سوريا التي يغادرها أبناؤها.. هجرة أم لجوء؟
في أوائل شهر أيلول الماضي، نشرت الوكالة السورية (سانا) خبراً عن مناقشة الحكومة السورية لقضية «هجرة» السوريين، وذلك في الوقت الذي كان فيه هذا الموضوع يتصدر تغطيات وسائل الإعلام العالمية، بالتواتر مع ارتفاع نسبة اللاجئين، العابرين بحراً أو براً نحو أوروبا، قبل حلول الشتاء.
ونص الخبر، الذي طاله انتقاد واسع، وقتها، على أن مجلس الوزراء ناقش بـ«استفاضة مسألة الهجرة خارج سوريا وأسبابها وظروفها وما تؤول إليه من مخاطر».
ورغم أن الخبر تطرق حينها «إلى واقع التعامل المخزي لبعض الدول الأوروبية مع المهاجرين إليها، ومخالفتها لأبسط مبادئ حقوق الإنسان»، على حد تعبيره، إلى أنه تعداها إلى «ضرورة معالجة ملف الهجرة واللاجئين السوريين خارج الوطن، وملاحقة كل مافيات التهريب التي تتاجر بالشباب السوري، وإيجاد برامج تنموية تساهم في تعزيز استقرار المواطن السوري، بالتوازي مع قيام الحكومة ببسـط الأمن والاستقرار على مزيد من الأراضي السورية بهدف توفير المناخ المناسب الذي يعزز الاستقرار الاجتماعي والتنموي للشباب السوري، والمحافظة على الكوادر البشرية التي ساهمت ببناء سوريا على مر عقود ومراعاة البعد الإنساني والاجتماعي».
وتنظر الحكومة السورية إلى غالبية اللاجئين باعتبارهم «مهاجرين، دفعتهم الظروف الأمنية الاقتصادية للبحث عن ملاذات آمنة وواعدة»، وذلك بالرغم من أن التوصيف الذي يطبق داخلياً على قاطني المدن من غير أهلها الأصليين في ظل ظروف الحرب، يتراوح بين «نازحين» أو «مهجرين»، أكثر منه «هجرة داخلية طبيعية».
وتتعدى التسمية التوصيف، باعتبارها مدخلاً لرؤية أحد أصول المشكلة، في وطن رفض الكثيرون من أهله المغادرة، وهنا الحديث عمن لديه القدرة، لا عديمها، ولكن من دون أن يعني هذا أن البلاد لم تصبح ضيقة الأفق بالنسبة للكثيرين من أهلها، لأسباب عديدة مفهومة، ما دفعهم عن سابق تخطيط وتدبير إلى اختيار طريق الهجرة، عبر جمع رأس المال، سواء كان عبر بيع الممتلكات، أو الاستدانة، والتحضير للرحلة، عبر التخطيط المتأني، والذي يشمل عبور دول، أحياناً وصلت بالساعين إلى موريتانيا ومالي في أفريقيا، كما وصلت بهم لحدود روسيا القطبية مع النروج، من دون الإشارة لأميركا اللاتينية، أو العبور الأكثر شيوعاً عبر تركيا واليونان، سواء كانوا لاجئين بشكل أو بآخر في تركيا أو جاؤوا إليها عبر لبنان.
ووفقاً لدراسة أعدها الباحث الاقتصادي عمار يوسف داخل سوريا، فإن من نسبتهم حوالي 50 في المئة من مجموع النازحين انتقلوا عبر لبنان وتركيا في رحلات العبور نحو أوروبا، فيما كانت تركيا مصدر 30 في المئة من اللاجئين الذين كانوا فيها أصلاً.
وعموماً، يتصف العابرون من لبنان بأنهم «أصحاب قدرة»، وبالطبع ليسوا كلهم، ولكن من تمكن من جمع مدخرات، تقدرها الدراسة بحدود 9000 يورو وسطياً، لتأمين تكاليف الرحلة، ووثائقها أحياناً، وهو مبلغ يعادل تقريبا أربعة ملايين ليرة سورية، بسعر التضخم الحالي، الأمر الذي دفع الباحث للاعتقاد أن 60 في المئة من المهاجرين (أو اللاجئين) هم من الطبقة الوسطى، إضافة إلى 10 في المئة من الأثرياء، والبقية من الفقراء أو محدودي الدخل.
وبالطبع يشكل نفور الطبقة الوسطى من ظروف الحياة وبحثها عن وجهات أكثر اطمئناناً أمراً طبيعياً ومقلقاً في آن، ولكن من دون أن يكون بالإمكان فعل الكثير لكبحه.
واللافت أن هذا القلق يتعدى سوريا، وصولاً إلى دول الخليج، التي يسعى مقيمون سوريون كثيرون فيها للحصول على إقامات أجنبية، تفادياً لاحتمالات العودة للبلاد يوماً ما من جهة، ولاحتمالات «الترحيل» التعسفي من دول الإقامة من جهة أخرى (كما حصل مؤخراً مع مجموعة كبيرة من السوريين في أبو ظبي).
ورغم أن وجهة النظر الحكومية، هي أن المهجرين أو المهاجرين «فعلوا ذلك تحت ضغط المجموعات المسلحة»، وبالتالي مستعدون للعودة «فور عودة الأمن»، إلا أن هذا ليس سوى منظور ضيق من الصورة الكبرى، التي تشمل مدناً وبلدات وقرى مدمرة بالكامل، وورشاً ومصانع تحولت إلى أطلال، وفرص عمل محدودة، وبرواتب لا تكفي بالكاد في ظل التضخم المتنامي، من دون الإشارة لموضوع الخدمة العسكرية الإلزامية، وانعدام الأمن الشخصي، وانسداد الأفق المستقبلي، وضيق الأفق السياسي، والذي لا يتعدى كونه تمهيداً بارداً وبطيء الخطوات لعودة الاستقرار مستقبلاً.
وتشكل هذه الحالة، حالة نزف عام متعدد الجوانب، منها ما هو شخصي، يتمثل في خسارة المرء جزءاً كبيراً من تراكم رصيده المهني والاجتماعي، والخسارة المادية التي نشأت عن التدمير أو الاستيلاء أو البيع بغرض السفر، مروراً بخسارة الدولة لرصيد العملة الصعبة، الذي تستنزفه الرغبة بالسفر وتضارب به على الليرة يومياً، (يسمح القانون السوري حتى وقت متأخر من الأزمة بحمل ما يقارب 10 آلاف دولار إلى خارج البلاد، ولكن مع وثائق تثبت مصدرها، إلا أن الحصول عليها داخل البلاد غير ممكن من دون اللجوء إلى السوق السوداء).
وتخسر الدولة أيضا بشكل رئيسي كوادرها البشرية، ولا سيما أنه وفقاً للدراسة الصادرة حديثاً فإن ما نسبته 77 في المئة من المهاجرين هم من الشباب في المرحلة العمرية المتوسطة أو الشابة (بين 18 و40)، وبمستويات تعليمية جيدة (أحيانا كوادر طبية كاملة من مستشفيات محددة ركبت قوارب التهريب متجهة من ليبيا نحو اليونان، وأحدها غرق في قصة معروفة تداولتها مواقع التواصل وقضى عليه 30 طبيباً وطبيبة مع أسرهم في خريف العام 2013).
وثمة حالات عن عائلات باعت كل مدخراتها لـ «تسفير» أحد أولادها، وتقدرها الدراسة برقم يبدو كبيراً، وهو 40 ألف حالة من هذا النوع، وذلك في حال تعذر سفر الأسرة بكاملها، والذي إن حصل، يترك خلفه آثاراً هو الآخر، ولا سيما مع انتشار الفوضى، خصوصاً في تعقب واقتناص المسافرين المقتدرين، الذين بيعت ممتلكاتهم أو تم الاستيلاء عليها بعد سفرهم تحت وطأة الظروف والواقع العسكري، أو حتى بموجب عقود بيع مزورة.
ولا تجد الحكومة حاليا قدرة على مواجهة هذا الواقع، كما لا تستطيع تجاهله. ومنذ أيام شدد مجلس الوزراء ببلاغ عام بتقييد أذونات السفر والإجازات الطويلة من دون راتب للغاية ذاتها، علماً أن الدولة جنت في الوقت ذاته ما يعادل 521 مليون دولار من إصدارات جوازات السفر، وبمعدل 3000 وثيقة يوميا (بلغ مجموعها قبل نهاية العام 2015 حوالي 829 ألف جواز). وفي سياق مشابه صدر منذ أيام مرسوم رئاسي أكثر مرونة سمح للمواطنين الذين يتعذر عليهم تسجيل أولادهــم رسمياً بمهلة عام قبل ذلك، ويشمل هذا الحال مئات الآلاف من السوريين، الذي تترك لهم الدولة باباً للعودة، وإن كان مفهوماً للجميع أن هذه «العودة» تحتاج من المقومات ما يتعدى التشريعات القانونية، وإلى ما يتعدى قدرة الدولة، إلى الظروف الإقليمية والدولية، من دون الحاجة لذكر التمويل، الذي قارب الحاجة إلى ثلاثة مليارات دولار من العوز الإغاثي للنازحين الداخليين وحدهم.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد