غسان الرفاعي: الثقافة الفاترة ومحاكم التفتيش
-1- غريب هو هذا التحرك الثقافي الجديد الذي تتخبط فيه الأجيال الصاعدة والداعي إلى التخلي عن الالتزام وتبني «الفكر الفاتر»,.
الذي لا يدعي امتلاك الحقيقة, ويسخر من الذين يناضلون في سبيلها, كان مثقف الخمسينات والستينات يفاخر بانتمائه إلى عقيدة راسخة, قضية مقدسة, ولكن «المثقف الفاتر» يتحاشى الانحياز ويفضل أن يتعامل مع الأفكار «برخاوة», لن ينزل إلى الشارع كما كان يفعل المثقفون الملتزمون للمشاركة في المسيرات والاعتصامات, مكتفياً بمشاهدة ما يجري عن بعد و «النقار» مع من يخالفه الرأي «بلباقة ثلجية», والأغرب أن ينشط هذا التحرك الفاتر الجديد في وقت تلتهب به الشوارع بالمجابهات الساخنة, يسقط شهداء, ويفضل بعض المتحمسين الانتحار.
يقول أحد كهنة «الفكر الفاتر» روجيه تيدال في مقدمة كتابه المثير «الارتزاق»: الخيار المطروح الآن هو المفاضلة بين ثقافة الموز الذي لا يؤكل إلا طازجاً وإلا فسد, وثقافة النبيذ الذي تزداد قيمته كلما تعتق في الأقبية, لقد اخترنا التزحلق على قشر الموز لا الغرق في برك النبيذ...
ولهذا الفكر الفاتر طروحات لا تخلو من إمتاع ومؤانسة: امتداح اللاانتماء, الدفاع عن الإنسان, الطيب والأعزل, التغني بالصداقة على حساب الالتزام العقائدي: بعد مصرع مفهومي: «الأخوة في الإيمان» و «الرفاقية في النضال», والتخلص من مشاعر الحقد التي تغلي في الداخل لأسباب شتى.
أما الإنسان العربي الذي يقف مقشراً في العراء بلا كسوة سلطوية, ولا عباءة جماهيرية, فإنه يتوق إلى الصداقة البريئة, فهي وحدها القادرة على ضخ شيء من الدفء في شرايينه ونسجه وأليافه ولم يعد يتحمل «إرهاب الأخوة» ولا «انتهاز الرفاق» الأولون يغتالونه في وضح النهار والآخرون قد يجعلون منه «ممسحة» يغسلون بها خطاياهم وأوزارهم, لقد تعب وهو بحاجة إلى صدر يرتمي عليه وقلب يغوص داخله وفضاء نظيف يتنفس فيه بنقاوة.
هل ستنتقل عدوى «الفكر الفاتر» إلى مثقفينا عنوة, أو بملء إرادتهم؟ بعد أن رصهم «الفكر الساخن» في خنادق متخاصمة, وحولهم إلى قبائل متنابذة؟ يزعم أحد كهنة هذا الحراك أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا بتكاثر منابر «الفكر الفاتر» و«ذيوع الرخاوة» في المجابهات وخصوصاً بعد أن سقط الكثير من الشهداء دفاعاً عن السخونة والانتماء.
-2-
ومثير للشكوك إصدار كتاب جديد في الأسواق باسم «هواجس معاداة أميركا» للمفكر المتأمرك «جان فرانسوا روفيل» حاول فيه بخبث وسوء نية أن يحفر تحت مشاعر العداء لأميركا لاستجلاء الأسباب ومعرفة الدوافع, لقد أراد كما يزعم في مقدمة الكتاب أن يطلق رصاصة الرحمة على أعداء أميركا في أوروبا, لاسيما في فرنسا, قبل أن يحطم ديكارت صنم العقلانية الغربية تماماً كما حطم متطرفو طالبان تمثال بوذا قبل أن تتناثر شظاياهم في مغارات تورا بورا, وأغرب ما في الأمر أن النخب الثقافية الفرنسية استقبلت هذا «المدفع العملاق» بمزيج من المازوشية والشماتة: قبلت بشيء من الرخاوة إهانة مفكرها الوثن, دون أن تدافع عنه بجدية, ولكنها تحصنت ضد دعوة روفيل المشبوهة ونصبت خيامها في كل مكان, استعداداً للمجابهة والصدام غير عابئة بذيول الحادي عشر من أيلول.
مثقفو الحداثة العربية معنيون بهذا القصف المتأمرك لعرش العقلانية الديكارتية, إذ طالبونا في مطلع حياتنا, أن نتسلح بكتابه الرحيم «مقالة في المنهج» قبل الدخول إلى فردوس الحداثة, وأجازوا لنا أن نشك في كل شيء, ولكنهم حذرونا بسخرية: «هناك أمر لا قدرة لكم على أن تشكوا فيه هو الشك ذاته» وقذفونا بالجملة المعجزة التي مازلنا نرددها بإعجاب: «أنا أفكر فأنا اذن موجود!» وشعرنا بأننا انتصرنا على الخرافة والتخلف, وتسلل إلينا شيء من التعالي والشعور بالتفوق, وها هو روفيل يكشف لنا أننا قد خدعنا عن جهل أو قصد وأن وثن العقلانية لم يكن أكثر من مراوغ وجبان يخدم الكنيسة الظلامية والحكام الطغاة...
يأخذ رونيل على ديكارت مجموعة من الارتكابات الشائنة, منها مقالة في المنهج تؤكد عدم الاستفادة من شواهد التجربة وعدم القدرة على الاعتراف بالتناقض ورفض تبديل الرأي بعدم إظهار خطئه, ومنها أن رفض ديكارت لصياغة فلسفة في الأخلاق عائد إلى خوفه من الافتراء عليه من جهة وانصياعه إلى الحكام من جهة ثانية, وينسب إلى ديكارت نصاً يقول فيه: لا يحق إلا للحكام أو لمن يفوضهم الحكام, الحديث عن الأخلاق أو تحديد سلوكيات الآخرين, ومنها انتهازية ديكارت الفاضحة إذ يقول في رسالة كتبها إلى الأميرة «اليزابيت» ولية عهد السويد: يتوجب علي أن انتصر على نفسي قبل الانتصار على العالم, وأن أبدل رغباتي لا نظام العالم...
-3-
قصيدة الحب التي نظمها رونيل بأميركا مغزولة من عدة اكتشافات تاريخية وايديولوجية وسيكولوجية تفضح ما نسميه الاستغفال والنفاق والتزوير العقلاني...
لقد أحلت أميركا الذرائعية مكان العقلانية لم تتستر على حقيقة الدوافع التي تحرك الإنسان في حين لجأت العقلانية إلى المكيجة المزورة لإبراز المطامح المثالية عند الإنسان.
لم تخجل الذرائعية من إظهار سيادة غرائز الاستحواذ المادي والسيطرة والفسق وإصرارها على جعل هذه الغرائز البوصلة في السلوك الإنساني.
ويستشهد روفائيل بواقعتين تاريخيتين في محاولة لتوضيح وجهة نظره: الأولى: إظهار الفردوس الاشتراكي يكتب: لم يطنب بالشعارات البراقة أكثر من الطوبائيين الاشتراكيين ولكن حين أتيح لهم أن يقيموا فردوسهم, برهنوا على أنهم أكثر تعلقاً بالرخاء الفاحش والاستعلاء السلطوي والبطش القمعي من الخرافات المثالية, أما أميركا فعلى الرغم من اعترافها بسيادة الدوافع السفلية عند الإنسان فقد بنت مجتمعاً مستقراً مزدهراً...
الثانية: التاريخ الملوث لأوروبا يكتب: قارتنا العتيقة لها تاريخ حافل بالفجور السياسي والأخلاقي, إنها شنت الحروب الصليبية, وعبأت كل القوى الشريرة لارتكاب المجازر وقتل الأبرياء, ثم اقتسمت العالم تحت ذريعة تمدينه وتحريره من التخلف, ومساعدته على النضوج حتى يبلغ من الرشد السياسي ثم ساقت العالم إلى حربين عالميتين طاحنتين, راح ضحيتهما الملايين من الناس الأبرياء, إنها غطرسة القوة العسكرية السافرة التي تملي على العالم سياستها واستراتيجيتها العدوانية, إن المعتدي يصبح من دعاة السلام إذا هو شعر بالضعف ويستفرس حين يشعر بالقوة..
-4-
يجنح دستوفيسكي في روايته الخالدة «الإخوة كارامازوف» فيتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض ونزل في اشبيلية إبان سطوة محاكم التفتيش, فأمر المفتش الأعظم بإلقاء القبض عليه فوراً وزجه في غرفة مظلمة.
قال له: لقد منحتنا السلطان نحن الكهنة وليس لك أن تسترده ولا رغبة عندنا للتخلي عنه دع السلطان لنا وعد من حيث أتيت.
ويروي ايفان كارامازوف, بطل الرواية أن السيد المسيح لم ينبس ببنت شفة, وأنه تقدم من المفتش الأعظم ولثم شفته ثم توارى عن الأنظار.
أراد دستوفيسكي أن يبرز البون الشاسع بين الرسالة السماوية المتجسدة بشخص حاملها والسلطات الأرضية السياسية التي تحاول عبر العصور توظيف السماء في صراعات الأرض السياسية, ومازال السؤال المأساوي مطروحاً: هل كانت ممارسات محاكم التفتيش الإسبانية تتماشى مع تعاليم السيد المسيح؟ وهل كان الصراع على الخلافة تطبيقاً لما جاء به النبي العربي؟ وهل كان الصراع بين البروتستانتية والكاثولوكية الذي استمر 100 عام والحروب الصليبية شيئاً آخر عبر الصراع على النفوذ والسلطة لا علاقة لها بالرسالة السماوية؟
والصورة لم تتغير: إسرائيل تمارس سلطة سياسية تدعي أنها تستمدها من حق ديني إلهي واليمين الانجيلي الذي كان متحكماً بالبيت الأبيض يدعي بأنه يهندس العالم حسب مخطط سماوي, ثم إن الديمقراطيات الغربية التي تطبق مبدأ ما لله لله وما لقيصر لقيصر وتفصل الدين عن الدولة تحت شعار العلمانية تحول الصراع بين الكنيسة وأعدائها إلى صراع بين أحزاب تؤمن بالمثل العليا وأحزاب تفاخر بأنها تدافع عن المصالح العاجلة لجماهير الناس.
بعد سقوط جدار برلين استبد الفرح بالغرب ودفعه إلى التعجيل بدفن جثماني الشيوعية والنازية في مقبرة مشتركة, ولكنه اكتشف أنه بحاجة إلى بوصلة ترشده إلى التمييز بين الخير والشر, وإذ ذاك طفت على السطح ايديولوجية غير مرئية ايديولوجية مقنعة تمجد المال باسم السماء, المفارقة أن ما كان يجمع بين النازية والشيوعية كره المال ومن الطبيعي بعد سقوط الايديولوجيتين أن يفقد الحقد على المال كل مشروعيته, خاصة أنه كان مجرد قناع لارتكاب فظاعات وحماقات, وقد رافق تمجيد المال استخفاف بالفقر والفقراء, يقول جيل كابيل مؤلف كتاب الله والقيصر, يشاهد الغربيون وهم يتناولون فطورهم الكرة الأرضية وهي تحترق من حولهم: يلتهمون ضحايا المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية والإرهاب فيحولون العالم إلى فيديو كوكبي وفجأة يخطر لهم أن يتحدثوا عن الواجب الإنساني وضرورة التدخل لإنقاذ الناس من الكوارث, لكن الواجب الإنساني ليس أكثر من فكرة استعمارية جديدة تبرر التدخل وإسقاط الحكومات الوطنية وشن الحروب التنافسية براحة ضمير وشعور بالامتلاء الأخلاقي.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد