جامعة دمشق والتحولات الاجتماعية في المعرفة الوضعية

الجمل:   تعتبر جامعة دمشق المركز الأساسي الذي يجب أن ينقل ما أدت إليه الثورة العلمية والتكنولوجية من نتائج أكثر عمقاً في حقول الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وبالذات الجوانب المتعلقة بمنهج ومضمون عملية البحث العلمي والأكاديمي.
أدت أطروحة التحولات الاجتماعية في المعرفة الوضعية العلمية وفقاً لمنظور العولمة وما بعد العولمة إلى توسيع مجالات البحوث الاجتماعية والإنسانية بحيث تضم دراسات المناطق والقضايا والشؤون المتعلقة بها، ومن ثم أصبحنا نسمع في معظم جامعات العالم عن: دراسات أوروبية، دراسات آسيوية، دراسات افريقية، دراسات غربية.. وغير ذلك. وقد مثل هذا النوع من الدراسات تحولا جديداً يتجاوز من حيث المنهج والمضمون ثنائية الاستشراق (دراسات الغربيين حول الشرق)، والاستغراب (دراسات الغربيين حول الغرب).
حتى الآن على ما يبدو، لم تتمثل أو تستوعب لا جامعة دمشق ولا الجماعات العربية الأخرى ظاهرة العولمة كقوة مفهومية مؤثرة على كل حقول الدراسات الاجتماعية والإنسانية. وقد أدى ذلك إلى عدم تمدد مصطلح (العولمة) ضمن بنى الخطاب الأكاديمي العلمي الخاصة والعامة.
الحديث عن ضرورة تمدد مصطلح العولمة إلى بنى الخطاب العلمي والأكاديمي في جامعة دمشق وغيرها من الجامعات العربية، هو حديث ليس من قبيل التنظير أو التداعي الحر في الفراغ العلمي، بل هو حقيقة ضرورية لازمة، فرضتها تأثيرات العولمة الآتية:
• انتهاج التحولات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية الآتية.
- فلسفة العلوم وإسقاطاتها المعرفية والابستمولوجية.
- وحدات التحليل الكمية والنوعية.
- مناهج البحث وتطبيقاتها.
- المفاهيم العلمية، طبيعتها، مقاربتها، واشتقاقاتها.
• انعكاسات وإسقاطات تحولات العلوم الاجتماعية في مجالات دراسات الأقاليم والمناطق.
• ظهور الأشكال الجديدة من التواصل والتقاطع والتداخل بين العلوم الاجتماعية والدراسات الإقليمية والمناطقية.
لم تعد حالياً أي فرصة للمفاضلة بين نمط وآخر من أنماط المعرفة العلمية، وبشكل أدق، فقد  أصبح منظور ما بعد الوضعية يؤكد الآتي:
- لا توجد تعميمات ثابتة، فكل المفاهيم أصبحت تتميز بطابعها النسبي.
- الواقع الاجتماعي يتسم بالغموض، وفي كثير من الأحيان تطغى جوانب الغموض على جوانب الوضوح.
- لا يوجد منطق ثابت في الحياة الإنسانية وما يسود هو العشوائية، والعفوية، والنسبية.
- تفاصيل الحياة الاجتماعية لا يمكن استيعابها ضمن نظرية أو منهج واحد.
- لابدّ من التركيز على أنسنة الظواهر الاجتماعية.
- نزع الطابع الإنساني عن المناهج العلمية ترتبت على الكثير من النتائج الضارة بالحياة الإنسانية والطبيعية.
برغم كل الزخم والتدفق المتزايد لمنجزات العلم والتكنولوجيا، وثورة التعميمات الاصطلاحية والعلمية للمفاهيم الجديدة، مازالت جامعة دمشق وبقية الجامعات العربية تمثل جزراً معزولة عن بيئة المحيط العلمي العالمي.
العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة دمشق تدرس حصراً عبر كليات الاقتصاد والتجارة والآداب والعلوم السياسية.. وذلك على النحو الذي يجعل الطالب لا يتعلم سوى نظريات وضعية منزوعة الصلة عن سياقها الإنساني، ولم نسمع حتى الآن عن مجرد رغبة جامعة دمشق في إقامة مركز للدراسات الأوروبية، أو الآسيوية أو الافريقية، أو حتى الدراسات العربية.
من بين سائر الدراسات الإقليمية، يمكن القول بأن الدراسات العربية يجب أن تمثل واحداً من المهام المحورية الأساسية لجامعة دمشق، خاصة وأن سوريا تتميز بالقيمة المضافة في كافة الاعتبارات المتعلقة بمجال القوة القومية، والتي أكدت الدراسات الحديثة بأنها تلعب دوراً أكثر أهمية من القوة العسكرية والقوة الاقتصادية.
كل جامعات العالم الرئيسية أصبحت تهتم بالشؤون العربية، وتفرد لها الكثير من مراكز البحوث والدراسات والمعاهد المتخصصة. حيث الشعور منخفضاً بأهمية وأولوية الدراسات العربية.
إن قيام مركز أو معهد أو وحدة الدراسات العربية هو أمر لازم، حتى يعرف العرب نفسهم قبل العالم الإجابة على العديد من التساؤلات وحقيقة الطروحات المتعلقة بـ:
- كيف تكوّن العالم العربي.
- من هم العرب، وما هي العروبة.
- ماذا يحدث حالياً في العالم العربي.
- ما هي نظرة العالم العربي للآخرين، وكيف ينظر الآخرون للعالم العربي.
- ما علاقة سكان العالم العربي المعاصر بسكانه القدماء.
- ما تأثير الحضارات القديمة من الحضارة العربية المعاصرة.
- ما هي النماذج التي يمكن المفاضلة بينها في اختيار النموذج الأمثل لنمو وتقدم وتطور العالم العربي.
- كيف يبني العرب علاقاتهم مع الآخرين، وما هي نماذج السياسة الخارجية العربية.
- كيف يمكن تقديم قراءة للعلاقات العربية- الأوروبية، والأمريكية، والآسيوية، والافريقية.
الكثير من الأسئلة سوف تظل خارج دائرة اختصاص كليات التجارة والآداب، ولن يجيب عليها إلا معهد الدراسات العربية الذي نأمل أن يتم إنشاؤه في أسرع فرصة، حتى نتقدم في فهم ذاتنا وفهم الآخرين خطوة للأمام، بعد أن ظللنا نتراجع خطوتين للوراء من جراء تخلفنا وتقدم الآخرين.
ونتمنى أيضاً أن تتفضل جامعة دمشق بتبني هذا المشروع، حتى يأتي طلاب الدراسات العليا من شتى بقاع العالم، ويدرسون الأوضاع العربية على أيادي الأساتذة والعلماء العرب، بعد أن ظل مثل هؤلاء الطلاب يقعون فريسة لأساتذة الدراسات العبرية في جامعات اكسفورد وهارفارد والسوربون وغيرها.

الجمل: قسم الدراسات والترجمة