المعلوماتية والاتصالات بوصفها ثورة معرفية معاصرة
الأرجح أننا نعايش تحوّلاً كبيراً في طُرُق بناء المعرفة، والوصول إليها، والتعامل معها وفهمها، والإضافة إليها، وعرضها وتوصيلها. ولعل هذا هو التحوّل الأكثر عمقًا في تاريخ الإنسانية منذ اختراع الكتابة. هل يحمل هذا القول مبالغة؟ الأرجح أن لا، بل ربما كانت الملاحظات الآتية تبرّر هذا الوصف الشامل لملامح المعرفة.
الملامح السبعة لعصر متغيّر
من المستطاع التحدّث عن سبعة ملامح رئيسية للثورة المعرفية المُعاصِرة، يمكن وصفها بأنها سبعة أعمدة لهذه الثورة. وقد تحدّث كثيرون عن ثورة الإتّصالات وتكنولوجيا المعلومات باعتبارها «الثورة المعرفية» في الزمن الراهن. وشدّد هؤلاء على ملامح مثل الزيادة الهائلة في كمّية المعرفة المتاحة للجميع، والتوسّع المذهل في الإتّصالات الموضوعة بتصرف الناس والمؤسسات وغيرها.
وأشاروا إلى أن هذه الأمور أدّت إلى ظهور مجتمع قائم على المعرفة، واقتصاد مُعتمِدِ على التكنولوجيا الإلكترونية، منوّهين بما رافق هذا التحوّل من متغيّرات مثل العولمة المعاصرة بآفاقها المعروفة والموثّقة. إنني أتحدث عن بنيان المعرفة، وأسلوب طرحها، وكيفية تفاعلنا كبشر معها، سواءً كأكاديميين أم باحثين أم أعضاء في أُسَرٍ اعتاد أفرادها الذهاب إلى المكتبات العامة وطلب المساعدة من أمين المكتبة في إيجاد كتاب جيد للقراءة أو مرجع يعين على إعداد بحث جامعي أو غيرها. هذا ما أود أن أشير إليه باسم «الثورة المعرفية الجديدة». وأصف خصائصها السبع الرئيسية، التي يحلو لي أن أسميها «أعمدة»، وهي:
- التحليل، والحياة، والتنظيم.
- الصورة والنص.
- الإنسان والآلة.
- التعقيد والفوضوية.
- الحوسبة والبحث العلمي.
- التقارب والتحوّل.
- تعددية المناهج والسياسات.
واخترت أن أتحدّث عن العمودين الأولين من أعمدة المعرفة الجديدة كنموذجين عنها، بينما سيصدر كتاب مفصل يتحدث عنها جميعها كما يفصّل تداعيات هذا التغيير في نسق المعرفة.
أبدأ بالحديث عما يتّصل بالتحليل، الحياة والتنظيم. فمنذ فجر التاريخ، سواء كانت الكتابة على لفائف أم مخطوطات (وسواء طُبعت أم بقيت بخط اليد)، استند تراكم المعرفة إلى تحليل البُنى، بحيث تُصَفّ الوحدات إلى بعضها مثل قوالب الطوب في الحائط أو على بنيان شامخ.
ومع حلول القرن السابع عشر، ظهر اتفاق حول كيفية تنظيم هذه المعرفة في وحدة تحليلية. وجرت صياغة هذه الوحدة بحيث تتضمن العناصر الآتية:
1- المقدمة ثم تبيان المشكلة التي يتصدى البحث لها.
2- تحديد المصادر.
3- تعريف المنهجية التي ينبغي استخدامها.
4- تنظيم الحجج والأدلة.
5- تحليل الحجج والأدلة.
6- تفسير النتائج.
7- الاستنتاجات.
وفي بعض الأحيان، يضاف إلى هذه القائمة مسح للأدبيات التي تناولت موضوع البحث عينه. وقد طوّرت الدراسات الكلاسيكية مجموعة هائلة من الأدوات التي تخدم بناء الوحدة المعرفية المشار إليها أعلاه. وتتضمن هذه الأدوات الببليوغرافيا، الحواشي، قوائم المراجع، التعليقات الختامية، توحيد أنماط الطرح والاستشهاد وغيرها. وبالترافق مع ذلك، جرى إعداد صفحات الطباعة تبعاً للأنماط الشائعة الإستعمال، إضافة إلى أدلة التحرير اللازمة لصياغة البحث في صورته النهائية.
وسواء نُشر البحث في دورية، أم ظهر كتاب مستقل، فإن البنية العامة كانت هي نفسها تقريباً، مع بعض الإختلافات في طول البحث أو قِصَره.
ومع كرّ السنين، أدى تجاور تلك الأعمال الفردية وتحليلاتها، إلى تراكم في المعرفة التي بدت كصرح علا بنيانه لبنة بعد لبنة، وحجر بعد حجر.
وإضافة إلى ذلك، كان كل جزء من البحث «ميتًا»، وأعني بذلك أن الجزء عندما ينشر ورقياً، لا يمكن تغيير ما فيه إلى أن تظهر الطبعة الثانية. فإذا كان لدى كلّ منا نسخة من الكتاب نفسه، يمكننا فتح صفحة 157 مثلاً لنجد الشيء نفسه بالضبط في النسختين. ولا يتغير هذا الأمر، سواء فعلنا ذلك فور ظهور الكتاب مباشرة أم بعد صدوره بعقود.
لقد غيّر الإنترنت هذه الصورة كلها. وأصبحت صفحة الـ «ويب» بمثابة وحدة التحليل. وبدلاً من التسلسل التقليدي في عرض البحث، بتنا نفكر إنطلاقاً من الصفحة الرئيسية في الموقع الإلكتروني، ثم نعتني بروابط «النص التشعّبي الفائق الترابط» Hyper Text Markup Links التي تصل بين نصّ البحث من جهة، ووثائق أخرى ذات صلة بموضوع البحث من الجهة الاخرى. والحقّ أن «النص التشعّبي» تقنية قديمة نسبياً، إذ يرجع تاريخها إلى أوائل التسعينات من القرن الماضي. ومن المتوقع أن نشهد مزيداً من السلاسة في التقنية الرقمية المتصلة بدمج الصور الثابتة أو الفيديو مع النص، وكذلك الحال بالنسبة الى التنقل بين الروابط الإلكترونية المرجعية.
لقد أصبحت النصوص المنشورة على شبكة الإنترنت اليوم مختلفة نوعيا. إذ صارت «حيّة»!
ويعني هذا أنها تتغير باستمرار. وتُجدّد حياتها بفضل التحديث والتعديل وتغيير الوصلات الإلكترونية المترابطة وغيرها. وعلى عكس المواد المنشورة بالطرق التقليدية، إذا بحثتُ اليوم عن صفحةٍ ما على شبكة الإنترنت، وبحثتَ أنت عنها في المكان الإفتراضي نفسه بعد ساعات قليلة، فالأرجح أن تجدها وقد تغيّرت، ذلك أنه يجري تحديث المواد على الشبكة الإلكترونية بصفة مستمرة.
جدلية الصورة والنص
لقرون طويلة، شكّل النص وسيلة أساسية لنقل المعلومات. وكان من الصعب إنتاج الصور وإعادة إنتاجها. وقد تغير هذا في ظل الثورة الرقمية. إذ أصبح بمقدور الجميع تسجيل صور متنوّعة وأشرطة غنيّة. وكذلك أصبحت رسوم الغرافيك التي تنتج عن طريق الحاسوب في متناول الجميع. ويجري نشر بلايين الصور على شبكة الإنترنت. وأظهرت تجربة مواقع مثل فليكر Flickr (الذي يعمل ضمن بروتوكول «كريتيف كومنز» Creative Commons للمحتوى المفتوح) و «يوتيوب» YouTube أن الجمهور بفئاته جميعها، يستطيع المساهمة في صنع محتوى وافر من المواد البصرية.
ويمكن للعقل الإنساني معالجة المعلومات البصرية بسرعة هائلة. وهكذا يستطيع المرء أن يفتح الباب وينظر في غرفة لثانية مُفردة، وبعدها يضحي قادراً على تحديد حجم الغرفة إلى حد كبير، وإعطاء فكرة عن أثاثها، ولون جدرانها، وتوافر النوافذ فيها، وتحديد أرجل الطاولة التي يجلس إليها من في الغرفة، وإذا كانت كراسيها من الجلد أو البلاستيك وهكذا. صحيح أنها كميّة ضخمة من التفاصيل، لكن العقل البشري إلتقطها عبر العين في جزء من الثانية، ثم تولت مراكز متخصّصة في الدماغ صناعة معلومات عنها. وإذا كان للمرء أن ينقل هذا بالإستناد إلى نص مكتوب، فقد يستغرق الأمر صفحات عدة للخروج بالمعلومات بنفسها التي نقلتها هذه اللمحة العابرة.
في هذا الصدد، يذهب التفكير إلى الأسف الذي أبداه الفيلسوف الفرنسي جان باتيست ليروند دي لومبير في سياق إعداد موسوعته الشهيرة في سبعينات القرن الثامن عشر، حين قال: «لكن النقص العام في الخبرة، سواء في الكتابة عن الفنون والقراءة في ما كتب عنها، يجعل من العسير تفسير هذه الأمور على نحو واضح. ومن هذه المشكلة ولدت الحاجة إلى أرقام. ويمكن للمرء أن يستشهد بآلاف الأمثلة بأن قاموساً بسيطاً من التعريفات، مهما كانت دقة إعداده، لا يمكن أن يستغني عن الصور من دون الوقوع في أوصاف غامضة أو مبهمة. وكم كانت حاجتنا لهذه المساعدات أشد إلحاحاً. وتكشف نظرة سريعة على الشيء أو صورة منه، عن أكثر مما قد تكشفه صفحة من الكلمات المصوغة في نص مكتوب».
صحيح أن الصورة أكثر كفاءة، ولكن النص شيءٌ مختلف. فهو يدعم التفاعل بين القارئ والكاتب. والنتيجة هي بناء مشترك. إذ يعمل النص على أساس ثلاثة تجريدات متشابكة. أما الحرف فهو شيء مجرد، ندركه بصريّاً، ونحدده، ثم نُشكّل تركيبات الحروف في كلمات. وبعدها، تشكّل الكلمات جُملاً. ونحن نعزو معنى ما للكلمات والجمل. وانطلاقاً من هذا، نحيل الوصف النصي للغرفة المذكورة آنفاً إلى صورة عقلية. ولعل هذا هو الفارق بين قراءة رواية ومشاهدة فيلم مقتبس عن هذه الرواية.
استناداً إلى هذه الأمور، من المستطاع المِضي في تلمّس بعض الملامح الجديدة للثورة المعرفية الحالية وآفاقها المرتقبة في مستقبل قريب.
منذ البداية، يمكن ملاحظة الميل للاعتماد الكبير على الصورة، إضافة إلى النصوص، في نقل المعلومات والمعارف. واستطراداً، هناك الأشكال المتغيرة لأجهزة التخزين والاسترجاع التي يتطلبها هذا الأمـــر.
وحاضراً، هناك حركة إنتقال من الكتاب أو المجــــلة التي تعتمد على النص بصورة أساسية، إلى عروض الصور الرقمية الثابتة والفيديو وكذلك الواقـــع الافتراضـي الثلاثي الأبعاد وغيرها. وسوف يصبــــح التفاعـــل أيضًا سمة لعالم الواقع الافتراضي المعتمد على الصورة وميّزاتها الرقمية. ماذا تعني هـــذه الأمور مستقبلاً بالنسبة لعمليات معرفية مثل عرض المعلومات والبحث عنها واسترجاعها، والتفاعل بين الباحث والمادة التي يدرسها؟
ثمة نقطة اخرى. كانت هناك ملاحظة أن الناس تميل لإعطاء النص المطبوع مصداقية أكبر من التواصل الشفهي. وقد سمحت لنا التجربة (وبشيء من السخرية أيضاً) في التشكيك في المواد التي تطبعها بعض الصحف مثلاً. وبعبارة أخرى، ان مجرد نشر مادة ما ورقياً لا يعني أنها صحيحة. في المقابل، يميل كثيرون لقبول الصورة كحجة مقنعة. إذا قال أحدهم إن «س» قابل «ص» في موقع معين، وأظهر لك صورة «س» مع «ص» في ذلك الموقع، يعتبر هذا دليلاً دامغاً على صحة قوله. وفي المقابل، مع تقدّم برامج الـ «فوتوشوب» Photoshop والتطبيقات الرقمية المتطورة التي تملك قدرات عالية في معالجة الصور والأشرطة، لم يعد المرء متأكداً من مدى صدقية الصور.
وأخيراً، من المستطاع القول ان ليس من الواضح كيف سينتهي الأمر بالنسبة للجوانب المتعلقة بالصورة والنص وتفاعلهما مع صيغ المعرفة ونقلها وإعادة إنتاجها. الأرجح أن تسير الأمور مستقبلاً لمصلحة التفاعلية Interactivity، وهي صفة تتصاعد بصورة مستمرة في عوالم الكومبيوتر والإنترنت. والأرجح أن يخلق التفاعل تجربة جديدة تماماً في معالجة المعرفة، وكذلك الحال بالنسبة لتجربة القارئ والمستخدم.
ومهما كان تفكيرنا بشأن تأثيرهما على التفكير المجرد وإمكان تطوير القدرة التفسيرية للقارئ والمستخدم، فإن الصورة والنص يمتزجان كما لم يحدث من قبل، مع استمرار الصورة في لعب دور تتزايد أهميته باضطراد.
إسماعيل سراج الدين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد