الثورة والحرية .. والتوبة النصوح

06-08-2011

الثورة والحرية .. والتوبة النصوح

الجمل ـ عبد الله علي: أن يثورَ الشعب ضد السلطة هو أمرٌ، وأن يثور من أجل الحرية أمرٌ آخر. فالثورة ضد السلطة لا تعني بالضرورة الوصول إلى الحرية، فقد تكون النتيجة مجرَّد استبدالٍ شكلي لسلطة بسلطة أخرى، مع بقاء مضامين الاستبداد والظلم والقمع.
أما الثورة من أجل الحرية، يكون فيها إسقاط السلطة القائمة وإحلال سلطة أخرى مكانها، مجرَّد تفصيل صغير في بنيان الثورة، لأن الثورة في التعريف هي عملية جراحية جذرية،تستهدف إسقاط كل أنواع السُّلط التي تهيمن على حياة الأفراد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتحرر من ربقة العبودية لها.
فهل "ربيع الثورات العربي" هو ثورة ضد السلطة أم ثورة من أجل الحرية؟
تعزِّز التجارب الثورية العربية من أهمية هذا السؤال، لأن جميع الثورات التي عرفها العرب في تاريخهم القديم أو الحديث، لم تثمر بفاكهة الحرية، وإنما استمرت في إنتاج نفس آليات السلطة المستبدَّة التي يفترض أنها قامت ضدها. وذلك بدءاً من ثورة بني العباس ضد الأمويين وانتهاءً بثورة جمال عبدالناصر ضد الملك فاروق وما بينهما. فجميع هذه الثورات نجحت في استبدال سلطة بسلطة جديدة، لكنها لم تستطع أن تحقق هدف الحرية، إذا افترضنا أنها كانت تسعى إليها أساساً.

*****

مطلب الحرية في بلاد العرب، مطلب عزيز جداً، لأنه يتطلَّب منَّا أن نقف في مواجهة مع ذواتنا، وهذه أصعب أنواع المواجهات وأكثرها تعقيداً، وربما لذلك لم تنجح أيُّ ثورة في إنجازه، ولذلك أيضاً يغدو سؤالنا عن حقيقة أهداف "ربيع الثورات العربي" الحالي، سؤالاً مبرَّراً ومشروعاً، هل هو السلطة أم الحرية؟ ولا نقصد بالسؤال النيل من هيبة الثورات ولا إضعاف الشعور الثوري، وإنما نجد أنفسنا مضطرين إلى طرحه في ظل التجارب الثورية السابقة التي جعلتنا نشكك بأيِّة تجربة ثورية جديدة.
وقد يكون من حسن النية، أن نعيد صياغة السؤال على النحو التالي: هل بمقدور الثورات العربية الحالية أن تحقق هدف الحرية الذي تعلنه كشعار لها؟ نحن هنا نستبعد احتمال أن تكون الثورات قد قامت من أجل السلطة، ونعتبر أنها تستهدف الحرية فقط، وهذه أقصى درجات حسن النية التي يمكننا التعبير عنها في هذا المقام.
والسؤال عن القدرة، يستدعي سؤالاً آخر هو هل تعي الثورات حجم التحدِّي الذي قد تواجهه فيما إذا قررت إنجاز هدف الحرية، وهو ما عبَّرنا عنه بمواجهة الذات؟ هل تستطيع الثورات أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع الذات العربية والاسلامية المتأصِّلة فينا؟ هذه الذات التي سالت منها أنهار من الدماء، وارتُكبت بحقها أبشع المجازر، قبل أن تنغرز فيها غرائز العبودية والطاعة، وصارت تتغذَّى على الاستبداد والقمع، وتنتج الثقافة التي تبرِّره وتكرِّسه كضرورة لا غنى عنها، ومضت على ذلك سنين وسنين ومئات من السنين، حتى غدا كل اللحم الذي نمى على عظام هذه الذات من خيرات الاستبداد وبركاته.


*****

حروب الردِّة في عهد الخليفة الإسلامي الأول، والتي قامت بعد أن امتنعت بعض القبائل عن دفع الزكاة، هل هي مجزرة دموية بحقِّ من قرَّروا اللجوء إلى العصيان المدني كموقف رافض للسلطة الجديدة، أم هي حرب مشروعة لإنهاء تمرد ضد السلطة؟
الاستبداد الذي ساد في عهد الخليفة الثاني، وكان أبرز تجلياته منع صحابة الرسول من السفر خارج المدينة، هل هو قمع للحريات أم مجرد إجراء يتوخَّى استقرار السلطة من خلال العمل على منع نشوء أي نواة للمعارضة؟
مقتل عثمان ... هل هو عمل إجرامي قامت به مجموعة من المخربين، أم هو نتاج ثورة شعبية رفضت الظلم والقهر وحكم العائلة والتفرِّد بالثروة؟
الحرب بين معاوية وعليّ، هل هي مواجهة للسلطة ممثلة بعليّ ضد عصيان مسلح ممثل بمعاوية، أم هي حرب استقلال مشروعة؟
لقد نما اللحم على عظامنا منذ أريقت الدماء في سبيل سلطة الفرد وقمع أي تعبير رافض لهذه السلطة، ومنذ أُعلنت قريش كقبيلة مقدَّسة لا يكون الحاكم إلا منها، ومنذ سمحنا لقناع "الرشد" أن يعمي أبصارنا عن وجه الاستبداد القبيح، ومنذ سُمِّيت الثورة ضد الخليفة الظالم بـ "الفتنة"، ومنذ صار الحكم وراثةً من الآباء إلى الأبناء، ومنذ توِّج الخليفة كسلطان إلهيٍّ ينوب عن الله في الأرض، ومنذ.. ومنذ .. ومنذ.
نما اللحم على عظامنا وتكاثر، بعد أن اختلط الدين بالسياسة، واختلط هذا الخليط بالفكر والثقافة، وبعد أن اندمج الشخص بالمنصب، واندمج هذا الدمج بوحي السماء وإرادة الله، وبعد أن صار الخيار الوحيد لأعناقنا هو إمَّا أن تضع رسن البيعة أو تُضرب بحدِّ السيف، وبعد أن آمنَّا بأن صعود الحاكم من نزول القضاء والقدر الذي لا يمكن الكفر به، وبعد أن تخلينا عن الحسم ورضينا بالتلفيق... وبعد ... وبعد... وبعد.


*****

وكي أعبِّر عما يدور في خلدي حول متطلبات هدف "الحرية" وصعوبة الوصول إليه. فإنني مضطر أن أستعين بمصطلح إسلامي، هو "التوبة النصوح". لأن أهمَّ شرط من شروط التوبة النصوح حسب رواية عن علي بن أبي طالب، هو: ((أنْ تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السّحت فتذيبه حتى يلتصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد)).
وهذا يعني بالتوظيف الذي اخترناه لهذا المصطلح، أن نرفع القداسة عن كل شخص جلس على كرسي الحكم خلال التاريخ الإسلامي الطويل، هذه القداسة التي منعتنا، وما تزال، عن رؤية حقيقة استبداده وقمعه. وأن ننظر إلى الأحداث التاريخية نظرة سياسية لا دينية.
فحروب الردة هل هي في حقيقتها، وفي ضوء المنظور الثوري، إلا قمع دموي لأول عصيان مدني ظهر في الإسلام، وهل ضحايا هذا القمع إلا شهداء؟. والثورة ضد عثمان أليست أول ثورة شعبية تقوم ضد خليفة إسلامي، والقائمون عليها هل هم إلا أبطال تاريخيون وليسوا أصحاب فتنة وخراب؟ أليس علينا أن نعيد كتابة التاريخ بما يعيد إليهم حقَّهم المسلوب ويبرزهم كأسماء خالدة بعد أن شنَّع عليهم التاريخ الذي بين أيدينا بما لا يليق بهم من صفات؟. والحرب بين معاوية وعلي، وبغضِّ النظر عن توصيفها، ألم يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين والصحابة والقرّاء، وسالت بسببها أنهار من الدماء والجثث بين الشام والعراق، فلماذا نتجاهل المسؤولية التاريخية عن هذه المجازر ومن ارتكبها؟
والوراثة كمبدأ لانتقال الخلافة من الأب إلى ابنه ألا تفترض نزع الشرعية عن كل خليفة جاء بهذا الأسلوب واعتبار حكمه غير شرعي؟. والإدِّعاء بتمثيل الله على الأرض أليس بدعة تستوجب رمي صاحبها بالجنون كائناً من يكون؟.

هل من المنطقي أن نثور ضدَّ حكَّامنا الحاليين، ونحن نقدِّس في نفس الوقت حكَّامنا التاريخيين؟

إما أن تكون الثورة شاملة تضرب عميقاً في تراب التاريخ وتزلزل قممه، وإما أنها ليست بثورة، بغضِّ النظر عن النتائج التي ترتبت عليها ومهما أطاحت برؤوساء وحكام. ولن يكون عهد هذه الثورات إلا كعهد الثورات التي سبقتها باعتبارها مجرَّد خطوةٍ أخرى على طريق قمع الشعوب وحرمانها من حقوقها وحرياتها بنفس الدرجة التي رسَّخها الاستبداد التاريخي، وإن جرى ذلك تحت مسميات مغايرة. فما الفرق بين ترسيخ الاستبداد واضطهاد الشعوب لهدف ديني أو لهدف سياسي؟.
الثورة التي لا تجرؤ على إنتاج ثقافة جديدة تقوم على إدانة القمع الذي عانته شعوبنا منذ البداية، وتشير صراحة إلى المسؤول عنه، وتستنكر ما تذخر به أحداث تاريخنا من قتل أو تعذيب أو قمع لأيَّ شاعر أو فقيه أو مؤرخ تحت ذرائع مختلفة تدور جميعها في الحقيقة حول معارضة الخليفة أو الحاكم ثم تُعطى مسميات دينية وإيمانية... والثورة التي لا تستطيع إحياء مشاعر الألم تجاه أنهار الدماء التي سالت في حنايا التاريخ من أوردة آبائنا وأجدادنا بسبب الصراع التاريخي على السلطة واحتكار امتيازاتها بين الخلفاء وأبنائهم وكبار بطانتهم... والثورة التي لا تقرُّ بأن التاريخ العربي ما هو إلا سفرٌ مقدس لآيات الاستبداد وسور الاضطهاد وسنَّة القمع وفقه الاستعباد... هذه الثورة لا يمكن القول عنها إلا أنها ثورة منافقة في إعلان التوبة النصوح، وأنها مجرد استمرار لخطايا التراث وآثامه.


*****

كي تكون الثورة حقيقيةً، علينا أن نذيب كل اللحم الذي نبت من سحت التاريخ حتى يلتصق الجلد بالعظم، وحينها فقط يمكننا أن نعمل على إنبات لحم جديد يتغذى على لبن "الحرية".... فهل الثورات الحالية حقاً مستعدة وقادرة؟؟؟؟

التعليقات

الحق ما بيضيع. وأنت أيها السيد معك حق. لكن أريد أن أسأل عن القداسة الفعلية لهذا التاريخ ؟لا أعتقد أن هناك ذاكرة جمعية تاريخية مقدسة في ضمير أي عربي. لكن أي عربي لا يجرؤ وإن جرأ لا يبتعد، على الثورة التي تدعي إليها. أنا أرى أن بلدي الحبيب بتاريخه وبكل ما هو، ليس وحده الذي يتداعى على العكس، هو البلد الأقل سرعة في التداعي والإنهيار وأكثر: هو البلد الأخير والتاريخ الجمعي الأخير الذي سيذوب. ليس هناك حضارة إنسانية بمنأى عن العار والخجل وفي زمن ذوبان الحدود المتسارع الخطى بين البشر سيلتفت العالم ليرى سوريا الجزيرة العائمة التي ستحملها المحبة والتآلف وسط الطوفان القادم.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...