حرب الشائعات عن روسيا وسوريا: الأسد ليس يانوكوفيتش
لم يكن ليجد المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، أفضل من الحملة الإعلامية من مواقع وشخصيات روسية ضد الرئيس بشّار الأسد، كثناء وتأكيد على آرائه وأهداف إدارته، التي سوّقها في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» قبل أيام، واختصر فيها مجمل السياسة الأميركية تجاه سوريا.
جيفري، الذي حدّد أهداف الضغوط على الرئيس لدفعه إلى تقديم تنازلات في صُلب السياسة السورية منذ عام 1970 حتى اليوم، استخدم كمّاً هائلاً من العبارات المهينة لشخص الأسد، ما كشف عن حقد أميركي كبير في أكثر من مناسبة، على صمود سوريا و«عناد» الأسد، وتماسك علاقتها مع حليفتيها روسيا وإيران.
لكنّه، بخبثٍ شديد، وضع فخاخاً عدة في مواقفه، مغازلاً الدور الروسي في سوريا، إذ أوحى المبعوث الأميركي بوجود تفاهمات مع الروس على حساب المصلحة السورية، لكنّه لم يقدّم أي معلومات عن المحادثات بين الجانبين، بقصد زرع الشّك وزعزعة الدولة السورية وثقة مواطنيها وتشديد الضغوط السياسية والنفسية على الرئيس، في استكمالٍ لحرب الشائعات واستغلالها، والتأسيس عليها قبل عام من موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كيف انطلقت حرب الشائعات؟
الحملة الإعلامية على الرئيس السوري ليست الأولى من نوعها. يواجه الأسد منذ ما قبل عام 2011 أقسى ما يتعرّض له أعداء الأميركيين من أفعال مباشرة وشيطنة إعلامية مستمرّة. إلّا أن الحملة الأخيرة التي توّجتها تصريحات جيفري انطلقت من مصدرين: الأوّل هو ما نشرته «وكالة الأنباء الفدرالية» (يارافان) التي يملكها يفغيني بريغوزين (المعروف بطبّاخ بوتين) في 13 نيسان/أبريل، عبر ثلاثة تقارير تتّهم فيها الرئيس وزوجته أسماء بالفساد، من بينها استطلاع للرأي. أمّا الثاني، فهو المقال التحليلي الذي نشره في 17 نيسان، السفير الروسي السابق إلى الجزائر إلكسندر إكسينيوك، مفترضاً حدوث «توافق روسي إيراني تركي على تنحية الأسد».
أجرى استطلاع الرأي في «فان»، الباحث في الاجتماع السياسي الروسي ألكسندر مالكيفيتش (أحد المقرّبين من بريغوزين) على عيّنة من ألف مواطن سوري. وبحسب الوكالة، خلص الاستطلاع إلى أن «32٪ فقط من السوريين ينوون التصويت للأسد في الانتخابات الرئاسية عام 2021»، فيما سمّى مالكيفيتش بدلاء محتملين للرئيس، وضرورة أن يسمح الأسد لشركات روسية بـ«الاستثمار»! لكن التقارير صمدت أربعة أيام على موقع الوكالة قبل أن تُزال، وتُعلن «فان» أنّ مواقعها تعرّضت للقرصنة من متطرّفين أتراك، ومحا مالكيفيتش استطلاعه عن موقع بحثي خاص به. وبدل ذلك، دأبت الوكالة مذّاك، على نشر المقالات المؤيّدة للرئيس السوري.
يقدّم بريغوزين، رجل الأعمال المقيم في مدينة سانت بطرسبرغ، إلى الحكومة الروسية سلّةً من أدوات التأثير الدولي من خلال ماكينة إعلامية محترفة بالحرب الإلكترونية هي «وكالة أبحاث الإنترنت»، وشبكة أمنية هي «فاغنر». وهذا الدور تعرّض مراراً لانتقادات من وسائل إعلامية موالية لبوتين، ومن الجيش والاستخبارات، حول محاولات «الطّباخ» تسخير الحكومة الروسية لخدمة مصالحه. كما ذكرت تقارير أن العلاقة بينه وبين الكرملين لم تكن على وئام دائم، مستندةً إلى حادثة مقتل عشرات المقاتلين من «فاغنر» بنيران مروحيات أميركية في بلدة خشام في دير الزور، نتيجة سوء التنسيق بين الشركة الأمنية والقوات الروسية في سوريا، وتباين الأجندات.
تتقاطع عدة مصادر ، في دمشق وموسكو، على التأكيد لـ«الأخبار» أن بعض مصالح بريغوزين تضرّرت في سوريا خلال المدة الماضية، مع فرض الدولة السورية سيطرتها على مواردها في المناطق التي تمّ تحريرها من سيطرة «داعش». كما أن استعادة الدولة قدراتها وحيويتها مع انحسار الحرب تنهي أعمال السمسرة وأدوار «الوسيط» الاقتصادي الذي يلعبه بريغوزين وغيره من سوريين وروس. لذلك، يُدرج الانطباع العام الحملة الإعلامية في يارافان ضمن محاولات بريغوزين للحصول على عقود معيّنة من الدولة وحماية مصالحه. ومن المهمّ هنا أيضاً العودة إلى تحقيق استقصائي أجرته منصة روسية معارضة في نيسان 2019، حول أنشطة بريغوزين للتأثير على العمليات الانتخابية في نحو 20 دولة أفريقية. وتبعا لذلك، إنّ الهجوم الإعلامي الأخير قد يصبّ ضمن هدف محدّد هو محاولة التأثير في الانتخابات السورية كاحتمال أول، أو تشويه صورة رجال أعمال سوريين منافسين له وتحريض القيادة السورية ضدهم (وخصوصاً أن التقارير الأخيرة أشارت صراحة إلى أشخاص يعوّقون دخول شركات روسية إلى سوريا).
أمّا ما كتبه السفير اكسينيوك، فهو لم يكن دراسة صادرة عن «المجلس الروسي للعلاقات الخارجية»، كما ردّدت وسائل إعلامية عربية وأجنبية عدة، وإنما مقال تحليلي نُشر بداية في صحيفة «كومرسانت» (تنشر انتقادات للحكم في سوريا دائماً)، وأعاد نشره موقع المجلس، على اعتبار أن كاتبه يشغل منصب نائب الرئيس. وللعلم، فإن اكسينيوك لم يكن سفيراً في سوريا، إنّما تولّى دوراً دبلوماسياً في دمشق خلال الثمانينيات (وزير مفوّض)، وينتقد الحكم دائماً في مقالاته، مع أن ما كتبه أخيراً كان الأكثر حدّة. فضلاً عن أن «المجلس الروسي» وهو مركز بحثي، لا يمثّل أي جهة رسمية في روسيا، ومعروف بتوجهاته الداعمة للتعاون الروسي ـ الغربي.ومن يتابع الصحافة الروسية، يلاحظ دائماً وجود مقالات نقدية تجاه السياسة الروسية في سوريا والدولة السورية وحتى الرئيس. كما أن وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية (ريا نوفوستي، تاس، إنترفاكس، روسيسكايا غازيتا...) لم تنشر أو تنقل أيّاً من التقارير السابقة، ولم تنخرط لا من قريب ولا من بعيد في الحملة.
من كوهين إلى «بلومبرغ»
طبعاً، أهمل أعداء الرئيس السوري مصدر الحملة الإعلامية وظروفها، وسرعان ما اكتسحت التحليلات أوّلاً الإعلام العبري. فنسج محلل الشؤون العربية إيهود يعاري المقرّب من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية سيناريوات عن علاقة سيئة بين بوتين والأسد، ومثله فعلت القناتان الأولى والثانية ثم تبعتهما الـ12 و13.
وبرزت مقالة لافتة في موقع «نيوز 1» العبري للكاتب يوني بن مناحيم، يربط فيها بين ما نشر في روسيا، ورجل الأعمال السوري رامي مخلوف الذي تحرّكت الحكومة السورية أخيراً تجاه أعماله وشركاته لتحصيل العائدات المستحقّة للدولة، ولا سيّما في قطاع الاتصالات. وأوحى مناحيم أن مخلوف يقف خلف الحملة الإعلامية في روسيا، وأن هناك صراعاً بين عائلة الرئيس وعائلة مخلوف، تعكس صراعات بين روسيا وإيران على موازين القوى في البلد.
الانخراط الإسرائيلي في الحرب الإعلامية الموجّهة ضد الأسد كان قد بدأه «الإعلامي» الإسرائيلي إيدي كوهين على حسابه على «تويتر»، المعروف بتسويقه للدعاية الإسرائيلية وبثّ الشائعات حتى قبل بدء الحملة في روسيا بعشرة أيام، كما يلاحظ الكاتب والباحث في الشؤون الروسية بسام أبو عبد الله. إذ نقل كوهين في 3 نيسان عن «مصدر أجنبي» أن «خروج الأسد من السلطة نهائياً سيكون في يوليو (تموز)»، وتناقلت تغريدته وسائل الإعلام المحسوبة على قطر وتركيا والمعارضة السورية، قبل أن تنتشر الشائعات والتحليلات كالنار في وسائل الإعلام الغربية التي أعادت تدوير ما نشر في روسيا والبناء عليه، وآخرها ما كُتب في «لوموند» و«بلومبورغ» الأسبوع الماضي، مروراً بـ«الشرق الأوسط» ووسائل الإعلام السعودية.
وربّما ترك الصمت الرسمي الروسي المعتاد في بداية الحملة مجالاً للشكوك لدى العديد من المتابعين حول حقيقة الموقف الروسي من الأسد أو الدولة السورية. لكنّ البيان الذي خرج من الكرملين بعد أيام على ما نُشر في روسيا قطع الشكوك، حين أعلن المتحدّث الرسمي باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، أن الوكالة الفدرالية تعرّضت مرتين لهجمات إلكترونية، وأكّد أن «ما ينشر عن سوريا يراه الكرملين سلبياً للغاية»، وأن «المعلومات الكاذبة ترتدّ على الصحف التي تنشرها، وهي أقرب للصحافة الصفراء».
حملة من الداخل والخارج
أبو عبد الله الذي يشارك دائماً في ورشات عمل وحوارات لمراكز دراسات روسية يقول إن «العلاقة الروسية ــ السورية لا تمرّ عبر المواقع الإلكترونية والصحافة، والخطوط دائماً مفتوحة بين الرئيسين». لكنّه يؤكّد أن «هناك أطرافاً داخل روسيا ذات اتجاه ليبرالي غربي، موجودة ومعروفة وتقرأ العلاقة من منظار مافياوي اقتصادي ليس كما يراها الكرملين بصورتها الاستراتيجية. وهؤلاء حقيقة موجودة في موسكو ولا يعبرون عن السياسة الخارجية، والكرملين أكثر عمقاً وأدباً وحصافة في التعامل مع سوريا، ويدرك المسؤولون الروس الحساسية العالية لدى السوريين تجاه موضوع الاستقلال الوطني والقرار المستقل». ويضيف الخبير أن «التحليل بوجود تيّارات داخل روسيا صحيح، وهذا أمر طبيعي، وخصوصاً أن الرئيس بوتين حمل إرثاً ثقيلاً من مرحلة الرئيس بوريس يلتسين».
أمّا السفير الروسي في بيروت، ألكسندر زاسبيكين، فيهزأ ممّا يسمّيه «حملة الأكاذيب لإثارة البلبلة». يُذَكِّر زاسبيكين بالبيان الذي أصدرته السفارة في بيروت الأسبوع الماضي، معتبرةً أنه «ما من داعٍ للردّ على الأكاذيب»، وأن «المحللين الذين يزعمون أن روسيا تفكر بمقايضة مع أميركيين أو أتراك على حساب سيادة سورية يجهلون حقيقة الموقف الروسي... وروسيا لا تقبل أي صفقات مشبوهة مريبة أو اقتراحات «مغرية» على حساب الغير». ويقول إن «الرؤية مشتركة للأزمة الواسعة والقضايا المتعددة بين روسيا وسوريا»، وملفّ «مكافحة الارهاب هو الشيء الثابت والمطروح بكل جدية خلال المرحلة الحالية والقادمة في إدلب وغيرها، ثم تطبيع الأوضاع والتقدم نحو الحل في سوريا. هذا الشيء الأهم. وهذا يتحقّق بالاشتراك والتحالف الروسي والسوري والحلفاء الآخرين».
ويربط السفير الروسي الحوار بين زعماء الدول الخمس الكبرى، الذي دعا إليه بوتين مطلع السنة الحالية، وصار ضرورةً أكبر بعد أزمة كورونا لـ«إيجاد قواسم مشتركة وتنقية الأجواء»، وبين المصلحة الروسية بالعلاقة الوثيقة مع الأصدقاء والحلفاء من الدول وأوّلها سوريا، معتبراً أنها «شأن أساسي لموقف روسي قوي في أي حوار مقبل». ولا ينسى زاسبيكين التذكير بالحملة الإعلامية من خلال «منظمة حظر الأسلحة الكيميائية» التي تمارس ضد روسيا وسوريا في وقت واحد، مؤكّداً أن «الموقف الروسي ـ السوري موحّد في وجه الدسائس».
ولا تفصل عدة جهات بين الحملة الخارجية على الأسد بأشكالها المتعدّدة، والحملة الداخلية من بعض رجال الأعمال ومراكز النفوذ التي نمت خلال الحرب في داخل سوريا. وتعزّزت هذه القناعة مع الضّجة التي أحدثها مخلوف خلال الأيام الماضية، ونشره مقطَعَيْ فيديو، الأوّل يطلب فيه من الأسد ما أسماه «رفع المظلومية» عنه، والثاني يعلن فيه رفضه ما تطلبه اللجنة المكلّفة استرجاع حقوق الدولة من أعماله بعد إجراء تحقيقات مالية وضريبية. كما شنّ هجوماً على الأجهزة الأمنية السورية لقيامها بتوقيفات طاولت موظفين كباراً في مؤسساته، للاستماع لأقوالهم.
يلخّص أبو عبد الله كثافة الضغوط على الأسد وتقاطع المصالح بين المتضرّرين من دوره، إلى ثلاثة مفاصل: «الأوّل هو استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي وصلت إليها البلاد بفعل الحرب وشبكات الفساد والحصار وفيروس كورونا لتحريض السوريين ضدّ الدولة والرئيس»، والثاني هو «تكبيل الرئيس بما يمثّل من قائد للدولة الوطنية في وجه منطق العصابات الذي يحاول تكريسه البعض بعد الحرب لتحويل سوريا إلى دولة فاشلة بدل دعم الدولة للاعتماد الكلي على مقدراتها الذاتية ومواجهة الحصار»، والثالث «هو محاولات فرض سقف للتفاوض مع الرئيس على شكل النظام المقبل لانتزاع تنازلات منه». ويختم: «لكن الجميع يعرف أن الرئيس الأسد ليس الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، وما لم ينالوه بالحرب لن ينالوه بالضغوط».
فراس الشوفي
إضافة تعليق جديد