي جلست عليه بياتريس في جحيم دانتي.
ولَكَم يتمنّى أيضاً أن يكون جزءاً من الظلّ الذي رافق جسدَ أورفيوس وهو يهبط إلى جحيم أوريديس.
ـ7ـ
كان ذلك مفاجأةً كبيرةً لم أتوقّعها. أخذ صديقي يَقْبلُ كلّيّاً ما كان يرفضه كلّيّاً:
صار يؤمن، مثلاً، أنّ الكتابةَ نفسها في هذا العالم الحديث ليست في معظمها إلاّ نوعاً من التلوّث.
ـ8ـ
هل أنتَ الأقوى ضجيجاً؟ هل أنت الأكثر قدرةً على الافتراء؟
إذاً، أينما ذهبتَ، أينما حَلَلْتَ، ستكون في استقبالك حشودٌ إلكترونيّة ضخمة.
ـ9ـ
يُرتَهَنُ الفردُ للجمع الذي ينتمي إليه،
يُرتَهَنُ الجمعُ للسلطة التي ينتمي إليها،
تُرتَهَنُ السلطةُ لكرسيٍّ غامضٍ منيعٍ لا يُقهَر، كأنّه الغبار.
ـ10ـ
قُبَيْل أن يصل المتنبّي إلى المكان الذي قُتِل فيه (هو وابنُه الوحيد مُحَسَّد)، كان الليلُ قد ازداد ظلاماً حتى لم يعُد ممكِناً أن يرى السّائرُ كيف تطأ قدماه الأرض.
سار المتنبّي ولم يشأْ أن يتنبّأَ بالطريق التي يسلكها إلى ما يأتي، ولا بما سيأتي. كأنّه أراد أن يضع نبوءاته في صندوق وأن يُحكِمَ إغلاقه، راجياً الملاك جبريل أن يحمله بين جناحيه، إذا طرأ ما يقتضي ذلك.
كانت الظلمة هي أيضاً قد اشتدّت. القمر نفسه شكا هذه الظّلمة إلى أصدقائه.
لم يكن المتنبّي يتوقّف عن الرّغبة في أن يرى ويعرف، ويختبر كلّ ما يُتيحه العالم. أن يختبر خصوصاً هذا العالم الذي أُلقيَ فيه دون إرادته. دائماً إلى أبعد، ولو كان في ذلك موتُه.
وكان في ذلك موته.
ـ11ـ
احتفاءً بقلبٍ عربيّ ينبض بالحبّ،
طارت صخرةٌ، وبكَت شجرة، ورقصتْ ناقةٌ.
ـ12ـ
أنتِ أيتها الكلمات التي تحوّم في الأمكنة، مُثقَلَةً بالجثث، من أين تأتين بأجنحتك؟
ـ13ـ
نزل الصّيفُ ضيفاً على الرّبيع،
لكن، فجأةً غدَرَ به، وذبَحهُ.
ذُعِرت الأيّام
وأخذت تدقّ الأجراس.
ـ14ـ
اليوم، ينسلخ بشرٌ كثيرون من أجسامهم، بفعل الشّراب الإلكترونيّ الخاصّ بسرعة التّواصل،
ينسلخون حبّاً في اختزالها إلى مجرّد آذانٍ مُرهَفَةٍ ولاقطة وغير مرئيّةٍ تسبَح في الفضاء.
ـ15ـ
بِشَغَفٍ ينظر الآن إلى القمر،
يهبط إلى بحيرة الليل،
لكي يزور صديقته السّمكة التي يكاد أن ينسى اسمها.
ـ16ـ
عجباً، أيّها الأخُ الكاتب!
لماذا تحشد هذه الحروفَ كلَّها، إضافةً إلى المعاجم المتخصّصة،
من أجل أن تحتفل بكتابة كلمةٍ واحدة
تتألّف من حرفين اثنين؟
ـ17ـ
فرش الليلُ السّريرَ الذي كان يخفيه عنّي من زمن طويلٍ،
وقدّمه لذاتيَ الخفيّة لكي تنام فيه.
هكذا رُحْتُ أبحث عن سريرٍ آخر أقدّمه لجسديَ الخفيّ.
ـ18ـ
حشْدٌ من الغيوم يتقدّم نحو نجمة الصّباح. حجرٌ أبيض في الحديقة ينام تحت وسادته عقربٌ أسود.
غير أنّ الطبيعة، اليوم، تُعَيِّد احتفاءً بأبنائها الذين يتحدّرون من الأب، الزّوج الأوّل، الرّبيع.
لكن، لماذا يتّجه القمر بخطواتٍ سريعة إلى الغياب؟
ـ19ـ
بدأ خرَفٌ طارت أسنانُه يدبّ إلى أحشاء تاريخه:
شرايينُه غدرانٌ ومستنقعاتٌ،
وأعضاؤه تباريح.
ـ20ـ
زمنٌ - جدرانٌ سودٌ:
من جانبٍ تحرسها عيونٌ حمرٌ
والجانب الآخرُ حُرّاسٌ غيرُ منظورين:
الرّملُ نفسه يضطرب ويثور، ويكاد أن يلتهمَ حتّى صديقته الرّيح.
ـ21ـ
فجأةً، وخرقاً للعادات كلّها،
قرّر الياسمين الدمشقيّ أن ينفصل عن عطره.
المسألةُ الآن، هي: كيف يتبرّأ منه؟
ـ22ـ
جسمٌ معطوفٌ
(يكتبه الكتابُ نفسُه)
جسمٌ معقوفٌ
(يقرؤه الكتابُ نفسه)
جسمٌ يُقطَع ويُشَوَّه
(يعزّيه الكتابُ نفسُه)
جسمٌ عاشقٌ
(يدخل في عراكٍ مع الكتاب نفسه)
ـ جسمٌ جديدٌ ... آتٍ،
ـ لا تُكملْ. هل يمكن أن يأتي إلاّ في الإنبيق ذاته الذي يخرج من كيمياء الكتاب نفسه؟
ـ23ـ
اشتعلَت النّارُ المُنتَظَرة.
تمتزج في دخانها رائحةُ الجثث التي تحترق برائحة
كبريتٍ.
ـ24ـ
امتلأ نهرُ الفرات بعرائس مياهٍ كنّ، قبل هذا التحوّل نساءً سُبينَ واغتُصِبنَ.
إلى الأبد يَسْبَحنَ في النّهر وفي فم كلٍّ منهنّ لؤلؤةٌ.
الخوف الآنَ هو أن يمتلئ هذا النّهر بقوارب من كلّ صوبٍ
بحثاً عنهنّ لصيدهنّ من جديد، خصوصاً لِصَيْد اللؤلؤ.
سيفٌ عثمانيٌّ يحرس كرسيّ النّهر.
ـ25ـ
صارت البحارُ كلُّها حمراء.
من أيٍّ منها تخرجُ هذه الأعاصيرُ السوداء؟
ـ26ـ
ثلاثَ مرّاتٍ، في الليل، مرّ القطارُ إيّاه، ولم أصعدْ.
أكان هنالك شيءٌ يلهيني؟
أم كان هنالك شيءٌ يستبقيني؟
ـ27ـ
لذلك الجبل شكلُ النّهدين.
يذكِّر بجبل النّهدين الذي يشرف على جَسد صنعاء.
هنالك في ظلِّه. التقينا.
وكان ذلك لقاءنا الأوّل.
ـ28ـ
نسيتُ أحلامي الأخيرة وأزهارَها
في تلك السّلّة التي كانت تتدلّى من شرفة القمر في ليل صنّين.
كان ذلك في زيارتي الأخيرة.
ـ29ـ
إنّه الصّباح.
غير أنّ المكانَ لا يزال يلتحف بالأرَق.
هل يعرف التاريخ ماذا يؤرّقه؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد