أوروبا تتوعد اللاجئين: من الترحيب إلى الترحيل
أيلول العام الماضي. توجهت أنظار أوروبا الحائرة، ألمانيا المعنية خصوصاً، إلى المستشارة أنجيلا ميركل، بانتظار جوابٍ شاف على تدفقات اللاجئين التي فتحت أمامها طريق البلقان. كما يُفترض بلحظةٍ تاريخية، لدولةٍ لها تاريخ نازي أسود لم ينسه العالم، وقفت المستشارة لتطلق مقولتها الشهيرة «نحن قادرون» على احتواء ما سموه «أزمة اللاجئين». سنة على إطلاق ميركل «ثقافة الترحيب» كانت كافية لتبديدها، مع خسائر جعلت أوروبا تخضع لتركيا. دفع أقساط الابتزاز متواصل، بما فيه المصادقة المسبقة على الغزو التركي لسوريا تحت مظلة إقامة «مناطق أكثر أمناً».
مرت مياه كثيرة تحت الجسر، مصدرها الأساسي الاستثمار الشرس لأحزاب اليمين المتطرف في القضية، رابطة إياها بعناوين التهديد الأمني والثقافي. ثم، أيلول هذا العام. ميركل تكابر، تتحمل المسؤولية، لكنها تقول إن قراراتها الرئيسية كانت «صائبة». هذا علناً، أما خلف الأبواب المغلقة فتهمس، قبل عام من انتخابات مصيرية لمسيرتها السياسية، إن «الترحيل» الكلمة المفتاحية التي ستطبع سياستها خلال الأشهر المقبلة.
ماما ميركل ليس لديها خبز
تشكل «المرأة الحديدية» محور الحديث لأن بوصلتها حكمت السياسة الأوروبية، لجهة تعاون بعض الدول معها قبل بناء جبهة الرفض العريضة، مع بؤرة دول لا تريد سماع كلمة واحدة عن استقبال اللاجئين. نالت ميركل الإعجاب، اختارتها مجلة «تايم» شخصية العام، مع صورتها تحت عنوان «مستشارة العالم الحر»، لكن ذلك لا يطعم خبزاً سياسياً في ظل تربّص أحزاب اليمين المتطرف بأي فرصة، فما بالك إن كانت فريسة دسمة وضعيفة، ويمكن تسمينها تحت كل عنوان تخويف ممكن.
هكذا وجدت وسائل الإعلام الدولية هدية، مفصّلة على الطلب، في انتخابات ولاية ملكنبورغ - فوربومرن، حينما صادف إجراؤها قبل أيام مع حلول عام على خروج عناوين «ماما ميركل». مثلت الواقعة بالفعل رمزيةً كبيرة. الخسارة التي تعرض لها حزب ميركل، حزب «الاتحاد الديموقراطي المسيحي»، كانت قسوتها في رمزيتها أكثر من حجمها. الضرورة الدرامية جعلت وسائل إعلام تصف الولاية بأنها «معقل» لحزب ميركل، مع أنها ليست كذلك تاريخياً.
الولاية هي الدائرة الانتخابية للمستشارة، لكنها محسوبة سلفاً في جيب حزب الاشتراكيين الديموقراطيين، وهو ما حصل مع مواصلته الغلبة بما يزيد على 30 في المئة من أصوات سكانها. الخسارة الرمزية، الإهانة، هي خلف من حلّ حزب ميركل ثالثا؟ خلف حزب «البديل لألمانيا»، الحديث الولادة واليميني الشعبوي المعادي للأجانب، مهاجرين ولاجئين، حينما حصّل 21.8 في المئة متقدماً على حزب ميركل بفارق أقل من نقطتين مئويتين.
النتيجة خبر مشؤوم، لكنه لا يغيّر الكثير في تسيّد حزب ميركل للمشهد السياسي في ألمانيا. آخر الاستطلاعات الشاملة (مسح «جيرمان تريند» نشر هذا الشهر) يعطي «المسيحيين الديموقراطيين» الصدارة مع 33 في المئة، بفارق كبير عن منافسيهم الاشتراكيين (23 في المئة). أيضاً، والأهم، بفارق شاسع عن حزب «البديل» الذي قال الاستطلاع إنه سيدخل «البوندستاغ» (البرلمان الفدرالي) للمرة الاولى مع دعم 14 في المئة من الألمان له.
صحيح أن الحزب الشعبوي لا يشكل تهديداً لحكم الحزب العريق، لكنه يسبب صداعاً يمكنه أن يتفاقم. الصراخ المعترض في الشوارع هو شيء آخر غير أن يكون لديه نواب في البرلمان، بوصفهم ممثلين للشعب بكل ما يتضمنه ذلك من مكاسب. الفعالية السياسية لذلك تصير أكبر في برلمانات الولايات، التي يمنحها الدستور الفدرالي صلاحيات معتبرة لإدارة شؤونها، ما يعني مساحة أوسع لطرح سياسات استقطابية من باب المعارضة الممثلة نيابياً. كل ما سبق يصير «المشكلة» لأن مكاسب هذا الحزب تأتي، إلى حد كبير، عبر القضم من القاعدة الانتخابية لحزب ميركل.
ميزان بكفّة واحدة
هكذا وصلت الأمور من الترحيب إلى الترحيل. الصحافة الالمانية نقلت أن ميركل قالت لنواب في حزبها، قبل أيام خلال اجتماع مغلق، محاولة رفع معنوياتهم «الشيء الأهم في الأشهر المقبلة هو الترحيل، الترحيل وأكرر الترحيل». إنه طلاق بالثلاثة مع «نحن قادرون»، ما يعني أن ميركل ستظهر للناخبين جرعة قسوة مركّزة، على أمل إرضاء من يميلون لمتنفسات غضب الحزب الشعبوي. الترحيل القسري للاجئين المرفوضين سيكون أول الغيث.
الحكم، السياسة، يفترضان أولويات، يجب الموازنة بينها. هكذا يبرر الكثيرون للمستشارة، مثلما برروا لزعماء اعتمدوا، منذ اللحظة الأولى، سياسة صدّ متشددة. البرلماني البريطاني تيموثي كيركوب أحد المتفهمين، بعدما رافق هذه النقاشات عن قرب لكونه المتحدث باسم المحافظين في البرلمان الاوروبي، بخصوص الشؤون الداخلية والعدل.
يقول خلال مقابلة مع «السفير» إن ما حصل ليس «النهاية الحزينة» بل «مسألة توزان، يجب اتباع نهج معتدل، منطقي ومتوزان ومسؤول. يجب أن تحافظ على دعم سكان بلدك لك، وفي الوقت ذاته تظهر الجانب الإنساني للاجئين ومساعدتهم، فالتوازن مهم للغاية».
لكن أين يمكن رؤية التوازن، ما دام هناك اتفاق صدّ مع تركيا، والحدود الأوروبية مغلقة، بلدا تلو الآخر؟ يردّ البرلماني الذي تخطى عتبة السبعين «أنا أتحدث فقط من وجهة نظري كوزير سابق للهجرة واللجوء في بريطانيا، لدينا حدود نسيطر عليها لكن أيضا نحافظ على مسؤولياتنا حينما يكون من الضروري والمناسب الاهتمام بالهاربين من القمع والملاحقات».
الميزان الذي يتحدث عنه السياسي المخضرم هو بالضبط ما جعل أوروبا، مرة واحدة، تحتل موقعا متقدما في قائمة الإدانة والانتقاد للمنظمات الحقوقية الدولية. إعادة الرجحان لكفة الربح السياسي، كفّة المصالح وحدها، جعلت ميركل تكلف وزير داخليتها بالحديث عن السياسات المتشددة، وصولا إلى السباق نحو القاع بعناوين صفراء مثل حظر البرقع، لعدم تعريض صورتها لخطر فقدان الرصانة والاتزان فيما تتأهب للترشح مرة رابعة للمستشارية.
ابتزاز مزيل للمكياج
كان يوماً أسود في تاريخ أوروبا. بعد مفاوضات لأشهر وقع زعماء الاتحاد الأوروبي مع تركيا الاتفاق «المشين»، كما وصفت منظمة «أطباء بلا حدود» معلنة توقفها عن قبول التمويل الأوروبي. ثمنٌ كبير دفعه الأوروبيون مع انكشاف سياساتهم، بعدما أزال مكياجها الإنساني الابتزاز التركي الموفق. بشكل ما، كان استخداما لورقة قوة شديدة الفعالية، تضرب بدقّة على نقطة الضعف الأوروبية، رغم أن تركيا تصرفت كدولة فاجرة، بلا أي اعتبار للباقات، حينما قال رئيسها رجب طيب أردوغان إنه مستعد لنقل اللاجئين «بالباصات» إذا رفضت مطالبه.
الأقساط ثمناً لورقة اللاجئين لم تشمل فقط التعهدات بستة مليارات يورو، ولا اتفاقية سفر الأتراك من دون تأشيرة إلى أوروبا، ولا تسريع التقارب الاستراتيجي باتجاه العضوية المتعذّرة في التكتل الأوروبي. الدفع يتم الآن عبر الدعم، بالمصادقة المسبقة، لقيام تركيا بغزو عسكري للإشكال السوري. الاتفاقية الموقعة في آذار الماضي شملت تعهد الاوروبيين بدعم أي جهود «مستقبلية» لإنشاء «مناطق أكثر أمنا» في سوريا.
خلال ذلك المخاض أكد ديبلوماسيون أوروبيون لـ «السفير» تلك الوجهة، وعلق أحدهم «نحن جاهزون لدعمها ما دمنا لن نقاتل لأجلها»، في إشارة لعدم الانخراط العسكري والاقتصار على الدعم السياسي والتمويلي. لم يكن تقديم ذلك الدعم ممكنا من دون تهديد أنقرة بفتح بوابات اللجوء مجددا. الثمن السياسي يستدعي المفارقة، فالأوروبيون يدعمون الغزو العسكري التركي، فيما القوات الكردية السورية تقاتله بأسلحة أميركية وأوروبية. المشروعان متصادمان، بطبيعة الحال، لكن زيادة في التعقيد سيكون الوجود التركي حتى إشعار آخر، فيما حظي المشروع الكردي بتشجيع ورعاية أميركية وأوروبية.
مهما يكن، أظهرت أوروبا بوضوح أنها بأمسّ الحاجة للاتفاق مع أنقرة. موقع مهانة جعل أوروبا تراهن على نجاح الانقلاب، قبل أن تعود للحس صمتها المريب. الأتراك هم أكثر من يعرفون حاجة أوروبا، وهم يبدون مرونة لتأجيل منح اتفاقية إسقاط التأشيرة لكن ليس لأكثر من نهاية العام. التمسك بالاتفاق جاء أيضا من فعاليته المباشرة، صفقة؛ سلّم واستلم. لذلك جعله الأوروبيون نموذجا. يصممون على أساسه اتفاقيات تمويل خزانات لجوء في عدة دول، في لبنان والاردن وبضع دول افريقية، تقدم مساعدات واستثمارات بمليارات اليورو مقابل منع اللاجئين من التوجه لأوروبا.
نهاية مفتوحة إلى القاع
هل هي النهاية الحزينة، الواقعية جدا، إذاً؟ ترد البرلمانية الأوروبية آنا غوميز أن الواقع أيضا يقول إنها ليست كذلك، وإن كانت فهي «نهاية مفتوحة». تقول السياسية الاشتراكية، المشاركة بفعالية في نقاشات القضية لكونها عضوا ناشطا في لجنة الشؤون الخارجية، خلال مقابلة مع «السفير» إن الصدّ لن ينجح: «الناس يأتون على أي حال، سواء أعجب ذلك حكومات أوروبا أم لا، وسيستمرون لأنهم يكافحون لأجل حياتهم، لذلك لا يمكن لأوروبا التظاهر بأن الأزمة انتهت هنا، إنها أيضا داخل حدودنا الآن مع مئات آلاف اللاجئين في أوضاع صعبة جدا، في اليونان وغيرها».
المصلحة الأوروبية برأيها تقتضي فتح طرق آمنة للاجئين، فهي تدلل على مخاطر ترك الأمر لشبكات التهريب: «الطرق الآمنة تجعلنا نعرف من يأتي، نقطع عمل شبكات التهريب والإجرام، غير ذلك فنحن نصنع مشاكل لأنفسنا. ثم لدينا الآلاف من الصغار الذين اختفوا في أوروبا وتركهم في يد الشبكات الإجرامية يمثل مخاطر أمنية أيضا».
لكن الأصوات المتعقلة لا مكان لها تقريبا. دول أوروبية عديدة تخوض أحزابها منافسة شرسة، نحو القاع، مع الأحزاب اليمينية المتطرفة، كما حال النمسا والدنمارك وفرنسا وهولندا وغيرها، حيث لا صوت يعلو على صوت الفوز الانتخابي. صار الزعيم المجري فيكتور أوروبان قدوة، بعدما ربح مرتين: حينما صدّ اللاجئين بحملة قمع، أوصد الحدود منذ البداية، ثم حين اعتبرت سياسته صائبة عاد الآخرون لانتهاجها.
قبل أيام خرج رئيس المجلس الاوروبي دونالد توسك، الداعم لإغلاق الحدود بما ينهي قصة طريق البلقان، ليقول إن أوروبا لن تستطيع استقبال تدفقات جديدة لأن «قدراتها العملية للاستضافة تقترب من بلوغ حدودها». كان بجواره رئيس المفوضية الأوروبية جان كلو يونكر، الذي دعم بقوة مواقف بواكير السياسة الميركلية باتجاه اللاجئين. وقتها كان يقف ليحاجج، يضرب ويطرح، مفسرا للأوروبيين أن نسبة اللاجئين الذين استقبلوهم هي صفرية تقريبا، أعشار في المئة، قياسا بتكتل سكانه 500 مليون نسمة. لم يعلق على زميله المحذّر من الوصول الخيالي إلى «قدرة الاستيعاب القصوى»، بل ظل صامتا، يهزّ برأسه.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد