حنا مينة: التوعية لا الحب.. والقلق لا الطمأنينة!..
كثيرا ما يتساءل، رجال ونساء، وفي حالات التأزم النفسي خصوصا عن ظاهرة يحسبونها في النادرات من الظواهر، تدور حول مسألة بسيطة غاية البساطة، معقدة غاية التعقيد، تتعلق بحالة الحب، الذي كان شبوبا قبل الزواج، بين فتى وفتاة، ثم فقد حرارته، وفتر اواره، وانتهى بعد الزواج، إلى ما يشبه الموت البطيء رغم محاولات الزوجين، بعث الحرارة فيه من جديد، أو الصعود به بعد الهبوط أو احيائه بعد موت، وتذهب جهودهما مذروّة مع الريح، متناثرة كقصل حبات الشعير، عندما تشيل بها المذراة في الفضاء، دافعة القش مع التيار، ليبقى الحب وحده على بيدر يتنامى شيئاً فشيئاً، غير مدركين، اي الزوج والزوجة، أن كل ما يولد ينشأ وبعد النشوء يكون الكبر، ومع الكبر تأتي الشيخوخة وفي طواياها الموت الذي لا راد له، لكونه من سنن الحياة في مجراها أزلا وأبداً!
ان حكاية الحب، ككائن نفسي وفيزيولوجي معا، هي حكاية هذا النشوء فالارتقاء فالاندثار التدريجي، أو التحول من حال الى حال، وفق شرعة التطور، فالتبدل، فالانتقال من حب بين قلبين، الى حب للأسرة بعد الإنجاب والى بناء هذه الاسرة بالتفاهم المشترك نزولا عند ارادة الطبيعة، التي لا يبقى فيها شيء أو كائن، او موجود، على الحال التي خلق على اساسها لكنه في الظن، خلبيا، إنه ثابت، وكالثبوت، هنا، مخالف للحركة، والحركة، في الطبيعة والأشياء، هي القانون هي الناموس، هي جوهر الوحدة التي تحمل في ذاتها تناقضها، وهذا التناقض يولّد قسريا، التبدل، ولن يجد الانسان لسنة التبديل تبديلا!
ذلك ان الحب مرض وهو مرض لذيذ، سعيد من ابتلي به وأقل سعادة من شفي منه بسرعة وشقي من لم يعرفه، فعاش محروما من لذاته، ولأن الحب مرض، فإنه إلى شفاء ثم إلى موت، ولا خيرة في الأمر، وعبث كل تحايل كل وهم كل انخداع في إبقائه على ما كان عليه، يوم الاصابة به، ولا بد من التسليم بما هو واقع، بما هو موضوعي، وعلى اتساق مع مجرى الاحداث، في سيرورتها، وصيرورتها معا، والحب هذا المرض اللذيذ حدث من الاحداث وخاضع بدوره لمنطق الاحداث التي تعطي للأشياء تاريخها الاجتماعي وكل انسان في هذه الدنيا ابن تاريخه الاجتماعي في المحصلة.
لماذا الأمر كذلك وليس غير ذلك؟ وكيف علينا ان نتصرف حيال واقع موضوعي كهذا، وأي فهم لهذا الواقع ينبغي ان نتحلى به؟ وبأية خشبة نتمسك حتى لا نصدم فنقع ضحية جهلنا؟ واي شفاه هي البخيلات بين الشفاه؟
في الجواب عن هذه الأسئلة، أو بعضها على الاقل، لابد أن ندرك وبوعي أن قانون التحول يستحيل نقضه، والتصرف العاقل حياله هو في فهمه والتصرف من منطلق هذا الفهم في تقبل نتائجه، وكل شفة حسب تساؤل الشاعر بدوي الجبل، هي شفة بخيلة إلا شفاه الزوجة، لأنها مبذولة في كل وقت، وكل مبذول مآله الملل وسبب هذا الملل دخوله مرحلة الطمأنينة، والطمأنينة تقتل الرغبة ودون رغبة تصبح آلية الاشتهاء منعدمة، وعندئذ لا فائدة من بعثها، ولابد من تقبل اللقاء بين الزوجين على أنه واجب فقط، واجب لا أكثر، وهذه حال أغلب المتزوجين، الذين يعون أن ضرام الحب مضى، انطفأ، قام مقامه حب من نوع آخر، هو حب بناء الأسرة السعيدة على نحو ما، في عالمنا هذا الذي باتت السعادة فيه طائر فينيق، أو هو العنقاء الخرافية.
أما بالنسبة إلي فإن الطمأنينة لم تعرف سبيلها الى قلبي، فأنا أعيش القلق زادا يوميا، وهذا من حظي الابيض، فالطمأنينة تقتل الحب والإبداع، ودونهما لا أدب ولا فن، ودون الأدب والفن، يجد أكثر الناس كل ما حولهم فراغاً لافتقارهم الى البهجة التي تمدهم بالأمل، وبالرجاء في مستقبل أفضل، حتى لا تقتلهم الحسرة!
لذلك أبارك القلق، الذي قال عنه بودلير «يا للوحش المفترس» وأبارك القلق لأنه الدافع الى اكتشاف المجهول، وهذا الاكتشاف هو غاية الابداع، كما أبارك القلق الذي باركه الفريد دي موسيه، ونفذ الى سره شاعرنا المتنبي، الذي قال: «على قلق كأن الريح تحتي/أوجهها يمينا أو شمالا» وأبارك القلق ثلاثا في العيش والكتابة رغم ان القلق جعلني اضطرب مثل نورس في ريح العاصفة المجنونة فوق اللجة الزرقاء، التي منها اخذت شفاهي وكلماتي، واباركه ايضا، لأنه عمدني في النار الملتهبة، لا في مياه نهر الاردن الطهور، وقد وسمت هذه النار جبيني وظلت جذوتها متقدة في دمي، وفي هذا الدم غمست براعتي، ولا أزال استسقيها الارجوان في شراييني.
إن الهاجرة في يتم السراب، وومضة البرق، في نيزكة الانخطاف، والمجرة في شعشاع توهجها، قد اغرتني جميعها، في اقتباس الحجر الكريم في لألائه، ومنه صنعت قلادة للتي كانت، وما كانت، فظلت، في المبتغى، رجوة حلم، يراود ومراودته سراب هاجرة في تيه بيداء.
إن هذا الحلم هو كل دنياي، وما نفع دنيانا بغير أحلام؟ بل ما نفعها اذا تكسرت احلامنا ولم نصلها بايدينا؟ إنما الحلم سيف، والسيوف بالأيدي توصل، حين القدم، في غمار المعارك، يكون من تحت اخمصها الموت أو الحياة، والحياة توهب دائما للمقادين، لا للقعدة الذين يهابون المنية، وهم اليها، عاجلا أو آجلاً، صائرون! ثم لماذا علينا أن نحلم، أو نخترع الاحلام، أو نعيشها هبوة عزم، في الدفاع عن انفسنا ووطننا وشعبنا؟
الجواب بسيط: حتى لا نسقط في العدم! حتى تبقى لنا قضية، وكي يكون لنا هدف، وتزهر في جوارحنا غاية، فإذا انتفت هذه الاقانيم كنا أحياء أموتا، وصح فينا قول جبران خليل جبران: «دعوا الموتى يدفنوا موتاهم» وحاشا أن نصير الى هذا البؤس، إلى هذا القنوط، إلى هذا الدرك الذي نصبح معه موتى، «وشر ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسير» قولة شاعرنا الكبير بدوي الجبل.
هناك ناس من الناس أقرب الى الغفلة، حين يحسبون ان خمسا أو عشرا من مقالاتهم «الثورجية» تغير الدنيا من حال الى حال» فإذا لم تغير، وهي لا تغير طبعا، وقعوا في «وادي الجماجم» ومن قاعه السحيق ينادوننا: لا فائدة! كفوا عن النضال، توقفوا عن بناء القصور في اسبانيا، أو محاربة طواحين الهواء مع سرفنتس، لكننا نحن أو الكثرة فينا نضحك من هذا الهراء الصادر عن لعبة «خبث الشعور» وما فيه من إغراء بالراحة، لأنه في زعمهم «لا فائدة من الفناء لأجل البقاء» فالمعري طيب الله ثراه، قال «غير مجد في ملتي واعتقادي، نوح باك أو ترنم شادي» دون أن نفطن إلى أن هذه القصيدة الفلسفية قد كان سببها «لزوم ما لا يلزم» أو الحرمان الذي عاناه شيخنا من إصراره على عدم تدوق التفاحة المباركة، فسأله من سأل: «يا ناكر التفاح في وجناتها/ لو ذقت بعض شمائل التفاح؟».
أعرف دور حواء في هذا الوجود، وأعرف زعامتها يوم كان «عهد الأمومة» الذي مضى وانقضى واني لنصير المرأة ولكن بتحفظ، وأخالف قاسم أمين في أمور كثيرة، أولها أنه اندفع في نصرتها دون انتباه الى ضرورة تربيتها، فحب المرأة وحب الشعب، دون تصحيح الخطأ في حبهما، يذهب هذا الحب بددا، لأن علينا أن نكون في المربين، لا في المحبين، لان الحب هنا فيه تسليم بالأخطاء، وكل حب من هذا النوع هو حب أعمى!
«إن في الحسن يا دليلة أفعى/ كم سمعنا فحيحها في سرير» فالبصير البصير في حب الأنثى، ينقاد كالضرير الضرير، وهذا الانقياد يضر بنا وبها، وهذا ما أرغب في التنبيه اليه، مع اعترافي بأن المرأة في هذا الشرق مظلومة، مغلوبة على أمرها، مضطرة، أحيانا إلى بيع جسدها للحصول على رغيفها، «فرب أنثى يخون البؤس هيبتها، والبؤس أعمى، فتعيا ثم تنقلب» إلا أن هذا الاعتراف ليس فيه جنف عما سلف من ضرورة تربية المرأة مع حبنا لها، وتربية الشعب مع حبنا له، وفي هذا مسؤولية المبدع، الذي عليه أن يصوغ وجدنا البشر، وفي الصياغة هذه تقويم، لا تدليس ولا تمليس، ولا انجراف مع قولة «النساء لعب الرجال!» فيما سلف من الزمن، أما الآن فقد تحررت المرأة الى حد ما، بالعمل والعمل، وصارت شريكة الرجل لا لعبته فقط، لكنها في المضمر من سريرتها، ما برحت دليلة تغدر عندما تستطيع، بالرجل، كما غدرت دليلة بالرجل، فهدم الهيكل انتقاما وقال قولته الشهيرة «علي وعلى أعدائي يا رب»!
حنا مينة
إضافة تعليق جديد