القرار السياسي العربي: إشكالية الترشيد والنضج
الجمل: تطورت السياسة, ولم يعد الاشتغال بالسياسة يتمثل في مجرد إصدار الفرمانات والتوجهات على غرار ما كان يقوم به الملوك والسلاطين القدماء, وإنما أصبحت السياسة تمثل صناعة قائمة بذاتها, وبالتالي فهي تتميز بوجود المدخلات والمخرجات, والجدوى والعائد.
من يصنع السياسة؟
تقوم بعملية صنع السياسة العديد من الأطراف والجهات, التي تختلف عن بعضها البعض, وإن كانت تتفق في بعض الجوانب العامة, هذا, ومن المعروف أن عملية صنع السياسة تتضمن الأطراف التالية.
• الأطراف الرسميون: ويتمثلون في أعضاء السلطة التشريعية "البرلمان" وأعضاء السلطة التنفيذية "مجلس الوزراء", وأعضاء المحاكم "السلطة القضائية", إضافة إلى الأجهزة الإدارية.
• الأطراف غير الرسميون: ويتمثلون في جماعات المصالح "النقابات والاتحادات", "الأحزاب السياسية", المواطن "الرأي العام".
يلعب كل واحد من هذه الأطراف, وتفرعاتها, دورا في عملية صنع القرار السياسي, ولكن مع ملاحظة أن هذه الأطراف تتفاعل ضمن بيئة صنع القرار السياسي, بما قد ينطوي على التنافس بين بعضها البعض, أو على التعاون بين بعضها البعض, إضافة لذلك يمكن أن نلاحظ سعي الأطراف غير الرسمية لجهة التأثير على الأطراف الرسمية, وفي كثير من الأحيان نجد أن جماعات المصالح التي تمثل الغرف التجارية والصناعية, وغرف أصحاب الأعمال, تسعى بمختلف الوسائل من أجل التأثير على القرار السياسي الذي يؤثر على مصالحها, وقد اشتهر هذا النوع من جماعات المصالح بممارسة الضغوط على السلطة التشريعية والتنفيذية من أجل الحصول على المزايا التجارية والاقتصادية, مثل خفض الرسوم والضرائب, وتحرير حركة السلع ورؤوس الأموال.
تشكيل بيئة القرار السياسي:
يطلق خبراء العلوم السياسية, تسمية "البيئة الأولى" لجهة الدلالة والإشارة لدائرة صنع القرار السياسي, التي تضم الأطراف الرسمية, والأطراف غير الرسمية, هذا, ويمكن الإشارة إلى مكونات وتفاعلات هذه "البيئة الأولى", أي بيئة صنع القرار السياسي على النحو الآتي.
صناع القرار الرسميين:
• اللاعبين الأساسيين: ويتمثلون بأصحاب المراكز العليا المعنية بصنع القرار وترسيم وتخطيط السياسات بشقيها المتمثلين في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية.
• اللاعبين الثانويين: ويتمثلون في أصحاب المراكز المساعدة المعنية بتقديم السند والدعم لعملية صنع القرار وترسيم وتخطيط السياسات بشقيها الممثلين في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية.
ينطوي جهد صناع القرار الرسميين بشقيهم الأساسي, والثانوي على جملة من المبادئ التي تلعب دورا حاكما في عملية صنع القرار, وهي:
• الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات: ويقيد هذا المبدأ أداء كل طرف بحيث يلتزم حصرا بأداء دوره الوظيفي النوعي, المنصوص عليه في الدستور.
• تحقيق الشمولية: توجد الكثير من الجوانب التفصيلية المحددة, ولتفادي تضارب المفاهيم, فإنه لابد أن تلتزم عملية صنع القرار باستخدام المفاهيم الشاملة, بما يتيح إدراج التفاصيل والأبعاد والترتيبات الإجرائية اللاحقة.
• المفاضلة بين البدائل: تتضمن المفاضلة بين البدائل, الكثير من العمليات المنطقية المعقدة, ومن أبرزها إسقاط المعايير الكمية والنوعية لجهة قياس مدى جدوى القرار, وترسيم السيناريوهات التي قد تحدث بعد عملية صتنع واتخاذ القرار.
• توازن المخرجات: تتضمن التركيز على عدم الإخلال بتوازنات المصالح القائمة, وبتوضيح أكثر, فإن على القرار أن لا يسعى إلى التأثير على خارطة المصالح وأسلوب توزيعها, وعملية تخصيص الموارد والقيم بما يلحق الأضرار بالصيغة القائمة والمنصوص عليها أو المتعارف عليها بشكل مسبق.
صناع القرار غير الرسميين:
• اللاعبين الأساسيين: ويتمثلون في جماعات المصالح ذات الوزن والثقل مثل النقابات والاتحادات الكبيرة, إضافة إلى الأحزاب السياسية الرئيسية المؤثرة, وما شابه ذلك من الأطراف التي تتميز بممارسة الضغوط المباشرة والوظيفية والهيكلية على عملية صنع القرار السياسي.
• اللاعبين الثانويين: ويتمثلون في جماعات المصالح والرأي, الصغيرة نسبيا, والتي تقوم بدور غير مباشر في التأثير على عملية صنع القرار, ومن أمثلة ذلك: الجماعات الصغيرة المؤثرة بقدر أقل على الرأي العام مثل بعض رجال الدين والرياضيين والفنيين وما شابه ذلك.
تعتبر بيئة القرار السياسي الأكثر أهمية لجهة تأطير عملية صنع واتخاذ القرار السياسي, فالقرار تتم بالضرورة صناعته ضمن إطار هذه البيئة وتأثيرات ضغوطها الهيكلية والوظيفية, المباشرة وغير المباشرة, وبالتالي لا بد أن تتم عملية إصدار القرار لجهة تفعيل التأثير بالشكل المطلوب لإحداث التغييرات المعنية ضمن هذه البيئة, وما يجب الانتباه له هنا يتمثل في أن هذه البيئة نفسها في بعض الأحيان, قد لا تتقبل استيعاب مضمون ومحتوى القرار, وتأسيسا على ذلك, فإن التداعيات السلبية للقرار الخاطئ يترتب عليها بروز وصعود المزيد من ردود الأفعال السلبية بواسطة البيئة التي استهدفها القرار السياسي, ومن أبرز الأخطاء الشائعة في البلدان العربية يتمثل في أن الكثير من دوائر ومراكز صنع واتخاذ القرار تقوم بصناعة واتخاذ القرار, ثم فرضه على الواقع, وعندما يتبين أن البيئة التي استهدفها القرار لم تتقبل استيعاب مضمون ومحتوى هذا القرار, وبدأت تفرز الكثير من ردود الفعل السلبية, فإن مراكز القرار العربي في كثير من الأحيان لا تلجأ لتغيير القرار أو حتى تعديله, بل وبدلا من ذلك تلجأ لجهة الضغط على البيئة, والعمل من أجل إرغامها على تقبل القرار واضطلاع بنوده ومحتوياته قسرا, وفي هذا الخصوص وعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى نموذج قرار التوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل, والذي أصدره الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات, فبرغم أن البيئة المستهدفة بهذا القرار والمتمثلة في مصر وبقية البلدان العربية, لم تتقبل هذا القرار فقد سعى أنور السادات إلى إرغام هذه البيئة, والاستناد إلى الدعم الأميركي والأوروبي والإسرائيلي فيما يتيح له كسر إرادة مقاومة هذه البيئة ودفعها إلى قبول الاتفاقية و"ابتلاع" بنودها قسرا, وحتى الآن ما تزال هذه البيئة ترفض اتفاقية "كامب ديفيد" ويبدو ذلك واضحا من خلال امتدادات "القرار الساداتي المرتفع الشخصنة" والتي ما زالت ماثلة حتى الآن وتبدو بعض خطوطها بوضوح في توجهات السياسة المصرية الحالية إزاء أزمة قطاع غزة.
القرار السياسي العربي: إشكالية الترشيد والنضج.
اهتمت كل أمم ودول العالم "ما عدا العرب" بعملية ترشيد القرار السياسي بما يجعله أكثر نضجا, وذلك لجهة ضبط العلاقة بين مكونات محتوى القرار السياسي والواقع الميداني الماثل, وذلك ضمن الآتي:
• متغير مدخلات القرار: وتتمثل في المعلومات, والإحصائيات والدراسات السابقة والتخمينات وعملية تقييم الجدوى, إضافة إلى العناصر ذات الأهلية والكفاءة العلمية.
• متغير اتخاذ القرار: ويتمثل في تقديرات الموقف المناسبة لجهة اتخاذ القرار, مثل التوقيت, والظروف العامة الداخلية, والخارجية, إضافة إلى كيفية الإعداد لسيناريو اتخاذ القرار بالشكل المطلوب, ووضعه موضع التنفيذ.
مازالت الكثير من الدول والبلدان العربية رهينة الأساليب التقليدية المتعلقة بعملية صنع واتخاذ القرار, وهي الأساليب التي ظلت موجودة وفاعلة منذ أيام ملوك الفراعنة والآشوريين والمماليك وغيرهم, وعلى وجه الخصوص الجانب المتعلق بالطبيعة المزاجية والشخصنة الفردية المرتفعة الشدة المصاحبة لعملية صنع واتخاذ القرار السياسي, وقد أدى ذلك إلى جعل الكثير من القرارات السياسية تصدر على عجل وتحت ضغوط الانفعال, ثم بعد ذلك تصبح مجرد أوراق ومراسيم حبيسة الأدراج والخزانات, بعد أن تبين أنها مجرد قرارات صدرت بشكل فوري وتم تنفيذها ثم تبين عدم صلاحيتها, بسبب ما أدت إليه عملية تفعيلها من ردود أفعال سلبية وتأثيرات معاكسة أكثر خطورة من القرار نفسه...
وعلى ما يبدو, سوف يظل لفترة طويلة نفس السؤال قائما: متى تستعين مراكز صنع واتخاذ القرار السياسي العربي, بمراكز الدراسات والخبراء الذين يقدمون لها المعلومات والبحوث والمشورة القائمة على المعرفة العلمية الدقيقة؟..
ولما كان هذا السؤال سوف يظل على ما يبدو لفترة طويلة قائما بلا إجابة, فإن عوامل عدم رشد وعدم نضج عملية صنع واتخاذ القرار السياسي العربي سوف تظل فاعلة وحاضرة بقوة ومن أبرزها, قوة حضور العامل الأميركي, المصحوبة بضعف دوائر صنع واتخاذ القرار السياسي العربي, أو بالأحرى قد لا نجد حرجا في تسميتها ب"بيت الطاعة العربي" للإملاءات الأميركية الوحيدة الاتجاه.
الجمل: قسم الدراسات والترجم
إضافة تعليق جديد