المأزق التركي في سوريا هل يطيح «العدالة والتنمية»؟
سوريا هي الشغل الشاغل للجميع في تركيا. السياسي والمثقف وطالب الجامعة وسائق التاكسي. وقد أضاف إسقاط الطائرة التركية مؤخراً من قبل سوريا عامل اهتمام إضافياً وقلقاً إضافياً.
الجميع يطرح الأسئلة. المعارضون لسياسات الحكومة إجاباتهم جاهزة، في أن السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا مثقلة بالأخطاء، فيما الإجابات عند مؤيدي «حزب العدالة والتنمية» ليست جاهزة، بل بالعكس، مرتبكة وتكاد تدعو إلى الخروج من هذا المأزق.
«المأزق» مفردة يكاد الجميع يلتقي عندها لدى توصيف السياسة التركية تجاه سوريا. سفير تركي متقاعد أمضى سنوات في العالم العربي اختصر موقف أنقرة بأنه «خاطئ ولا معنى له، وعلى تركيا عدم التدخل في الشأن الداخلي لسوريا». تبدو هذه النظرة منتمية إلى أدبيات «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، لكنها لا تقتصر عليه.
ولا يقتصر الانتقاد على البعد السياسي من الحركة التركية تجاه سوريا، بل يكاد إصباغ البعد المذهبي على الحراك ضد دمشق يحضر عند الغالبية. تتفاوت درجة التوصيف المذهبي بين قائل بأنها «كاملة» وبين قائل بأنها «موجودة». باحث وناشط معارض يرى أن «حزب العدالة والتنمية»، رغم أنه لا يتلفظ بذلك غير أنه يتبع سياساته في المنطقة، وليس سوريا فقط، على أساس إيديولوجيا مذهبية. والحزب إذ يدخل في توترات مع دول شيعية فإنه يصمت على وضع الشيعة في السعودية والبحرين. هذا نموذج على ازدواجية المعايير التركية ومذهبيتها. ويقول الباحث المعارض إن المال السنّي له تأثير على سياسة تركيا الشرق أوسطية.
في الجهة المقابلة، لا ينفي باحث مقرّب من الحكومة البعد المذهبي في السياسة الخارجية التركية، لكنه يقول إن تفسير السياسة الخارجية التركية على أساس مذهبي يبقى «ناقصاً». ويوضح «لقد أسس حزب العدالة والتنمية علاقات جيدة مع إيران وسوريا في السنوات العشر الماضية، لكنه وجد في الربيع العربي فرصة أراد الاستفادة منها، وسيكون من السذاجة القول إنه يتبع سياسات على أساس مذهبي بالكامل. لكن دعم الحزب للإخوان المسلمين في الدول العربية لا يُفهَم خارج النزعة الإيديولوجية للحزب».
وارتباطاً بالنزعة المذهبية يذكّر باحث شاب، من المشاركين في ورشة عمل السياسة الخارجية التركية في جامعة البحر الأسود في تركيا، بأن أنقرة تلهث في سياساتها الخارجية وراء مشروع «العثمانية الجديدة». ويضيف إن وزير الخارجية أحمد داود أوغلو رفض مرة أن يكون هناك مترجم بينه وبين مسؤولين في البوسنة، بذريعة أنها شعوب واحدة وتجمعها ثقافة واحدة. ويتابع إن هذا ليس سوى محاولة لإحياء العثمانية الجديدة، التي ليست سوى الاسم الملطّف للنزعة المذهبية.
وإذا توغلنا أكثر فإن مسؤولاً رفيع المستوى في وزارة الخارجية يقدّم مطالعة «واضحة» لا تخلو من علامات استفهام كثيرة وتساؤلات. ويقول المسؤول إن التعاون الاقتصادي و«تصفير المشكلات» والمشاركة في القرار الدولي والتحرك الدائم ودبلوماسية الإعلام لم تغب عن السياسة الخارجية التركية، لكن عندما تعلق الأمر بالوضع في سوريا كان الكلام أكثر حذراً، وإن لم يترك مجالاً للشك في أن الرئيس السوري بشار الأسد ذاهب، بل مع تحديد مواعيد لهذا الرحيل.
ويقول إن سوريا لن تشهد استقراراً ولو توقفت الحرب، إلا بعد استكمال بنى التغيير، وهذا التغيير شرطه الأساسي تلبية «المطالب المشروعة» للشعب. لكنه يقرّ بأنه «ليس هناك صيغة واحدة للتغيير في العالم العربي. لكل بلد شروطه وظروفه المختلفة».
ولكن حين يتعلق الأمر «بالمطالب المشروعة» للشعب في البحرين يرفض المسؤول تشبيه الوضع في البحرين بالوضع في سوريا، ويقول إن الملك هناك «يتجاوب تدريجياً مع المطالب المرفوعة، وهي تحتاج لبعض الوقت».
يبحث المسؤولون الأتراك عن أسباب عدم سقوط النظام في سوريا حتى الآن. المسؤول الرفيع المستوى في الخارجية يؤكد أن تماسك الجيش السوري وقواه الأمنية والاستخبارية كان من أهم أسباب استمرار النظام حتى الآن. لكن المسؤول لا يعتقد أن الوضع سيطول كثيراً. ويعتقد أن الضائقة المالية لدى النظام السوري ستكون العامل في انهياره من الآن حتى نهاية السنة أو بعدها بقليل. ولم يبق بيد النظام سوى 4 أو 5 مليارات دولارات ستنتهي قريباً».
وعندما تقول له إنه إذا كانت المسألة مالية، فهذا يعني أن الأسد سيبقى إلى الأبد، يقول المسؤول «لكنه لن يبقى طويلاً»، مستعيناً بقول تركي شائع إن «الوقت التركي له ثلاثة مواعيد: بعد ثلاثة أسابيع أو ثلاثة أشهر أو ثلاث سنوات»، وقد مرت سنة ونصف السنة على الأسد ولم يبق سوى القليل!».
ويبرر المسؤول التركي عدم ردة فعل أنقرة على إسقاط سوريا للطائرة التركية بالقول إن الرد «لم يكن ضرورياً، ولا معنى له. لقد أظهرت تركيا بعدم الرد أنها دولة كبيرة لا ترسم سياساتها على أساس رد الفعل».
وحين يتم تذكير المسؤول بأن أي ردة فعل تركية على سوريا تعني ازدواجية معايير إذ ان أنقرة لم ترد حتى اليوم على الاعتداء على سفينة «مرمرة» الذي نفّذته إسرائيل، يقول إن لكل حادثة ظروفها وما ينطبق على «مرمرة» قد لا ينطبق على إسقاط الطائرة التركية، وهكذا.
غير أن ناشطاً وباحثاً في احد مراكز الدراسات يقول إن عدم ردة الفعل التركية ناتجة عن أنها تخشى التورط في حرب مع روسيا. ويوضح «لقد كان إسقاط الطائرة ضربة لهيبة تركيا، ولكن ماذا لو ردّت تركيا بقصف دفاعات سورية وتم إسقاط طائرات تركية خلالها بالصواريخ الروسية؟ عندها سيكون الأمر كارثة على تركيا. وهي ستكتفي بهذا الخسارة المحدودة على أن تواجه كارثة في صورتها وهيبتها».
يتفق الجميع على أن تركيا في مأزق، وأن تصريحات المسؤولين فيها «جعجعة من دون طحين»، أو سياسة الضفادع التي تنق من دون فعل. رئيس مركز دراسات فاعل جداً يقول إنه «ليس أمام تركيا ما تفعله. التدخل بمفردها غير وارد، ولا قرار دولياً أو حتى أطلسياً، وحتى الردّ بالمثل لم يحصل. لا احد يريد هذه الحرب، لا تركيا ولا الولايات المتحدة. يمكن أن تحدث حوادث متفرقة على الحدود، لكنها لن تتطور إلى حرب. وما دام ليس هناك مراجعة للسياسة التركية تجاه سوريا فليس أمامها سوى الانتظار».
يسأل الجميع ماذا لو لم يسقط النظام في سوريا، أو ماذا إذا تأخر سقوطه كثيراً. الجواب جاهز عند أحد الباحثين المختصين بمنطقة الشرق الأوسط. يقول «كلما تأخر سقوط النظام السوري كانت الحكومة التركية في وضع أكثر حرجاً. بقاء النظام في سوريا يعني إضعاف حزب العدالة والتنمية وصورته أمام الرأي العام التركي».
رغبة تركيا في عدم الردّ أو استحالة ذلك في ظل التعقيدات المتصلة بالأزمة السورية تجد تبريراً لها أيضاً في استطلاع نشرته صحيفة «ستار» الموالية بالكامل لـ«حزب العدالة والتنمية»، والتي وضعته في عنوانها الرئيسي، من أن 72 في المئة من الشعب التركي لا يريد الحرب مع سوريا. هذه النسبة، وفي «ستار» بالذات، تعطي المبرر لتركيا لعدم الرد وعدم الوقوع في مأزق أكبر، رغم أن هذه النسبة كانت قبل أسبوع تقريباً تصل إلى 95 في المئة. وفي كلتا الحالتين فإن أحداً في تركيا لا يريد التورط العسكري ضد شعب شقيق.
الطقس المعتدل في طرابزون على وقع زخات مطر أحياناً شديدة، كانت أكثر من ضرورية لطرح كل التساؤلات على طاولة النقاشات والسجالات إن كان داخل ورشة العمل التي استمرت أسبوعاً أو خارج جلسات المناقشة. الخلاصة أن تركيا في مأزق كبير في سياستها تجاه سوريا، وليس هناك ما تفعله سوى المراوحة والانتظار، وأن بقاء النظام في سوريا سيكون ثمنه سلطة حزب العدالة والتنمية في الداخل.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد