أنسي الحاج: كأنها المرة الأولى
- لا أحد يصدّق
يستمر جدل القاتل والقتيل. بيلاطس بنطي آخر لا يغسل يديه فقط من دم الضحيّة، بل يتّهمها بالانقتال من أجل توفير حجّة ضدّ طرف آخر. لم يَعد يُجدي اتهام سوريا وأميركا بالقتل، فتحوّل الاتهام ضد القتيل.
سوريا أم أميركا؟ إذا كانت سوريا، فكيف لم تكشفها بعد أجهزة التجسّس والتنصّت والتصوير المعولمة؟ إذا كانت أميركا للايقاع بسوريا، فلماذا تعجز سوريا عن إظهار براءتها؟ والمحكمة ذات الطابع الدولي، مؤسسة افتراضيّة أم حقيقيّة؟ كم كارثة يلزمها بعد حتّى تتشكّل؟ وكم سنة حتّى تنعقد وتَنْظر وتُحاكِم وتَحكُم؟ أهو تحقيقٌ ما تقوم به لجنة التحقيق الدولية أم مسلسل تأجيل؟ شعورنا أنها متاهة، وخوفنا أن تصير أداة لأشياء أخرى لا علاقة لها بالحقيقة
والعدالة.
لا أحد يصدّق أن العالم يجهل ما حصل وما يحصل في لبنان.
ولا أحد يصدّق أن العالم عاجزٌ عن وَقْف
اللعب بدمنا.
- فوق الدستور
المقعد بمَن يجلس عليه. قَلَّمَ اتفاق الطائف أظافر رئيس الجمهورية اللبنانية، ولم يستطع انتزاع فاعليّة السلطة المعنوية المرتبطة تلقائياً بالمنصب. قد يحتاج الأمر إلى أجيال ليصدّق اللبنانيّون دستور الطائف.
تحتجّ المعارضة الفرنسيّة على رئيس الدولة نقولا ساركوزي، لأنه يستأثر بالسلطة. لُقّب أخيراً بـ«آكل لحوم البشر». المَجَري المهاجر يكاد يتحوّل إلى مَلِك مُطْلَق الصلاحيّة في بلاد الثورة الفرنسية. المقعد بمَن يجلس عليه.
السلطة هالة. الهالة فوق الدستور.
شرط أن يجلس مَن له هالة.
- «البَرَكة الأميركيّة»
في الطائف (وقبله وبعده) حلّت «البَرَكة الأميركيّة» على المسيحيّين تقزيماً وتشليحاً. كأنه في أحد وجوهه استئصالٌ أيضاً لما تبقّى من نفوذ فرنسي وفاتيكاني في الشرق. ما تُسومح به للموارنة فخريّ أو مرهون. لذلك لا معوّل على الدستور في إسعاف رئيس الجمهورية، فالدستور بات قَفَصَه. صار الاتكال ـــــ إذا لا بد ـــــ على شخص الرئيس. أن يُثبت هذا الشخص أنّه، رغم تكسير أنيابه وتطويقه بسلطات الطائفتين الإسلاميتين وأكثريتيهما، ليس رئيس دولة إسرائيل ولا ملكة بريطانيا، بل سليل ممثلي فرادة لبنان ووارث الدهاء الطائفي المذهبي المختلط، الذي صنع دمُهُ ومزاجه الاستقلالَ الذاتي في عزّ سطوة السلطنة العثمانيّة، ثم صنعه بعد المذابح الطائفية ثم صَنَعَه في الأربعينات من القرن العشرين رغم سوريا ورغم اللبنانيين الذين كانت سوريا تعتبرهم سوريّين، وكانوا يعتبرون أن وطنهم الشام، ولولا رياض الصلح، لظل الأمر كذلك.
كان الرئيس الماروني يحكم باسم الحصّة الطائفيّة، ولم تعد الحصّة الطائفية تستحق كرسي الرئاسة. لم يعد يستحقّها، لحسن الحظ، غير الاستحقاق. لا الارتهان لسوريا ولا الارتباط بأميركا ولا الحلم بإسرائيل. استحقاق الرئاسة لا بالتنازل والاضمحلال بل بتصوُّر دولة عصريّة تستوعب مشكلات المجتمع وتستنبط لها الحلول. دولة عصريّة تفعل ما يجب فعله، ولو بدا خياليّاً، لتصوين لبنان وحمايته، لا لينعزل ـــــ وليته بإمكانه ذلك ـــــ بل لينصرف بسلام إلى تحقيق ذاته، ذاته الحضاريّة والسياسية والاقتصاديّة، ذاتِ قَدَره، دون استلاب ولا اغتصاب ولا إرهاب.
يستطيع رئيس الجمهوريّة أن يكون حَكَماً وفي الوقت ذاته مُلْهِماً. ولا يحتاج إلى إذن من سوريا ولا من أميركا. يستطيع أن يَحكم بدون سلطات وبدون صلاحيات. المقعد بمَن يجلس عليه.
- من جديد
تحتاج الرئاسة إلى مَن يدشّنها لا إلى مَن يكمل تقاليدها. إلى مَن يبدأها كأنها المرّة الأولى. بظروفها وظروف لبنان وظروف الموارنة، هي فعلاً المرّة الأولى. بغير هذا التجدّد لا قيمة لها.
السباق الحالي بين المتنافسين أضحوكة إن لم تكن هذه غايته.
بعد الحكم العثماني، بدأ لبنان من الصفر. كان وحده بين الكيانات التي أنشأها الاستعمار تجربة تستحقّ الاهتمام في محيطه المتشابه.
بعد الحكم السوري يجب أن يبدأ من الصفر.
الماضي لا يضيع، ولكنْ ينبغي أن لا يتعدّى حضوره حدود المَرْجع عند الضرورة، لا حضور الهاجس المَرَضيّ، ولا مراودة الشبح المخيف. لنا إرثٌ فيه العاطل وفيه الطيّب. مَن كانت تَرْكَتُه بآلام تَرْكَتنا، له الحقّ في فرصة جديدة.
ولا ننخدع: أشدّ المتظاهرين باليأس والهزء هم أكثر المنتظرين غَدَهم بشوقِ معجزة.
- أسْر
حرٌّ مَنْ لم يأسره الجمال.
خطورة الجمال أنه اختياريّ، لذلك لا يُقاوَم.
المتديّن المجاهد يريد الجميع على مثاله. المُلحدُ العقائدي كذلك. الأفكار تحارِب وتضطَهِد وتَقْتل فرديّاً وجماعيّاً. زلازل من صنْع الدماغ. الجمال لا يُبشّر الناس، يقتصر على ممارسة البهر.
يستطيع المرء، مهما يكن ضعيفاً، أن يقاوم إرهاب المؤمنين والمُلحدين والطغاة وشُذّاذ الآفاق، لكنّه لا يُحسن مقاومةَ طغيان الجمال. وما إن ينفكّ من أسْر جمالٍ حتى يتلقّفه جمالٌ آخر، يستثير فيه كامناً جديداً من كوامنه الكثيرة.
لا يأسُرك أكثر ممّن لا يطلب منك شيئاً. ليس هو مَن يعترض سبيلك، بل أنت مَن لا يعود قادراً أن يَمرّ...
- عـــن سليـــم حيـــدر
تعليقاً على ما كتبناه حول قصيدة «قولي أحبّكَ لا تَملّي» التي أنشدَتها فيروز في الخمسينات من شعر الدكتور سليم حيدر، جاءنا من الأستاذ همدان سليمان بحثٌ مسهبٌ عن الشاعر، يسرد مراحل نشأته، منذ ولادته لأبيه نجيب عام 1911 في بعلبك ونفي والديه إلى تركيا، وهو في الخامسة، وكفالة عمه نافذ له في بدنايل، إلى تعيينه قاضياً ثم سفيراً فوزيراً عام 1952 في مطلع عهد الرئيس كميل شمعون، مروراً بنيله دكتوراه في الحقوق ودبلوماً في العلم الجنائي وإجازة في الآداب ثم في العلوم السياسية من السوربون في باريس. وكان عنوان أطروحة الدكتوراه «البغاء والاتجار بالنساء والأطفال»، وقد وضعها بالفرنسيّة.
توفي في 3 تشرين الأول 1980 ودُفن في بعلبك.
منشوراته الأدبية: «آفاق» 1946، «يا نافخ الثورة البيضاء» (عن الرئيس عبد الناصر) 1971، «العدالة» 1946 ـــــ ملحمة «الخليقة» 2001. وله قصائد مخطوطة لا تزال في حوزة ابنه الدكتور حيّان حيدر وهي: «إشراق»، ملحمة في سيرته الذاتية، وتقع في 376 رباعية، «أشواق»، «أشجان»، «ألوان»، «لبنان»، «الحان»، إضافة إلى مخطوطة نثرية بعنوان «آراء حول الشعر».
وله مسرحية منشورة بعنوان «ألْسنة الزمان»، صدرت في بيروت عام 1956، وأبطالها الماضي والحاضر والآتي، الزمان والأزل والأبد.
بالإضافة إلى مؤلفات غير أدبية، كأطروحته عن البغاء، وكتاب تضمّن مواقفه وآراءه السياسية ومقالات مختلفة.
يتوقف الأستاذ سليمان طويلاً عند ملحمة «الخليقة» (صدرت عن الشركة العالمية للكتاب عام 2001) فيقول: «جعلها سليم حيدر في خمسة فصول، هي: «تكوين»، «آدم وحواء»، «قايين وهابيل»، «الطوفان» و«برج بابل». تقع في ألفين وستمئة وأربعين بيتاً من الشعر العمودي، أي ما يوازي نصف ديوان المتنبي.
هي ملحمة الإنسان منذ البدء، ومسيرته الطويلة في أدغال الزمان متحديّاً كل شيء.
تدلّ هذه الملحمة على تمكّن صاحبها من اللغة والأدب والتاريخ والدين والفلسفة (...). ومهما تكن الرموز الأسطورية ضاربة بجذورها في التاريخ، فإن سليم حيدر استطاع أن يعيد ربطها بالحاضر.
لم يقتدِ حيدر بأسلافه من الملحميين القدامى هوميروس والفردوسي وفرجيل الذين ركّزوا في ملاحمهم على الأساطير، وصوّروا الأحداث من خلال المناخ الذي عاشوا فيه، فسيطرت عليهم الفكرة الشائعة وقتئذٍ. لقد اتكأ حيدر على الكتب السماويّة لا على الأسطورة (...) وعكس في تجربته هموماً مصيرية تتصل بالصراع الأبدي بين الإنسان والتاريخ، وبين الإنسان والطبيعة، موتاً وحياة وقيامة».
أما قصيدة «قولي أحبُّكَ لا تَملّي»، سبب هذا الحديث، فينوّه الأستاذ سليمان بأنها من ديوان حيدر المخطوط «أشواق» (ص 21)، وقد نشرها العديد من الصحف والمجلّات، بينها «الأوديسه» السنة الثانية العدد 23/24 آذار ـــــ نيسان 1984، تحت عنوان «لذّة البوح».
وسبق للأستاذ همدان سليمان أن كتب أطروحة دكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها بعنوان «سليم حيدر: حياته وشعره».
وكان الحاج حسين رعد، أستاذ الأدب العربي، أوّل مَن أوضح لنا، حين نشرنا القصيدة متسائلين عن صاحبها، أنها للدكتور سليم حيدر.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد