أطفال مدينة "كانو" النيجيرية ضحايا تجارب شركات الدواء
الجمل ـ د. ثائر دوري : قبل عدة أيام رفعت الحكومة النيجيرية دعوى على شركة صناعة الدواء pfizer و طالبتها بدفع 7 بلايين دولار كتعويضات لأسر و ضحايا التجارب غير المرخصة و غير الأخلاقية التي أجرتها تحت غطاء العمل الإنساني على الأطفال النيجيريين المصابين بالتهاب السحايا في مدينة كانو شمال نيجيريا عام 1996
تفاصيل القصة :
في عام 1996 انتشر وباء التهاب سحايا جرثومي ، و كوليرا ، و حصبة في مدينة كانو شمال نيجيريا ، و بعد ستة أسابيع من بداية الوباء أرسلت شركة pfizerفريق طبي بحجة المساعدة الإنسانية للعمل في مشفى كانو للأمراض المعدية ، و بجانبpfizerكان هناك منظمات إنسانية أخرى مثل "أطباء بلا حدود" و غيرها . اشتغلت هذه الفرق الطبية في ظروف سيئة، حيث تنقص الكهرباء و الماء عن كثير من أبنية المشفى، كما أن عدد المرضى الكبير أدى إلى اكتظاظ رهيب يفوق طاقة استيعاب المشفى ، فقد كان المرضى ينامون على أرضية المشفى.
باشرت أطباء بلا حدود علاج الأطفال المصابين بالتهاب السجايا الجرثومي بعقار أمين ، فعال تعتمده منظمة الصحة العالمية في حالات الأوبئة اسمه الكلورامفينيكول . أما pfizer فقد استغلت ظروف الكارثة الصحية لتبدأ تجاربها على عقار جديد من صنعها لم تم إجازته بعد من أجل الاستخدام البشري ، و يحمل هذا العقار اسم trovafloxacine ( تروفان) .
كانت الشركة للتو قد انتهت من تجربته على الحيوانات ، و قد أشارت التجارب على الحيوانات إلى آثار جانبية هامة محتمل أن تصيب الأطفال ، مثل أمراض المفاصل و خاصة التأثير على غضاريف الاتصال التي تشكل مناطق نمو العظام عند الأطفال و أي خلل بها قد يؤدي لتوقف نمو عظام الطفل، كما أن العقار في تلك التجارب الحيوانية سبب أذيات كبدية. و رغم كل تلك الأخطار بدأت pfizer تجاربها على البشر في كانو .
يشكل اختبار الدواء على البشر قبل طرحه في الأسواق خطوة أساسية على طريق إجازة الأدوية الجديدة ، فبعد اختباره في المختبر تنتقل الاختبارات إلى الحيوان و أخيراً إلى البشر. و بسبب خطورة الاختبارات على البشر من الناحية الأخلاقية و الصحية ، فقد وضعت ضوابط معقدة لها أولها و أهمها أن يوافق الشخص الذي سيتناول الدواء على إجراء الاختبار بكامل حريته الشخصية و بعد أن تبين له الشركة أهداف و مخاطر هذا الاختبار، يضاف إلى ذلك أن الشركة إن كانت أمريكية فيجب أن تحصل على موافقة مكتب الـ FDA ، وعلى موافقة سلطات البلد الذي سيجرى فيه الاختبار.
قالت الشركة المتهمة إنها قامت بكل الإجراءات القانونية ، لكن المدعي النيجيري قال إن الموافقات قد تم تحصيلها بتاريخ لاحق للتجارب، و أهم من هذا أنها لم تشرح لذوي الأطفال الذين أجري عليهم الاختبار مخاطر الاختبار و لم تبين لهم أنه تجريبي.
قبل اختبار الدواء على أطفال "كانو" لم تكن الشركة قد استعملته على البشر سوى على طفل واحد تناوله بعد أن فشلت كل الأدوية الأخرى المعروفة في علاجه. لكن ما جرى في كانو يشكل فضيحة أخلاقية مرعبة فقد انتقت pfizer عينة أطفال تتراوح أعمارها بين سنة و ثلاث عشرة سنة ظهرت عليهم أعراض التهاب السحايا و هي : صلابة النقرة ، صلابة المفاصل ، حمى مع صداع .
قسم هؤلاء الأطفال إلى مجموعتين ، كما هي العادة في كل الاختبارات المماثلة. فأعطيت المجموعة الأولى الدواء الإختباري و أعطت الثانية ، التي تسمى مجموعة الشاهد و تستخدم لمقارنة فعالية العلاج. أعطيت عقار السفترياكسون. و كي تظهر الشركة فعالية دوائها خفضت جرعة السفترياكسون المتعارف عليها لعلاج التهاب السحايا إلى ثلث الجرعة المطلوبة ، وهذا أدى لتدهور وضع كثير من الأطفال.
ادعت الشركة أنها أجرت تقييماً للأطفال عند الدخول و في اليوم الخامس ، فإن لم يستجب الطفل لدواء التروفان كانت تحوله إلى العلاج بالسفترياكسون مع العلم أن منظمة أطباء بلا حدود كانت تعالج بدواء رخيص و معروف و فعال و تقره منظمة الصحة العالمية هو الكولورامفينيكول و بدون مشاكل ، كما ذكرنا . و هنا أشار المدعي النيجيري إلى أن الشركة لم تهتم بتقييم المرضى بعد خمسة أيام ، و بالتالي لم تحولهم إلى معالجات أخرى إلا بعد ظهور أذيات عضوية مثل : العمى ، أو الصمم ، أو الشلل . كما أن الجرعة المنخفضة من السفترياكسون التي عالجت الأطفال بها سببت وفيات و أذيات مشابهة .
كما أن الشركة لم تقم بأي شرح للأهل ، و لم تحصل على موافقتهم ، و في الحالات التي قامت بذلك اكتفت بتوزيع استمارات باللغة الإنكليزية لأهل لا يقرأون ولا يكتبون بهذه اللغة ، و ذلك لخشيتها أن يرفض الأهل تجربة عقار جديد على أولادهم في حين هناك من يعالج و بشكل مجاني بعقار فعال و في نفس المكان .
بعد أسبوعين غادر فريق pfizer كانو و لم يعد أبداً لتقييم المرضى . قال المدعي النيجيري إن خمسة أطفال تلقوا التروفان من أصل خمسين قد توفوا ، و ستة أطفال توفوا بسبب الجرعة المنخفضة من السفترياكسون . و هناك عدد آخر عانى من العمى الصمم و الشلل .
كان يمكن لهذه القصة أن تندثر فلا يسمع أحد بها لأن الضحايا فقراء من أبناء العالم الثالث و لا أحد يهتم لمصيرهم . لكن ما حدث بعد ذلك للدواء في أمريكا أعاد نبش هذه القضية ، فبعد أن أجازت الـ FDA عقار التروفان في أمريكا بدأت مشاكله تظهر على الكبد ، فقد تلقتFDA أكثر من مائة إخبار عن سمية كبدية للدواء ، فأوصت في كانون الثاني من عام 1999 أن يستعمل فقط في المشافي و للمرضى الذين يعانون من تهديد للحياة ، و في حزيران من نفس العام أصدرت تحذيراً للعموم من سمية الدواء الكبدية ،و بعد يومين سحبته المفوضية الأوربية من أسواقها و منعت تداوله. و هنا بدأت مراجعة تاريخ العقار فكشف جريدة الواشنطن بوست عام2000عن دراسة كانو و ما اعتراها من فضائح.
القضية هنا قضية مال بالدرجة الأولى ، لأن الدواء عندما نزل إلى الأسواق في نيسان 1998 زادت أرباح شركة pfizer 15 % عن العام السابق فقد جلب الدواء في ذلك العام 160 مليون دولار ، و توقعت الشركة أن يجلب مليار دولار . و في سبيل المال يدوس حكام العالم أصحاب الاحتكارات على كل القيم: أخلاقية ، دينية ، إنسانية، فالعالم يحكم من قبل عصبة لصوص أشرار ، قساة ، غلاظ القلوب لا يتورعون عن فعل شيء ، و لا يردعهم أخلاق أو ضمير، فهم لا يحملون في داخلهم أية قيمة دينية أو أخلاقية أو إنسانية . هم يعبدون المال فقط . المال و لا شيء آخر . أياديهم ملوثة بالدماء ، لا يستمعون لأنات الضحايا .و بعد كل ذلك نهمهم للمال لا يشبع فهو كالمحيطات بدون حدود .
الجمل
إضافة تعليق جديد