الانقلاب الرمادي على الإذاعة
لا يمكن الحديث عن الإذاعة من دون المرور على خصال مارسها كل مستمع وفيّ لها أو حالم بممارسة هذه المهنة أو فضولي ساعٍ الى اكتشاف هذا العالم المليء بسحر بسيط خاص، قوامه الصوت فقط والكثير من الآفاق الفكرية والإبداعية الواسعة.
حالما تطلب من أحد الإذاعيين أو الإذاعيات رواية بداية العمل في هذا المجال أو سرد بعض الذكريات، تأتيك المعطيات متطابقة الى حد كبير. استبدل أغلبهم جهاز الميكروفون بشيء من حواضر المطبخ مع إسراف كبير في استهلاك أشرطة الكاسيت لتسجيل الفقرات الترفيهية ومحفوظات المدرسة أو حتى الحوارات المنزلية العادية الى حين ظهور أجهزة التسجيل صغيرة الحجم والمتميزة بوضوح الصوت.
هذا التطابق في الخصال والذكريات، يعطي صورة متطابقة أيضاً عن الطباع المشتركة التي يتقاسمها الإذاعيون والإذاعيات. للانتقال من مرحلة الهواية الى مرحلة الالتحاق بالعمل الإذاعي، محطات واستحقاقات لا بد من المرور بها ومعايشة لذتها وهفواتها، خاصة في النشرة الإخبارية الأولى والبرنامج الأول والإطلالة المباشرة الأولى.
وكلّها تبقى ذكريات محببة يحرص الإذاعيون على استرجاعها لما تتميز به من دفء مميز ومختلف عن العمل في وسيلة إعلامية أخرى. ربّما هذا لبقاء هذه الهفوات في إطار عفوي طبيعي يسهل معه الاعتذار من دون الشعور بارتكاب جريمة أو كارثة، مع الإشارة الى أن المستمعين ليسوا جمهوراً متسامحاً مع الخطأ الى هذه الحدود، لكن طبيعة مرورهم اليومي على أصوات من يحبون يجعلهم قادرين على التعاطف مع الإذاعي أو الإذاعية. حتى إنّهم مع مرور الزمن يصبحون قادرين أيضاً على تحليل المزاج اليومي للمقدم أو المقدمة خاصة في الفترات المباشرة الصباحية والمسائية.
قبل مرحلة الاحتراف إذاً، لا شيء يشجع الإذاعيين على أي خطوة تظهر للناس وجوههم. هم يكتفون فقط بأسمائهم وببصمتهم الصوتية هوية، وببعض الأخطاء حافزاً لتحسين أدائهم بهدف الوصول الى أول نشرة خالية من الأخطاء، وأول مقابلة بلا هفوات، وأول فترة مباشرة بعيدة عن الارتباك من باب العمل على تثبيت الحضور. حتى إنّ كبار الإذاعيين في لبنان والعالم العربي مرواً على المهنة تاركين بالكاد صوراً نادرة لا توثق بالضرورة أعمالهم وإبداعاتهم.
هذه الأجواء واكبتها الإذاعة لسنوات طويلة، حاملة قناعة عنيدة مفادها أن لا شيء فوق العادة أو خارجاً عن المألوف سيطرأ على العمل الإذاعي لجهة تطوير المضامين أو تحسين تقنيات البث أو التفاعل مع الجمهور. حتى إنّ وجود الانترنت لم تستفد منه الإذاعة في بادئ الأمر سوى في تخصيص عناوين الكترونية لتحسين المراسلة بينها وبين جمهورها. ويوم قررت الاذاعات خلق مواقع الكترونية لها على الشبكة، لم تراع عامل الصورة لا لتجهيزاتها ولا لفريق عملها، فبقيت الإذاعة بناسها عالماً سرياً لكثيرين، إلى أن جاء التحول الكبير.
أسمّيه تحولاً، ليس لأنه روّج للإذاعة وموجاتها وبرامجها وضيوفها أمام جمهور قد لا يكون من المستمعين أصلاً، بل لأنه تجرأ على كلاسيكية هي في الأصل أساس السحر الذي بنت عليه الإذاعة مجدها. أتحدث في هذا المجال عن «الانقلاب الرمادي» الذي تواصله وسائل التواصل الاجتماعي بصعوبة ضد التيار الإذاعي الكلاسيكي الرافض حتى اليوم إظهار وجهه الى مستمع رسم في مخيّلته ألف وجه عمّن يهمس له ليل نهار داخل جهاز الراديو.
يعتبر هذا التيار الكلاسيكي أنّ حرباً شرسة تُمارس على خصوصيته عبر تلك الوسائل وتطور تقنياتها وتطبيقاتها. حين وضع الإذاعيون صوراً لهم خلف الميكروفون على فايسبوك ولاحقاً على تويتر وانستغرام، كان وقع ذلك مقلقاً على مستقبل الإذاعة، لجهة انكشاف أصحاب الاصوات الرخيمة وصولاً الى تقنية البث المباشر الذي خوّل الجمهور اكتشاف العمل الإذاعي بالصوت والصورة. هذا ما أوجد إشكالية الموت أو البقاء لوسيلة اعتادت التغريد خارج سرب التقدم التكنولوجي متسلحةً بأمجاد ماضيها.
إشكاليات على صورة صراع الأجيال، تعيشها الإذاعات اللبنانية والعربية داخل أروقتها، تبدأ بتراشق الاتهامات بتراجع الثقة، وتمرّ بدراسة جدوى تقديم المضمون الإذاعي بالصوت والصورة أمام جمهور قد لا يكون متابعاً للإذاعة، ولا تنتهي بغصة الانهزام والاستسلام لنهر الصورة الجارف الذي قضى ــ بحسب التيار الكلاسيكي ــ على مذهب إعلامي بحد ذاته، فيما وفّر للتيار المُجدّد فرصة الظهور على الشاشة بعد إيجاد المناسبة لكشف مواصفات من هو خلف الميكروفون شكلاً وصوتاً، ما يضيّق دائرة الخطر على الإذاعة كمدرسة إعلامية يوماً بعد يوم من دون أن يخرق هذه الخطورة سوى قناعات «طوباوية» مصرة على استمرارها دواءً وبلسماً لجراح الناس.
هو انقلاب رمادي، لا أسود ولا أبيض، ليس قادراً على تذويب الإذاعة في الشاشة بشكل كامل، ولا يتجرأ في الوقت نفسه على إغلاق أبوابها. ففي داخلها كبارها وكبارنا ومعهم المجد الماسيّ والذاكرة السمعية والعصور الذهبية. انقلاب يطالب بآخر همسات الأثير، وأثير عليه إعادة الاعتبار بشعارات المظلومية، هذه هي المعركة!
المصدر: عمر الفاروق النخال - الأخبار
* صحافي وإذاعي
إضافة تعليق جديد