خلعوا الخزنة وقبضوا على البرنامج
لا يمكن لهذا أن يحدث في مكان آخر سوى التلفزيون السوري:
منذ ثلاث سنوات تقريبا قررت إدارة التلفزيون إنتاج برنامج عن الاغتراب وكلفت له المخرجة منال صالحية التي تنتمي إلى ذلك الصنف الموشك على الانقراض من الذين مازالوا يحبون العمل أكثر من البونات, فانطلقت هذه بكل ما أوتيت من سذاجة ترافق عادة أولئك الذين يأخذون المسائل على محمل الجد, وبعد أيام طويلة من العمل الشاق عادت فرحة بالحلقة النموذجية (بايلوت) . ولكن, وكما يحدث في قصص دينو بوتزاتي, كان جميع من في التلفزيون قد نسوا تماما موضوع البرنامج, فراحت المخرجة, طيلة أشهر مضنية, تحاول إنعاش ذواكرهم متوسلة من أي مدير أن يشاهد ولو بضع دقائق لتعرف ما الذي عليها أن تفعله بعد ذلك.. ولكن عبثا فقد كانت كما لو أنها قادمة من حكاية أهل الكهف...كان النسيان قد طوى حلقتها وبرنامجها, وربما هي نفسها أيضا.
وأخيراً استسلمت فأودعت شريط الحلقة في خزانتها قبل أن تسافر في مهمة إلى الخارج. وفي هذه الأثناء, (أرجو ألا أكون قد تسببت لكم بالملل بعد), قررت الإدارة أن ترمم النقص في مكتبة التلفزيون وتستعيد جميع الأشرطة المعارة إلى مخرجين ومنفذين ومعدين ,وكان القرار صارماً: (من لا تجدوه في مكتبه اخلعوا خزانته وصادروا محتوياتها) وهكذا عادت المخرجة المسافرة لتجد خزانتها محطمة وأشرطتها مصادرة وبينها بالطبع شريط الحلقة إياها, ولكن وقبل أن تكمل صيحتها الهلعة طمأنها زملاؤها بأن عملية (السطو) كانت نظامية ومنظمة إذ أعطيت محتويات كل خزانة رقما معينا وما عليها إلا أن تنزل إلى المكتبة وتسأل عن رقم خزانتها وهو (32), غير أن موظف المكتبة كان أمينا ومباشرا فقال انه لا يعرف شيئا عن الرقم 32 سوى انه حاصل ضرب الثمانية بالأربعة وبالتالي فعليها أن تذهب للبحث عن شريطها في جحيم آخر بعيداً عن هنا !!
مرت شهور أخرى راح فيها مدراء وجاء مدراء..وفجأة, ودون أن يعلم احد كيف أو لماذا, استيقظت ذاكرة احدهم على البرنامج المنسي وطالب المخرجة باستعادة الحلقة الضائعة ثم حولها إلى لجنة تحقيق مؤلفة من رجال وقورين استمعوا بصدر رحب إلى أقوالها ثم اتخذوا قرارات غامضة حفظت ككنز مكنون في أدراج حصينة ..
بعد سنة أخرى, أي إلى ما قبل أيام قليلة من الآن, وقفت الإدارة أمام استحقاق هام وهو مؤتمر المغتربين الوشيك فتذكرت مرة أخرى أن هناك احداً ما في عام ما قد كلف مخرجة ما بإعداد برنامج ما عن المغتربين.. فعادوا ببساطة إلى مطالبة المخرجة بالحلقة التي صارت بمثابة أسطورة, ولكن مع لمسة كرم هذه المرة إذ أطلعوها على قرار لجنة التحقيق الضائع هو الآخر منذ سنة, وكان باختصار على الشكل التالي: (تعاقب المخرجة..على إهمالها وتكلف بإعادة تنفيذ البرنامج على نفقتها الخاصة).
ربما يكون كل شيء واضحا بالنسبة لكم إلا ما يتعلق بالإهمال ? حسنا لقد أهملت المخرجة بالفعل إذ كان عليها بدلا من السفر أن تختبئ في خزانتها لتقفز في وجه من سيأتي ليخلع بابها وتصيح في وجهه:(كمشتك), أو على الأقل أن تستأجر حارسا خاصا بكلاشينكوف ليرش كل من يقترب من الخزانة ...وإذا أردتم الواقع فهناك وجه آخر أشد خطورة للإهمال, فمن بين الاحتمالات الكثيرة التي خطرت لها أهملت واحدا هو الأكثر أهمية: أن يأتي مسؤول ما ويأمر ومن كل عقله بخلع خزانة مخرجة وأخذ شريط لرميه في القمامة ثم يطالبها بالعثور عليه..
ما مغزى هذه الحكاية الطويلة ? المغزى واضح: هذه يا جماعة عاقبة كل مهمل...وسبحان الذي يمهل ولا يهمل.
إذا كنتم لم تفهموا شيئا من هذه المتاهة فلكم أن تشعروا بالعزاء فهذا هو حال المخرجة والإدارة وموظفي المكتبة ولجنة التحقيق... وحالي أنا أيضا.
سلمان عز الدين
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد