أنسي الحاج: صبراً أيها الكتاب
■ استعجال مبرَّر
أحد الأسباب الكامنة وراء نهج الكتابة البرقيّة: نفاد صبر الكتابة من الكاتب أو نفاد صبر الكاتب من الكتابة. إنه في كلّ حال تصرّف مُذْوِق حيال القارئ، الذي هو أَنْفَد الجميع صبراً.
■ الرشيق الخَطِر
جرّبْ الكتابة دون استعمال صيغة المتكلّم. صمودك فيها هو على قَدْر رفضك أن يرى غيرُكَ جراحك.
كما أنّ انجرافك مع صيغة المتكلّم هو على قَدْر جرأة صدْق لا يحتسب العواقب، وهذا بدوره احتشام.
«الأنا كريهة» كما قال باسكال الرشيق الخَطِر، ما خلا حين تُحَطّم قيودنا بانغماسها المُطْلَق في البوح، والتركيز، والتلاشي.
■ الجديد
تشتغل جَسَدَها ليشبه صورته، وتحت التصوّر تَصوُّر، والغوص يفضي إلى الغوص. مَظْهرٌ هو الكأس المقدّسة، شَعْرٌ هو روح، وسَطْعَةٌ من لَحْمها تُذكّر بأنَّ الجديد ليس الّا وجهةً لهذا السطوع.
■ غصون الأودية
لا جديد إلاّ له جذور في أودية الرأس.
■ معادلة
إلى جانب القول إن الإنسان متحدّرٌ من القرد، لمَ لا يقال إن القرد نوع (متخلّف؟) من البشر؟
■ رتابة الدهشة
الذي يَبْني على الحبّ لا يُحاسَب. الحبّ يعلو القِيَم، ولا يهمّ تحديد نوعه، كل أنواعه وجوه منه، ولو كان جَسَديُّه هو الأكثر تحريكاً لأعماق البحيرة.
الحبّ هو ما يأخذكَ نحو آخر. ما يحنيك، ما يُصْعدكَ بفضل آخر. ما يخلبكَ فيه، أو يجلوكَ، أو يعطيكَ أكثر ممّا تتوقّع، أو يدمّركَ كما تدمّر الصخرةُ الصاعقةَ التي تخترقها.
لا حاجة إلى إضافة وصف إلى الحبّ، فالشوق، فيه، يتضمّن كلّ المعاني التي قد يجد البعض حَرَجاً في تعدادها. إنّ الشوق، هذه الكلمة التي لا أعرف لها مرادفاً بجمالها في لغة أخرى، هو كلّ التحليق وكلّ الانحدار. دعونا نضع في «الحب» غصونه جميعاً، من الإغراء إلى الرغبة ومن اللمس إلى الرذائل السريّة. يجلس الجسد هنا على عرشه مازجاً عناصره في طقسٍ واحد يجد خاتمته في موسيقى باطنيّة تغمرنا وتجرفنا وتُجرّدنا من الشعور إلاّ بغبطةِ الاستسلام، وتنفح تجاسداتنا الأزليّة المتكرّرة، تجاسداتنا الرتيبة، بروح الدهشة الأولى...
■ الليلة
الليلة لا تكُن أحداً. نفِّض عنكَ أمواجك. كن بريئاً بغير معرفتك.
لا تَسْتَعملْ.
■ الروح هي الفكر
ليست الروح ما يفيض بل الفكر. الروح هي الفكر. احصدْ أعشاب فكركَ كلّما يبستْ، وإن لم تعد تورِق، توكّل على العاصفة.
■ العنقود، العصفور
العنقود الذي بين الشلّالين، يتلفلف بشفاه عوض أن تحميه تنادي له. عصفور يطير في نومه ويغطّ في يقظته كالسيل.
■ العيون التي تَخترع
مستاءٌ من التفاهة المتعامَل بها مع الخلاعة لا من الخلاعة، جَلَس يقول:
«أَبيحوا أبيحوا، لن نَشْبع!
مهما ابتذلتُم، لن نَشْبع!
رخّصوا رخّصوا، لن نيأس!
لنا عيون في خزائن الرأس تَحْتفظ بالكنوز، حصانتها في ما تَخْلَعه هي على الأشياء لا في ما تعرضونه أنتم من آلاتٍ بلهاء، من ألعاب مطّاطة تُثْبت أنّ ثمّة ما هو أقبح من الفراغ، أشدّ خواءً من الفراغ، أشدّ إيلاماً من الحرمان، لا هو موت ولا حياة، تكديس غباءٍ على غباء، تآمرٌ على الجسد والعري، تآمرٌ على الرغبة، تآمرٌ على مصادر الحياة في أقدس
نبضاتها.
أبيحوا، ابتذلوا، رخّصوا، غرّقوا الأسواق، عمّموا طوفان الآلات المتضاجعة، لن تقضوا على المجهول، لنا عيونٌ تَخْترع المجهول»...
■ نور الحنايا
يُرَكَّب على الشعراء أنهم مغشوشون بالجمال، والجمال النسائي خاصة. الحربوق يعرف حدود الأجساد، الشاعر يَظنّ ثمّة ما لا يوجد في غير رأسه. هكذا يقال. لكن ما يبهر الشاعر ليس العُباناً قبالته يدجّل عليه بل هو نورٌ بين حناياه. إنّه يسمع أصوات طفولته حيث يظنّ أنّه يرى بعينيه.
■ جَدَليّة
في مَطْلعها، الحريّة تَصْدَحُ كالصباح. في أواسطها تُجادل ذاتَها.
في أوجها يضيق صاحبها بحدودها أو بأوهامها حتّى الكراهية. هنا يكتشف عيوب التساوي بها مع الآخرين، فينقلب منها إلى توأمها الفظّ، الدكتاتورية.
■ حين يعود
استسلامكَ لنفسك ينطوي على ضدّين: السأم والارتماء. واحدٌ يُشبع غَيْرتك وآخرُ يُطلُّ بك من نافذة الرقّة على كيف يجتاح الموجُ الوردةَ فتستضيفه كعصفور، ويعود منها إلى البحر، حين يعود، زائداً أسرارها...
■ أمكنة الأحلام
هذه الظلال حولكِ بِنْتُ معاشرتكِ الطويلة لنفسكِ.
عرزال الصيف ومدفأة الشتاء.
الأحلام تُقيم في الأمداء التي حوْل الرأس قبل أن تقيم في الرأس وبعد أن تخرج منه.
■ دقائق
في ظروف معيّنة يغدو المرء ميّالاً إلى التفاؤل وتنفتح شهيّته على الخطط والنوايا. وإذا استعرض أحبّاءه أَحبَّهم أكثر، وأمّا الذين كان حيالهم فاتراً فينعطف عليهم بتسامح. وقد يشعر بموجةٍ تجرفه علوّاً نحو القمم مُسرّةً إليه بأشياء تزيده ثقة. عبثاً قد يسعى إلى مجادلة تلك الموجة، فهي تحلّق به كلصِّ بغداد
العملاق.
هذه الفسحة الحبوريّة تحلّ أحياناً قبيل النوم، وتتناثر أوراقها في دهاليز الرقاد الزرقاء، وتضمحلّ تماماً في ساعات «الدوام
الرسمي».
فسحة رضى، سلام.
بضع دقائق.
على كعب آخر زاوية.
انّها محطّة الصلح الوحيدة.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد