زيناتي قدسية وتوليفة "رأس الغول"
يظل للمسرح فعله وتأثيره في حركة المجتمع، فالمسرح منذ نشأته تموضع للوجدان الجمعي ورسالة للتنوير والتعبير عن اللحظات الحرجة في حياة الأمم والشعوب، وتدلنا تجارب المسرح في العالم على أهمية أن يكون الاجتهاد المسرحي ضمن النسيج المجتمعي وداخل السرب الجماعي حتى وهو يتجه صوب التجريب في الآليات ومنظومة العرض المسرحي ومحاولة الدخول إلى مناطق جديدة في الاشتغال المسرحي، وتأتي مسرحية رأس الغول المعدة عن كتابات للراحل محمد الماغوط والقاص زكريا تامر وأنجزها درامياً وإخراجياً الفنان المجتهد زيناتي قدسيه، فقد تحركت هذه التجربة عبر محاور اللعبة المسرحية الجوهرية في البنية الصورية والسمعية والحركية في كلٍّ متناغم جعل للصورة فعلها الكاشف عن المسكوت عنه في مختلف قضايا الأمة العربية وبطريقة اعتمدت المفارقة الساخرة والصدمة في صياغة التشكيل والبناء المشهدي المؤثر.
ومنذ بداية العرض، حيث اللحظة الحرجة في مواجهة الموروث وإعادة إنتاجه في شخصية محورية أسست للمفارقة التاريخية وأحكمت درامية العرض ألا وهي شخصية أبي زيد الهلالي، فارتكزت مقولتها على أساس نفض الغبار عن أوجه التاريخ ومدى الزيف الحاصل في قراءته، وهو مفارق لحياتنا المثقلة بالنكسات والخيبات على مدى الزمن المعاصر للأمة، وربما يحاول البعض وضع هذا العرض المسرحي في خانة اللعب على مستويات التنفيس والاشتغال على مسألة التسييس والخطاب الشعاراتي الجاهز، ونحن نجد العكس تماماً، إذ استحالت تلك الحوارات ودائرة العلاقات بين الشخصيات المتنوعة والتي في كثير من الأحيان ارتدت ثوب التغريب والجدل وإثارة التساؤلات عند المتلقي، أقول إنها تحولت إلى صيغة درامية ساهم الحوار المعد بذكاء واختيار موفق مع الأداء الماهر لمجموعة الممثلين المجدين الذين لعبوا أدوراهم بروح اللعب والتنوع والانتقال المدروس من شخصية إلى أخرى محافظين على المسافة الجمالية في علاقاتها الفاعلة مع المتلقي الذي وجد نفسه في صلب موضوعات وأفكار العرض المسرحي.
ورأس الغول المطل بعدة صور مسرحية معبرة يهددنا في التو واللحظة، ولم تكن تلك الصور مجرد خطوات وحركات في فضاء المسرح، إنما هي فضاء جمالي- دلالي تتحول فيها قطع الديكور والقماش والماكينات إلى محاور فكرية تدفع الحدث الدرامي إلى ذروته، وتخلت جمالية مشهدية لا تنفصل عن الدوال والرموز الجمعية في حياتنا العربية، وعند الإشارة إلى مستوى الفكرة، فهذا لا يعني أنها اعتمدت المباشرة الخطابية، بل جعل المخرج الفنان القدير زيناتي قدسيه من تلك الممارسة صوراً تنبثق عنها أسئلة لا تقف عند حدود الطرح الأولي، بل يدفعنا جميعاً لنقف مع المستوى الدلالي في صف واحد لما حمله العرض من مضامين تمس أيامنا وأحوالنا الصعبة جاعلاً من تلك الأحوال أهوالاً يركبها المتلقي باتجاه الرفض لواقع مرير لم يعد من السهل السكوت عنه، وتوالت المشاهد في لغة بصرية ابتعدت عن الحرفية إلى منطقة الوعي الفكري لجماليات العرض المسرحي المعاصر، إذ أصبح لكل عنصر من عناصر التكوين المشهدي دوره الدرامي المساهم في خلق صورة مسرحية تكاملت مع الأداء الفاعل للفنانين يوسف المقبل وعلي القاسم وجمال العلي وقصي قدسيه ونضال صواف ومحمود الأحمد، إذ منحوا العرض بهجته وبريقه المشع.
المسرحية من تقديم المسرح القومي في سورية.
إعداد وإخراج الفنان زيناتي قدسيه وتمثيل يوسف المقبل وعلي القاسم وجمال العلي وقصي قدسيه ونضال صواف.
الدكتور حميد صابر
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد