أسرار اغتيال باتريس لومومبا تاريخ جدير بالقراءة
الجمل ـ سعيد زكريا : حوالي الساعة العاشرة ليلاً، دُفع بالسجناء في سيارة من الموكب المؤلف من أربع سيارات أمريكية وسيارتي جيب. كان السجناء جميعهم من المسؤولين السابقين في حكومة الكونغو السابقة: رئيس الوزراء باتريس لومومبا (36 سنة)، جوزف أُكيتُ (50 سنة) نائب رئيس مجلس الشيوخ، موريس مُبُل (32 سنة) وزير الرياضة والشباب، وكان رئيس أركان الجيش الكونغولي لفترة قصيرة.
في السيارات الثلاث الأولى كان الرئيس تشومبي وعدة وزراء من حكومة كتنغا، وفي السيارة الرابعة اللفتننت البلجيكي غات ويقودها المفوض فرشير. والسجناء في الخلف مقيدون بالسلاسل، وفي السيارة الخامسة عناصر من الشرطة العسكرية. انعطف الموكب نحو اليمين تجاه مفرق الطريق القريب، وبعد عدة مئات من الأمتار، أخذ مساراً ضيقاً إلى اليسار، يؤدي إلى الطريق الذي يصل لوانو باليزابتفيل. انطلقت السيارات الأمريكية بسرعة، ووصلوا إلى مفترق طرق، وتابعوا في درب إلى اليمين تؤدي إلى موادينغوشا المشهورة بشلالاتها، وهي منطقة مستنقعية وموطن لأسراب الطيور. وعلى بعد ثلاثمائة متر منها، وصل الموكب إلى فسحة في الأراضي المشجرة. كانت الساعة العاشرة وخمسة وأربعين دقيقة ليلاً؛ استغرقت مسافة الخمسين كيلومتراً أقل من 45 دقيقة.
كانت البقعة منارة بالأضواء الأمامية لسيارة الشرطة التي كان يسوقها المفوض فرشير، والتي وصلت أولاً. كانوا ينتظرون بقية الموكب. جرى اختيار تسعة من رجال الشرطة إضافة إلى الجنود التسعة للتنفيذ. كانت هناك شجرة مهيبة ترتفع إلى 10 أمتار ويبلغ قطرها 80 سنتيمتراً. لم يجد الجنود كثيراً من المشقة في حفر القبر لأن التربة كانت رملية ومفككة. خرج الجميع من سياراتهم وانضموا إلى الشرطة، ما عدا السجناء. تبادل اللفتننت غات بضع كلمات مع وزراء كَتَنغا الذين كانوا واقفين أمام القبر، كانوا في مزاج جيد وأطلقوا عدة نكات. كان أحدهم عصبياً يدخن السيجارة تلو الأخرى.
أُخرج السجناء من السيارة. كانوا حفاة لا يرتدون سوى بناطيلهم وستراتهم. أزال فرشير قيودهم، وسار وراء لومومبا الذي سأله: ستقتلوننا، أليس كذلك؟ رد فرشير ببساطة: نعم. تقبل لومومبا بجرأة إعلان موته الوشيك. وقف السجناء الثلاثة على الممر يحيط بهم الجنود ورجال الشرطة، كانوا قد تحملوا الضرب في الساعات السابقة. أخبرهم فرشير بأنهم سيطلقون عليهم الرصاص، وأعطاهم الوقت ليتلوا صلواتهم. لومومبا رفض العرض. في تلك الأثناء، استعدت فرقة إطلاق النار الأولى المكونة من جندين يحملان بندقيتين وشرطيين برشاشين، ويبدو أن أحداً ترنم بلحن محلي.
أخذ فرشير جوزف أُكيت إلى الشجرة، وأوقف عندها. قال أُكيت: أريد أن تعتنوا بزوجتي وأولادي في ليُبُلدفيل. أجابه: نحن في كتنغا ولسنا في ليو. اتكأ أُكيت على الشجرة ووجهه نحو فرقة القتل المستعدة على بعد 4 أمتار. وانهمر وابل قصير من الرصاص، سقط على أثره نائب رئيس مجلس الشيوخ السابق ميتاً. وجاء دور موريس مُبُل، أُسند إلى الشجرة، وكانت جولة جديدة من الرصاص من فرقة أخرى أسقطته أرضاَ. وأخيراً أقتيد لومومبا إلى طريق القبر، كان صامتاً مذهولاً تماماً وعيناه زائغتان، ولم يبد أية مقاومة، كان يرتجف. واجه زمرة القتل الثالثة ووابل هائل من الرصاص، وأصبح جسد رئيس الوزراء السابق كالغربال لكثرة ثقوب الرصاص.
بعد التنفيذ، كانت الأرض قد امتلأت بنحو نصف كيلوغرام من الرصاصات الفارغة. بعد سبع وعشرين سنة، كانت الشجرة لا تزال مثقبة بالرصاص.
أنجزت العملية كلها بحوالي خمس عشرة دقيقة . من كان المسؤول عن القتل؟ الوقائع السابقة تشير إلى المفوض فرشير. على أن فرشير قال في وقت لاحق بأن الضابط الأوربي اللفتننت غات كان يعطي الإشارات لفرق القتل. قبل عدة أشهر، كان لومومبا يعلم علم اليقين أنه قد كتب عليه الموت قتلاً، وقال: إذا مت غداً فسيكون السبب أن أبيض قد سلح أسود. مات لومومبا شاباً في سبيل الدفاع عن أمة عصرية.
في خمسينيات القرن الماضي تحولت حركة التحرر الوطني إلى تيار اكتسح البلدان المستعمرة الممتدة من جاكارتا في اندونيسيا إلى الدار البيضاء في المغرب العربي. كانت رياح التغيير قد هبت على القارة الإفريقية بعد تأميم قناة السويس، وشهدت خلال سنوات قليلة استقلال حوالي عشرين دولة. كان "الكونغو" البلد الأكبر والأكثر غنى في مصادر ثرواته. وقد قام الغرب من أجل مواجهة العائق الذي وضعه الاستقلال، بالتحضير لتغيير سياسته من الهيمنة السافرة إلى هيمنة غير مباشرة. وكان على القادة القوميين الجدد أن يتعلموا احترام نظام الاستعمار الجديد. على أن لومومبا سد الطريق إلى هذا الهدف، وبالتالي توجب ردعه. ولكي يحظى واضعو الاستراتيجية الاستعمارية الجديدة بتأييد الرأي العام، أثاروا سلسلة من الأهداف النبيلة. ومثلما سوغ من قبل الملك البلجيكي ليُبُلد الثاني احتلال الكونغو بزعمه أنه تحرير للإفريقيين من أيدي تجار العبيد العرب، وجرى تسويغ الاستثمار الاستعماري بأنه مشروع تمدين؛ أُعد بعد الاستقلال مخطط عسكري للإطاحة بحكومة القوميين الإفريقيين باسم حماية البلاد من الإمبريالية السوفيتية.
بالنسبة للكونغو، بدأت حرب المؤسسة البلجيكية على حكومة باتريس لومومبا الكونغولية الأولى، بعد أن نالت المستعمرة البلجيكية استقلالها يوم 30 حزيران 1960. نزل في الكونغو الجنود البلجيكيون أولاً وتبعهم أصحاب القبعات الزرق التي تعمل تحت غطاء الأمم المتحدة. كانوا مصممين على إسقاط الحكومة الوطنية وتأسيس نظام استعماري جديد، يشمل وضع البلاد تحت رحمة اتحادات الشركات الاحتكارية والشركات المتحكمة التي حكمتها عدة عقود. كسب الغرب أول فوز له في أيلول 1960 عندما أسقط الكولونيل موبوتو الحكومة الكونغولية والبرلمان. وحققت نصرها النهائي عندما وصلت الحرب على الوطنيين إلى حد الأزمة باغتيال لومومبا واثنان من أقرب رفاقه في كتنغا يوم السابع عشر من كانون الثاني 1961 بمساعدة القوات العسكرية والهيئة الحكومية البلجيكية. ولقد جرى التعتيم على هذه الجريمة مدة أربعين عاماً، وحرم الأفريقيون من معرفة القصة الحقيقية للإطاحة به، ليس بحادثة تصفيته جسدياً، بل في ألا تصبح حياته وعمله مصدر إلهام لشعوب إفريقية أيضاً. كان المطلوب محو رؤياه بخصوص خلق دولة لأمة موحدة واقتصاد يخدم الشعب. وما كاد جثمان لومومبا يبرد حتى وصفت صحيفة برُكسل اليومية "لاليبر بلجيك" الجريمة بأنها نتاج عدم النضج السياسي للكونغوليين: "ما توضح للأسف أنه في إفريقية وفي بعض البلدان ذات المستوى نفسه من النمو، لا يزال الوصول إلى الديمقراطية مسألة قاتلة". ولقد جرى تصوير الاغتيال على أنه مسألة كونغولية، تصفية حسابات بين شعوب البانتوس، ولا علاقة للغرب بالجريمة.
يهدف كتاب "أسرار اغتيال باتريس لومومبا" لـ" لودو دو فيته" إلى قلب هذه الحجة رأساً على عقب، ودحض القصة نفسها التي سردت أكثر من مرة عن طريق اللاعبين الدوليين الذين هندسوا عملية التدخل في الكونغو منذ البداية: حكومة ايسكنزا البلجيكية، الرئيسان الأمريكيان أيزنهاور وكيندي، وكبار موظفي الأمم المتحدة وعلى رأسهم الأمين العام داغ همرشُلد. يبرهن الباحث على أن لومومبا الرئيس المنتخب قد اغتيل بدعم من برُكسل وأذن منها، ويركز على الجانب البلجيكي القذر في العملية، وهو الجهة التي اتخذت القرار بقتله.
يستند دو فيته في بحثه، وعلى نحو رئيسي إلى فحص سجلات الأمم المتحدة المحفوظة في نيويورك والتي تعالج تدخل الأمم المتحدة في الكونغو بين عامي 1960/1964، والتي تظهر بوضوح تام أن قادة الأمم المتحدة دعموا الحرب التي شنتها القوات الغربية على حكومة لومومبا، بل وكانت في بعض الأحيان الأداة الطيعة للتدخل العسكري الذي مثَّل غزواً استعمارياً ثانياً. وكان لهذه العملية آثار سياسية وعواقب مأسوية امتدت نتائجها إلى جميع أنحاء إفريقية.
تعتبر الرسالة التي كتبها لومومبا إلى زوجته بولين قبل موته بوقت قصير وصيته السياسية، سجل فيها دليل نضاله المبدئي ضد الاستعمار الجديد، وإيمانه الراسخ بالانتصار النهائي ضد الاستعمار: "....خلال نضالي من أجل استقلال وطني، لم أشك لحظة واحدة أن القضية مقدسة، التي أوقف لها رفاقي وأنا حياتنا الكاملة، ستنتصر في النهاية. ما أردناه لبلادنا، حقها في حياة شريفة، وفي الكرامة الكاملة، والاستقلال من دون قيود..... لم تدفعني الهجمات الوحشية ولا المعاملة القاسية ولا التعذيب إلى التوسل طلباً للرحمة، لأنني أفضل أن أموت ورأسي عال، وإيماني راسخ، وثقتي بقدرة بلادي ثابتة؛ على أن أعيش في عبودية وازدراء للمبادئ المقدسة. سيقول التاريخ يوماً كلمته...."
سقط لومومبا ورفاقه مرفوعي الرؤوس. أما التاريخ، فهذا الكتاب جزء من التاريخ الحقيقي الذي بدأ يكتب، ويقول كلمته، وينصف أولئك الرجال الذين ضحوا بحياتهم في سبيل حرية شعوبهم.
الكتاب: أسرار اغتيال باتريس لومومبا.
المؤلف: لودو دو فيته.
المترجم: رزق الله بطرس.
الناشر: قدمس للنشر والتوزيع ـ دمشق.
الجمل
إضافة تعليق جديد