الوردة الشامية تذبل في حمى الحرب
يتجول مزارعون في حقول من اللونين الأحمر والزهري لقطف الوردة الشامية التي صمدت على مرّ التاريخ، ونقلت اسم العاصمة السورية إلى أفخم العطور العالمية، لكنّها أصيبت الذبول حالياً لتدخل في عداد ضحايا الحرب في سوريا.
"الوردة الشامية ظلّت وفيّة للتراب حيث تنمو، لكنها اليوم تحتضر، بعدما قتلت الحرب الشجر والحجر والبشر وأخيراً الوردة"، يقول جمال عبّاس، أحد المزارعين الطاعنين في السن العامل في مزارع قرية المراح في منطقة النبك شمال دمشق.
وتُعد منطقة النبك، وخصوصاً قرية المراح، ذات الغالبية التركمانية، المصدر الأساسي لهذه الوردة، إلاّ أنّ الحرب حرمت عائلات عدة نشأت على زراعة الوردة الشامية من مصدر رزقها الأساسي، فقطعت الطرقات إلى حقول المراح، وتمّ إلغاء مهرجان الورد المعتاد العامين 2012 و2013 مع اشتداد المعارك في المنطقة.
وعلى الرغم من الهدوء الذي ساد في محيط النبك منذ العام 2014، لم يعد إنتاج الوردة الشامية إلى سابق عهده، خصوصاً أنّ النزاع أجبر العديد من المزارعين في قرية المراح على مغادرة أراضيهم.
وبقيت عائلات قليلة حاولت الحفاظ على البساتين والمحاصيل، بينها عائلة بيطار التي يعمل أفرادها من الأجداد إلى الأحفاد في ما تبقى من مساحات مزروعة بالورد.
ويقول حمزة بيطار (43 عاماً): "لقد تعلّمت المشي على هذا التراب، وأنا أجني الورد منذ أن كان عمري خمس سنوات".
يتجول حمزة في حقول الوردة الدمشقية، يشرف على عمل المزارعين في قطف محصول العام الحالي المتضائل في بساتين المراح.
ويضيف: "انخفضت كميات إنتاج الوردة الشامية السنوية من ثمانين طناً في العام 2010، إلى أقل من عشرين طناً هذا العام بسبب الحرب والجفاف".
يروي حمزة مسيرة الوردة الشامية، "كنا ننقل الكثير من المحصول إلى سوق البزورية وسط دمشق، وهناك كانت تباع عشرات الأطنان إلى تجار لبنانيين متخصصين بنقله إلى أوروبا".
ويتابع: "يُعيد الفرنسيون تقطير الورد المجفف، ويدخل السائل المستخلص في صناعة العطور الفاخرة، بحيث ترد عبارة الوردة الدمشقية ضمن مكوناتها الأساسية".
البارود مكان الورد
تعود الوردة الشامية إلى آلاف السنين. وانتقلت زراعتها مع الزمن إلى دول عدّة بينها بلغاريا وفرنسا وإيران وتركيا.
أغرت الوردة الشامية كل من مرّ على الأراضي السورية فنقلها إلى أوروبا بشكل كبير الصليبيون منذ مئات السنين وسار على خطاهم الفرنسيون خلال فترة الانتداب في النصف الأوّل من القرن الماضي.
تتميز الوردة الشامية برائحة نفاذة زكية وبالاضافة إلى استخدامها في تركيب العطور، يستخدم شراب مياه الورد في الشرق في صناعة الحلويات كما في تعطير المساجد. وتعد في بعض الدول جالبة للحظ وخصوصاً في الأفراح. وهي تستخدم أيضاً في المستحضرات الطبية الطبيعية.
اعتاد أهالي دمشق وريفها سابقاً على شمّ رائحة الوردة الشامية أينما كانوا، فقد كانت منتشرة على جوانب الطرقات وفي الحدائق وعلى شرفات المنازل، أمّا اليوم فغابت وإن جزئياً مع تراجع الانتاج.
وفي سوق البزورية في دمشق القديمة، يتذكّر أبو بلال (52 عاماً) بحسرةٍ: "كان الورد منتشراً من جوبر إلى مرج السلطان (قرب دمشق)، كان الورد الشامي على الطرقات وفي الحدائق".
أمّا اليوم "فقد حلت رائحة البارود مكان رائحة الورد" كما يقول أبو بلال، نقلاً عن أصدقاء في مدينة دوما المحاصرة من قبل القوات الحكومية في الغوطة الشرقية.
لم يبق في سوق البزورية سوى متجرين اثنين فقط من أصل ثمانية لتقطير الورد، فيما تعمل المحلات الأخرى في بيع الورد المجفف.
وبحسب تجار في سوق البزورية، فإنّ استخلاص كيلوغرام واحد على الأكثر من زيت الورد يتطلب ثلاثة أطنان من الورد المجفف.
فريدة من نوعها
أغلق أبو بلال ورشته الخاصة لتقطير الورد في عين ترما في الغوطة الشرقية قرب دمشق منذ العام الأوّل للنزاع.
ويعمل اليوم في محل عطورات عربية بداً خالياً من المنتجات. ينفض الغبار عما بقي من بضائع في محله، ويقول: "لا تجد اليوم في السوق كلّه أكثر من ربع كيلو زيت".
ويضيف: "على الرغم من زرعها في دول أخرى، إلاّ أنّ الوردة الشامية فريدة من نوعها، بسبب رائحتها القوية، كما أنّ انتاجها للزيت يفوق شبيهاتها في الخارج".
أمضى أمين بيطار، المزارع في الثمانينات من عمره، حياته في العمل في حقول الورد في قرية المراح. يأخذ نفساً عميقاً وهو ينظر إلى حقله، قائلاً: "تناقصت المساحات المزروعة بالوردة الشامية أكثر من خمسين في المئة".
يجمع أمين الورد، ويحمله برفق ليضعه داخل سلّة إلى جانبه. ويضيف بينما كان جالساً على التراب بملابسه القروية التقليدية: "العلاقة مع الورد تتعدّى العلاقة الاقتصادية والبيع والشراء فحسب، بل أصبحت عاطفية، باتت الوردة الشامية جزءاً من عائلتنا".
وبقربه، يحمل جمال عباس سلته في مزارع المراح لجمع الورد، ينظر إلى الحقل أمامه ويتمنى أن يفارق "الحياة قبل أن أرى ورود المراح تموت".
(أ ف ب)
إضافة تعليق جديد