الحرب الباردة الثانية.. مستمرة

09-11-2020

الحرب الباردة الثانية.. مستمرة

لفت إنتباهي بشكل خاص النشاط المحموم للسيد مايك بومبيو، متنقلاً من بلد في أوروبا إلى بلد في أعماق إفريقيا إلى بلد في الخليج حاملاً رسائل دبلوماسية لكبار المسئولين في دول عديدة. لم يقل نصيب التحذير الأمريكي من طموحات الصين في هذه الرسائل عن نصيب الترويج والابتزاز للتوقيع على اتفاقات تفرض على دول عربية التزامات وعلاقات مع إسرائيل.


أكتب هذه السطور قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية بيوم واحد. غداً ينتخبون وبعد أيام ربما يكون لدينا اسم الرئيس الجديد للولايات المتحدة أو تتمدد رئاسة ترامب لولاية ثانية. أقول ربما لأن الرئيس ترامب حذّر متوعداً أنه ربما يقرر رفض الاعتراف بالنتائج إن لم ترق له. وفي هذه الحالة، قد يلجأ للمحكمة العليا لتصدر أحكاماً ضد النتائج المعلنة في أكثر من ولاية ، فيعود للبيت الأبيض رئيسا لولاية ثانية، وهو الذي لم تتوفر لديه النية أساساً للخروج من هذا البيت إلى قلعته الفاخرة والحصينة في ولاية فلوريدا. أنا شخصيا أميل إلى الاعتقاد أن الأمر في سبيله للحسم اليوم أو غداً، أي قبل إجراء الانتخابات وقبل نشر هذا المقال. أظن أن الدولة الأعمق في الولايات المتحدة لن تواصل الصمت على تجاوزات السياسيين، أظن أنها سوف تبلغ المرشحين بطريقة أو أخرى أنها لن تسمح بتلاعب خطير أو التدخل بوسائل غير عادية لتغيير النتائج أو استخدام القوة للتأثير في إرادة الناخبين أثناء عملية الانتخاب أو بعدها.


هذه المقدمة كانت ضرورية لإبراز خطورة ما هدد به الرئيس ترامب وربما خطّط بالفعل لتنفيذه ولم يخفه عن الرأي العام الأمريكي، وفي الوقت نفسه، لم يخفه على حلفاء أمريكا وخصومها، وبخاصة على الصين وروسيا. أتصور أن دولا كثيرة ومؤسسات أمريكية بعينها ما كانت لتقبل بوقوع فوضى تهدد أمن واستقرار أمريكا، وتزيد من سرعة انحدار وزن القوة الأمريكية، وتؤثر بالتحديد في موقع أمريكا في المنافسة المحتدمة بالفعل بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. هناك أسباب أخرى تدفعني لتجاوز بعض السياقات الراهنة للدفاع عن رأي له وجاهته. أعرض خلاصة هذا الرأي في الكلمات القليلة التالية: لن يغيّر فوز جوزيف بايدن أو دونالد ترامب في الانتخابات الجارية في الولايات المتحدة في القرار الذي اتخذته بالفعل القيادة الحاكمة في الصين والقاضي بتصعيد وتسريع خطوات المنافسة المشتعلة بين الصين والولايات المتحدة، لا عودة إلى الوراء. لا عودة عن حرب باردة  بين الدولتين الأعظم، سواء تغيرت وجوه القيادة السياسية الأمريكية أم بقيت.

لن يغيّر فوز جوزيف بايدن أو دونالد ترامب في الانتخابات الجارية في الولايات المتحدة في القرار الذي اتخذته بالفعل القيادة الحاكمة في الصين والقاضي بتصعيد وتسريع خطوات المنافسة المشتعلة بين الصين والولايات المتحدة، لا عودة إلى الوراء

لا شك أن لأصحاب هذا الرأي أسبابهم وأفكارهم ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الأسباب والأفكار التالية، هذه وأكثر منها عبرت عنه مواقع  أمريكية وأوروبية للبحث والعصف الذهني خلال الأسابيع القليلة الماضية:

أولاً، لا جدال، ونحن شهود، على أن الطرفين، الأمريكي والصيني، بذلا جهداً خارقاً خلال العامين الأخيرين وتكلفا ثروات هائلة لتقريب المسافة التي تفصل كلاً منهما عن موقع بعينه في صف قادة العالم، وفي الوقت نفسه، إعادة النظر في جدوى كل الوسائل التي استخدمها الطرفان لتوسيع أو تضييق الفجوة الفاصلة بينهما خلال سعيهما نحو القمة. المؤكد لهما ولنا أنهما قطعا في هذا السعي أكثر من نصف الطريق ولا جدوى من الحديث عن التوقف أو الرجوع إلى الوراء. لا يستقيم بأي حال وتحت أي ظرف أن  يتخاذل الآن قادة الدولتين بعد حملات إعلامية رفعت توقعات الشعبين، توقعات صينية نحو تحقيق حلم كثيرا ما راود قادة الصين ألا وهو احتلال موقع الدولة القائد في نظام عالمي جديد. أو توقعات أمريكية نحو تجديد حلم الصمود في وجه طموحات دول منافسة ونواياها وفي مقدمتها الصعود للقمة.

ثانياً، تتشابه الدولتان حيثما تبدوان مختلفتين شديد الاختلاف. يجنح محللون تحت الاقتناع بأن الصين دولة يحكمها نظام سياسي شمولي إلى تصور أن لا مكان في الصين لقوى أو جماعات ضغط كالموجودة في الغرب وبخاصة في الولايات المتحدة. وجدت هذه الجماعات وإن في أشكال مختلفة في حياة الرئيس ماو تسي تونج ولعبت أدواراً هامة في صياغة مسيرة الثورة في عديد المراحل وبخاصة مرحلة الثورة الثقافية. كثيراً ما بدا لي مثيراً للغاية متابعة حركة رئيس اللجنة المركزية للحزب خلال محاولته الخروج بتوافق عام بين مختلف جماعات الضغط على قضية أو أخرى. بل وهناك اختلافات في الرؤى يكتشفها المدققون وما أكثرهم الآن. هؤلاء بأعدادهم الراهنة وكفاءة بعضهم يذكرونني بخبراء عرفوا بأخصائي الكرملين في زمن الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي.

سمعت أنه بين هؤلاء المدققين على الجانب الصيني من ينصح قادته بأن الصين يجب أن تسرع خطى الصعود قبل أن تكتمل قوة وكفاءة نظرائهم على الجانب الأمريكي. أمثال هؤلاء خلال الحرب الباردة أقنعوا صناع القرار الأمريكي وآخرهم الرئيس رونالد ريجان بضرورة التوسع في المنافسة مع موسكو وتصعيدها في مجال أسلحة وسباقات الفضاء، اعتقاداً قوياً ومحقاً أنه مجال لو انغمست فيه القيادة السوفيتية فستخفق حتماً وتكسب واشنطن السباق. أتيت بهذا المثال بعد أن تأكدت أن في أمريكا آراء وجماعات فكرية مماثلة تشير على صناع القرار الأمريكي بتسريع خطط مواجهة صعود الصين. حججهم كثيراً منها مثلاً أن الخصم الصيني دخل مبكراً مرحلة شيخوخة نتيجة السياسات السكانية التي انتهجها في المراحل الأولى من خطة إعادة بناء الصين. قريباً جداً، حسب ما يحسبون، سوف تجد الصين نفسها أمام منافس أمريكي مجرب ومتجدد الشباب والطموح وستكون له الغلبة في السباق المنشود كما كانت له الغلبة  في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.

ثالثاً، كثيرون على هذا الجانب أو ذاك يعطون المنحى الثقافي في السباق أهمية خاصة. هذا السباق أو الصراع أو التنافس هو الأول من نوعه، هذا إذا استبعدنا المحاولتين البائستين من جانب اليابان لتفرض نفسها على مجتمع الدول المهيمنة، مرة مع روسيا وانتصرت ومرة مع الغرب بأسره وانهزمت. لم يغفر الغرب لليابان فعلتها فكان عقابه لها شديداً، اعتبر أن ما فعلته اليابان كان تجربة أولى نحو افتعال “صدام حضاري” هدفه إخراج الغرب من آسيا. منذ تلك المرة، عاش الجميع، آسيويون وغربيون ينتظرون الصدام الأكبر. كم سمعنا وقرأنا في الغرب عن مصير البشر في مستقبل تستيقظ فيه الصين.

ما لم نقدّرهُ حتى الآن حق قدره هو الوزن الحقيقي للثورة الصينية وما خلفته من آثار في مختلف أقاليم القارة الآسيوية. يكفي أن نقارن بين نظرة الآسيويين إلى التجربة السياسية الصينية والتجربة السياسية الهندية، إعجاب بالأولى ولا مبالاة بالثانية. لاحظ أن الهند وقد بنت سمعتها بين الأمم وعبر تاريخها منذ الاستقلال على عقيدة غربية ومؤسسات حكم وإدارة غربية، فجأة انتبهت فراحت تستعيد فلسفاتها الآسيوية وتبث الروح في تقاليد الهندوسية ديانة وفكراً وسياسة وبطولات ونساء وموسيقى. إنه السباق الأكبر القادم في القارة، أيهما أصلح لآسيا: ثقافة الغرب أم ثقافات هجينة أم ثقافاتها الآسيوية. وهل تستمر أسس ثقافة الغرب في “التضعضع” أم يتوقف الانحدار وتنهض من جديد؟ أسئلة لن تجد إجابة شافية إلا من قوم هم الأقدر والأسرع في التأقلم مع زحف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واستيعاب قواعد وسلوكيات عصر جديد.

رابعاً، يعرب علماء سياسة غربيون عن اعتقاد بدأ يسود ويقضي بأن بعض حلفاء أمريكا فقدوا الثقة في قدرة الولايات المتحدة على قيادة معسكر الغرب في المستقبل. تكاد خطابات أمين عام حلف الناتو تشي بأن هذه المقولة لها ما يبررها على أرض الواقع. في رأي الكثيرين أن ترامب وهو “كبير الحلف” مسئول إلى حد كبير. لم يتدخل في حل الخلافات الثنائية بين دول الحلف بل أضاف إلى الشقاقات الأوروبية أسباباً إضافية وتوترات نتيجة استمرار هجومه على الحلف وأعضائه. هنا، كما في قضايا أخرى، احتار الأوروبيون، والآسيويون أيضا والروس كذلك في الإجابة على سؤال محوري، هل أمريكا الآن، وبقياداتها السياسية الراهنة فاقدة القدرة على التأثير لدوافع هيكلية أم نتيجة منطقية لتصرفات الرئيس ترامب وسياساته الخارجية؟ عدد من مفكري آسيا، وبخاصة من سنغافورة يعتقدون أن الطبقة السياسية الأمريكية أصابها ما أصاب قادة الإمبراطوريات التاريخية في مراحل نهاياتها.

خامساً، في كل الأحوال، وأخذاً في الاعتبار كافة الإجابات والمواقف، يكاد يكون من المسلم به أن الوقت تأخر، فالصين تمسكنت حتى بالفعل تمكنت. الشهادة المقنعة في هذا الشأن هي في ما سجله السيد جفري فيلتمان Jeffrey D. Feltman المدير السابق للإدارة السياسية في الأمم المتحدة والسفير الأسبق لدى لبنان في مقال نشر له مؤخراً. يتضمن المقال معلومات هامة عن حجم ونوع التغيير في النظام الدولي الذي تسعى الصين إلى تحقيقه. قدم مثالاً عما يحدث الآن في التعيينات للوظائف الأساسية في المنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة من ناحية وفي سن وتسريب قواعد جديدة للسلوك ومبادئ العمل الدولي من ناحية أخرى.
***
يحدث ما يحدث في أمريكا عامة وفي البيت الأبيض بخاصة. بعد إعلان النتائج، سوف تتغير أمور كثيرة أو قليلة، ولكن يكاد يبقى في حكم اليقين أن حرب أمريكا الباردة مع الصين سوف تستأنف على الفور.

 

 

180بوست

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...