حياتنا المليئة بالفراديس المفقودة

22-10-2019

حياتنا المليئة بالفراديس المفقودة

الحنين إلى الماضي وسيلة يلجأ إليها الشباب للهروب من سوء الواقع وضغوط الحياة، وبعد سنوات الحرب هذه، فقد صار الماضي في نظرهم أفضل من الحاضر بكل تأكيد.

وأصبح من النادر أن تخلو جلسة للأصدقاء من الجمل التي أصبحت معتادة في سياق حديثهم “الله يرحم أيام زمان، بتتذكروا، هيديك أيام وهي أيام؟!…”.

لقد غيرت الحرب واحدة من السمات الأساسية للشباب، فهم الذين يتطلعون عادة إلى الأمام.. إلى الغد، صاروا اليوم ينظرون إلى الماضي، ويتحسرون على وضع البلاد ويأسفون لحجم الدمار والخراب، ويتمنون عودة أيام زمان، ويتملكهم الحنين بشكل دائم، وحسب توصيف طبي نفسي فهذا الشعور يطلق عليه اسم “نوستالجيا”.

“النوستالجيا” هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، وأصل الكلمة يرجع إلى اللغة اليونانية إذ تشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة للماضي وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد، تم وصفها على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب، وفي الغالب النوستالجيا هي حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها.

والنوستالجيا حالة فردية تحدث لكل شخص وحده، ويشترك فيها كل البشر. في الآونة الأخيرة، هناك تيار جماعي من الحنين إلى الماضي على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تشترك أعداد هائلة من الشباب في هذا الحنين إلى أزمنة لم يعيشوها أصلاً، فترى صوراً جميلة لبيوت ووجوه أو شوارع أو مسارح من دمشق أو حلب في الخمسينيات من القرن الماضي تصبح مادة جميلة يشاركها الآلاف من الشباب ويتغنون بها على صفحاتهم الخاصة تحت عنوان “أيام الزمن الجميل”.

والمدهش أن هؤلاء الشباب الذين لا يكفون عن العراك حول ما يحدث الآن، يظهرون متفقين على أمر واحد، وبالإجماع: الماضي الذي لم يعيشوه أجمل بكثير.

بشرى محمد (26 عاماً) عبرت عن حنينها للماضي، بتعلقها بالدراما السورية القديمة مثل (مسلسل الفصول الأربعة، حمام القيشاني، خان الحرير…)، وتقول: “مسلسلات أيام زمان كانت أجمل، وكانت الحياة أبسط، وحتى الأجواء العائلية كانت مريحة أكتر وما كانت بعيدة عن الواقع متل هلق”.

فيما تحدث يوسف (27 عاماً) عن أن “الحنين بيتملك الكل، أوقات بتحكيلي أمي عن حلب كيف كانت، وكيف كان عبد الحليم حافظ يرجف وقت يغني فيها، بتحكيلي عن حارة بيت جدي وكيف كانوا يلعبوا، يا زلمي حتى الألعاب اختلفت.. بذمتك هاد زمن وهيداك زمن؟!، إذا بتسألني هلق شو طموحك؟ رح قلك أني عيش ببيت جدي يلي كان بحارة قديمة وما كان في تلفزيون ولا غسالة ولا أي شي متطور بس للأمانة كان في حب ودفا وعيلة بتسمع بعضها وبتحب بعضها”.

أما ريتا (22 عاماً) فتحدثت عن حنينها للماضي بحبها لموضة الفساتين القصيرة التي كانت رائجة في الستينات من القرن الماضي “هلق وقت أمي تفرجيني صورها بقول يا الله موضة أيام زمان كانت ما أحلاها، كيف كانت الصبية تلبس هالفستان يلي مليان بالألوان وتروح لتحضر حفلة لـ أسمهان أو تحضر أمسية شعرية بالصالونات الثقافية، هلق ما عاد في من هالقصص، يا ريت لو بقينا علقانين بهيديك السنين”.

بينما رأت يارا (26 عاماً)، أنه على الرغم من تعلق البعض بالحاضر إلا أن الشخص عادة ما يميل للماضي، وأضافت أنها تميل لذكريات مرحلة الثانوية وأصدقائها.

وتقول الدكتورة رفيف البني إن “الشباب يشعر بالحنين للماضي لأنه لم ير نفسه في الحاضر”، وأضافت أن “الفرد عندما يتقدم به العمر ويشعر بضغوط الزمن يحن إلى مراحل طفولته ومراهقته، وكذلك الأمر على مستوى الشباب إذ يرتبط الحنين إلى الماضي بعوامل ومؤثرات عدة في مقدمتها الإحباطات”.

وأشار عادل (25 عاماً)، وهو شاب مقيم في برلين، إلى أنه في كل جلسة يجتمع فيها مع الأصدقاء “اللاجئين أيضاً”، لا ينفكون عن الحديث عن أيام الزمن الجميل في سوريا، ومحور حديثهم يكون عن سوريا قبل سنوات الأزمة التي دفعتهم إلى الهجرة، ويختم حديثه “أوقات على قد ما بكون مشتاق للبلد، بفتح صفحات الفيس وبقعد بتفرج وبصير إبكي وبقول: هالله هالله يا زمان، عندي أمنية وحدة بالحياة أني أقدر أرجع وشوف البلد متل ما كان قبل ما تبلش هالحرب”.

بينما تحدثت نسرين (28 عاماً) بشيء من الخجل: “بتمنى توصلني رسالة حب قديمة مكتوبة بالأيد وعليها الطوابع والصور متل الرسائل يلي موجودين عند أمي ويلي كل يوم بترجع بتقراهم وبتصير تضحك لحالها وتبكي”.

لابد أن النوستالجيا عند الشباب نوع من أنواع الاحتجاج على ما حولهم، فهم لا يكفون رغم ذلك عن إبداء رأيهم الغاضب في ما يحدث حولهم، وهم إذ يدخلون إلى وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن جمال لم يعيشوه بسبب وجودهم في زمن الحرب، فالأمر يبقى نوعاً من أنواع الحنين اللا إرادي، الذي يزيد وسيزيد كل يوم بسبب الإحباط الذي يحاصرهم في كل مكان.

 




الأيام -  عزام عبد المجيد علي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...