عند خطوط المواجهة في القصير (2): هنا سقطت «الإمارة» التكفيرية
قضاء ليلة مع المقاومين في الخطوط الأمامية للمواجهة مع تنظيم «داعش» في منطقة القصير، يجعلك تعيش، ولو لساعات، المعاناة التي يتكبدها هؤلاء لحماية الحدود اللبنانية، من خطر المسلحين الذين ما زالوا يجهدون للعودة إلى المنطقة، عبر محاولات التسلل والاقتحام المتكررة التي يقومون بها من فترة إلى أخرى.
داخل غرفة المنامة في موقع «سمرمر 2» يلفت الانتباه وجود «جواد» (17 عاماً)، صاحب الوجه الطفولي. بعد تبادل كلمات التعارف يتبين انه من عناصر «التعبئة» وليس متفرغاً. نسأله عن الدافع لمجيئه إلى هذا المكان، فيجيبنا من دون تردد: «أنا من النبطية، وفي الصيف عملت مع جدي بالجاروشة، وعند انتهاء الموسم، وحتى ما دور بالشارع وطق حنك مع رفقاتي، جئت إلى هنا للمرابطة».
بدا جواد غير راض عن وجوده في هذه المنطقة. يقول إنه كان يفضل الذهاب إلى حلب، لكن الجهات المعنية رفضت طلبه، وللتأكد يتوجه إلينا بالسؤال: هل صحيح أنهم لا يأخذون «التعبئة» إلى حلب؟ أنا اعرف أخاً ذهب إلى هناك، وهو ليس في «التعبئة»، لكن «يبدو لديه واسطة».
لم يفكر احد منا بالخلود إلى النوم، نستعيض عنه بالسهرة مع الحامية، خصوصا مع أبو جعفر وساجد اللذين وجدا نفسيهما في موقع الاستجواب، عن «داعش» والمواجهات التي خاضاها، وكيفية قضاء أيامهما ولياليهما. الفضول كان سيد الموقف بالنسبة لمجموعتنا، خصوصا بعد أن قام الجميع، بمراقبة موقع «الكهف» بواسطة المنظار الليلي، لعله يحظى برؤية «الدواعش» غير أنهم خيبوا آمالنا، بعدم قيامهم بأي تحرك.
بعد مشاهدة المنطقة التي يتواجد فيها «الدواعش»، ومعرفتنا أنهم أصبحوا مطوقين من الاتجاهين، اللبناني والسوري، أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال عن كيفية حصولهم على «التموين». يؤكد أبو جعفر انه «خلال كل جولة مفاوضات تتعلق بالمخطوفين، يكون احد شروطهم، قبل بدئها، حصولهم على التموين».
كلام ساجد وأبو جعفر لم يَخْلُ من الإشارة إلى خطورة المنطقة التي نتواجد فيها. نسألهما عن آخر معركة حصلت معهما، فيؤكدان أن هذا الموقع لم يتعرض لأي هجوم مباشر بعد، بل هجمات صاروخية ومدفعية، وكان آخرها في رمضان الماضي، حيث تعرضت جميع المواقع التابعة للمقاومة في المنطقة، لقصف عنيف من قبل «الدواعش»، لتكتشف المقاومة في النهاية أنها عملية إلهاء لحرف الأنظار عن هدفهم الأساسي، ألا وهو محاولة اقتحام «موقع 313»، أو ما يعرف بـ «المذبحة» والذي يقبع خلف إحدى التلال المُواجِهة لموقعنا.
ويتابع ساجد وأبو جعفر أن «عناصر داعش استماتوا خلال تلك العملية ووصلوا إلى الساتر الثالث للموقع، لكن المقاومين تمكنوا من استيعاب الهجمات وصد المهاجمين، وتكبيد داعش حوالى 80 قتيلاً بحسب اعترافاتهم، سحب المقاومون حوالى 15 جثة، وقاموا بدفنها بجانب احد المواقع قرب الحدود مع مشاريع القاع، فيما سقط للمقاومة آنذاك 10 شهداء».
مع اشراقة شمس الصباح ظهرت طبيعة المنطقة بوضوح، فالمقاومة نشرت مواقعها على قمم جبالها الشاهقة لمنع عودة الجماعات الإرهابية إليها من جديد.
أما السؤال عن أدوات المواجهة، فجولة صغيرة داخل الموقع، كانت كفيلة لتروي ظمأ فضولنا. كل شيء متوفر: البنادق الفردية، الرشاشات المتوسطة والثقيلة، المضادات الأرضية، مدافع الهاون المختلفة الأنواع، الكاميرات الحرارية، الصواريخ المضادة للدروع، حتى المولدات الكهربائية، غير أن ما حيرنا ولم نجد له جوابا هو سر وجود عدد من الألواح الشمسية التي تم وصلها بأسلاك كهربائية تمتد إلى غرف صغيرة جدا، لم نعرف محتواها.
نترك الموقع في الصباح الباكر، متوجهين إلى نقطة الانطلاق للقيام بجولة في مدينة القصير، حيث يقوم احد عناصر المقاومة من سكان بلدة زيتا، ويدعى «نور»، بمرافقتنا في الحافلة كدليل، كونه شارك في معارك تحرير المدينة.
لدى اقترابنا من احد الجسور التي تعلو إحدى الطرقات الرئيسية المؤدية إلى وسط المدينة، يخبرنا «نور» انه من هنا تم إحباط أولى ركائز مشروع «الإمارة» التكفيرية الذي كان يحضر له في القصير. ويضيف: «قبل انطلاق معركة القصير، اشتبه جندي سوري بسيارة يقودها احد المسلحين متجهة نحو حاجز كبير للجيش السوري يفصل بين المناطق الخاضعة للمسلحين وتلك التي يتواجد فيها الجيش السوري على احد مداخل المدينة، فقام بإطلاق النار عليها، ليتبين من ضخامة انفجارها أنها كانت مفخخة بأطنان من المتفجرات، ومعدة للتفجير بالحاجز تمهيدا لهجوم المسلحين بعدها على الأجزاء المتبقية تحت سيطرة النظام وانتزاعها منه».
ويعتبر نور أن هذه الحادثة كانت نقطة التحول في مسار الأمور، إذ اتخذت المقاومة بعدها القرار الحاسم بوجوب تطهير المدينة وريفها من المسلحين، مضيفاً: «لو كنا تأخرنا يومين فقط عن الهجوم، لكانت مهمتنا أصعب وأشد تعقيدا، فالصدفة قادتنا إلى اكتشاف نفق كبير كان المسلحون على وشك الانتهاء من حفره تمهيدا لتفجير مفرزة تابعة للجيش السوري في الجهة الشمالية المحاذية للقرى اللبنانية. لو كتب لمحاولتهم النجاح لكانت أعاقتنا كثيراً في عملية السيطرة على هذه المنطقة».
عنف المعارك كان ظاهراً بوضوح على معالم المدينة ووسطها. حركة السيارات والسكان داخلها وعلى أطرافها كانت خفيفة، حيث يخضع الدخول إليها لإجراءات صارمة من قبل الجيش السوري، ويقتصر فقط على المدنيين المسجلة أسماؤهم لديه. أما كنيستها فما زال الدمار الذي لحق بها يشهد على عنف المعارك التي كانت تدور من منزل إلى آخر، وكذلك مبنى البلدية الذي تحول إلى ركام. يسأل احد رفاقنا جندياً سورياً بثياب مدنية، كان يقف مع زملائه على حاجز قرب الساعة في ساحة المدينة، عن إمكانية عودة السكان الذين شكلوا بيئة حاضنة للمسلحين، فيجيب بكلمات مقتضبة: «فقط عندما نموت نحن، هم يعودون».
وأثناء توجهنا إلى تلة النبي ماندو، نتوقف على احد الحواجز السورية، في الجهة الشمالية للمدينة، فيلفت انتباهنا «نور» إلى انه من هنا بدأت رحلة الهروب الكبير للمسلحين من القصير وريفها، حيث أحصى بنفسه حوالى 400 سيارة للمسلحين وعائلاتهم، توجه قسم منهم إلى جرود عرسال، والآخر باتجاه الحميدية.
وفي الطريق المؤدية إلى تلة النبي ماندو، تظهر حركة نشطة للسكان، سواء على الطرقات الفرعية أو الرئيسية التي توصلك إلى منطقة حمص. أما الأراضي الزراعية فكانت عامرة بالمزارعين المنهمكين بزراعة الموسم، حيث الوجود العسكري للجيش السوري لم يكن كثيفاً، باستثناء بعض النقاط الصغيرة.
ما إن يتم الصعود إلى أعلى التلة، حتى تتبين أهميتها الإستراتيجية وسر استماتة المسلحين لاستعادتها بعدما طردتهم المقاومة، نظراً لإشرافها على معظم قرى ريف القصير وصولا إلى حمص، كما قال «أبو تراب» احد القادة الميدانيين في المقاومة الذين شاركوا في عملية تحريرها من المسلحين والدفاع عنها. ويضيف أبو تراب «التلة شهدت حرباً ضروساً، وقد سقط لنا عدد من الشهداء من جرائها، إذ زج المسلحون حينها بأعداد كبيرة في محاولة لاستردادها، فضلا عن أن المسافة التي كانت تفصل بيننا وبين المسلحين وصلت أحيانا إلى حدود المترين أو الثلاثة أمتار. لكن في النهاية باءت جميع محاولاتهم بالفشل، وجروا وراءهم أذيال الهزيمة بالفرار من كل المنطقة».
علي دريج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد