في ذكرى رحيل محمد أركون: كثير من التفكيك قليل من البناء
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة لرحيل مفكر عربي كبير، عاش جل حياته ناقداً لما سماه «الأرثوذكسيات»؛ سواء «السنية التقليدية»، أم «الشيعية المناهضة»، أم «الخوارجية المناضلة»، وذلك قبل أن تأخذ في الاحتدام والعراك اليوم على نحو لم يكن متصوراً قبل أعوام قليلة، لتنال من كل شيء كان قائماً بيننا: اجتماعنا، تمديننا، أمننا، استقرارنا، مستقبلنا، بل وإنسانيتنا، ناهيك بصورتنا في عيون العالم، ما كان سيدفع الرجل لو أنه كان لا يزال بيننا إلى القول: هذا ما كنت أخشاه، إنه حقاً صراع الأرثوذكسيات، وهي تأكل نفسها، قبل أن تأتي على أبنائها.
إنه المفكر العربي الجزائري محمد أركون، الذي مثل نموذجاً فريداً للشجاعة النفسية والاتساق الفكري الواجب الاعتراف له بهما، على رغم أي مناطق للتباين والاختلاف معه، فقد عاش حراً مستقل الرأي إلى أبعد مدى عن أي تيارات أو مؤسسات فكرية مهيكلة، كما كان مستعداً دوماً للدفاع، أحياناً بشراسة، عن معتقداته وأفكاره، على رغم كثرة الهجوم عليه، وحدّة هذا الهجوم التي وصلت أحياناً إلى حد التكفير من بعضهم.
في هذا السياق جسَّد الرجل خليطاً من عقلانية ابن رشد التي اتسمت بطابع يقيني واضح، وعقلانية التوحيدي التي غلب عليها القلق المعرفي، والروح الصوفية. كان هاجسه الأساسي هو تحرير العقل الإسلامي الراهن من شتى قيوده، ومن محبسه داخل العقائديات الجامدة التي صاغها بنفسه حول نفسه، فقيّدت خطاه وأعاقته عن التواصل؛ ليس فقط مع الآخر بكل منجزه المعرفي والحضاري الراهن، بل مع موروثه الإنساني نفسه. وهو ما يرجعه أركون إلى أن ذلك العقل اختار في تعامله مع ذاك الموروث الخنوع لا المواجهة، النقل لا الإبداع، التقليد لا الاجتهاد، الاستكانة إلى اليقين بدلاً من شجاعة الشك والمساءلة، وهو الاختيار الذي يسعى الرجل إلى الانقلاب عليه والاستئناف ضده، ولذا سعى إلى وضع العقل الإسلامي الراهن بمكوّنيه الضروريين: أي موروثه «المعقول»، ومكتسباته من الفكر الغربي الحديث، أمام الواقع الإسلامي نفسه محاولاً أن يفتح الدائرة الفكرية على الدائرة الواقعية لتصيرا دائرة واحدة تتبادلان الفعل والتأثير عبر ما يسمى في علم النظم السياسية «التغذية الاسترجاعية».
في سعيه إلى تكريس العقلانية العلمية يميّز أركون بين برهان منطقي لا يمنحه قدراً كبيراً من الاهتمام، وبين برهان تجريبي ينبع من صدق عمل العقل مع مشكلات الواقع المعاش. وهنا فإنه يفرّق بين التعرف الى الشيء/ ومعرفة الشيء. في الحالة الأولى يكتفي المرء بمعرفة شيء معروف سابقاً لديه، أو موصوف من قبل النصوص، وأما في الحالة الثانية فيعرفه فعلاً، بمعنى أنه يكتشف شيئاً لم تكن له أي صورة معقولة ومسبقة عنه. الحالة الأولى هي حالة المؤمن (التقليدي)، وهي جوهر النزعة السلفية التي ترفض وجود أي معرفة استكشافية أو جديدة في الكون لسبب بسيط «هو أن كل شيء كان قد ذكر في النصوص وعرف مرة واحدة وإلى الأبد. وبالتالي فإن مهمة المؤمن هي أن يتعرف إليه من جديد على ضوء ما حفظه من النصوص (حتى علم الذرة موجود في النصوص). وهنا يصوغ أركون مفهومه عن «العقل المنبثق» كما وظّفه خصوصاً في كتاب «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل»، وهو عقل جديد ينبثق مباشرة من واقعنا لمواجهة قضاياه في شكل مباشر لا مداور، ومن ثم يتقيد بالقواعد التالية:
أولاً: كونه يصرّح بمواقفه المعرفية ويطرحها للبحث والمناظرة. ويلحّ على ما لا يمكن التفكير فيه أو ما لم يفكر فيه بعد في المرحلة التي ينحصر فيها بحثه ونقده للمعرفة.
ثانياً: كونه يحرص على الشمولية والإحاطة بما توافر من مصادر ووثائق ومناقشات دارت بين العلماء حول الموضوعات التي يعالجها.
ثالثاً: كونه يعتمد على نظرية التنازع بين التأويلات بدلاً من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل والاستمرار فيها مع رفض الاعتراضات عليها حتى لو كانت وجيهة ومفيدة.
رابعاً: كونه يحرص على ممارسة الفكر المعقّد لأنه يحترم تعقّد الواقع وبناه. ويذهب في ذلك إلى تجريب الفكر الافتراضي لكي يفسح المجال لكل أنواع ومستويات التساؤلات والإشكاليات.
وفي العقد الأخير من حياته قام بتطوير مفهوم آخر وهو «الهدم». فإذا كان العقل المنبثق هنا هو البديل من العقلين: الإسلامي المحبوس في دوغمائيته، والغربي المحبوس في مركزيته، والمتفلّت من تلك اللحظة التنويرية المؤسسة له، فإن مفهوم الهدم يعدّ بمثابة تطوير جذري لفكرة النقد، أو هو النقد في أعلى مراحله، إذ من خلال الهدم، ثم إعادة البناء من دون تحيّزات أو تمركزات يمكن للعقل أن ينبثق فتياً متجدداً.
دافع أركون كذلك، وبشراسة عن النزعة الإنسانية، حيث ارتبط لديه مفهوم الأنسنة ببنية ثقافية تنهض على مركزية الإنسان، كما ارتبطت لديه مركزية الإنسان بقدرته على بلوغ وعي ثقافي قادر على تجاوز تاريخ التنابذ والانشطار الذي ظلت تغذيه نزعات التمركز وتيارات الإقصاء، باسم الله في كثير من الأحيان، وباسم العقل في بعضها، وذلك من أجل بناء سياق تضامني بين البشر يتجاوز «أنظمة الاستبعاد المتبادل» المهيمنة على جل فترات التاريخ والتي اتخذت شكل القلاع اللاهوتية أو التبست برداء العقائد الجامدة، على جوانب عدة من الثقافات الإنسانية، مؤكداً أن تفكيك مثل تلك الأنساق المغلقة على جانبي الطريق الحضاري هو الطريق الأكثر أماناً وصدقية ونجاعة للتعايش بين البشر.
وهنا يوجّه أركون نقده للثقافتين الغربية والإسلامية على السواء وبوجه خاص تيارات الانغلاق التي تقصي الآخر هنا باسم الله، وتقصيه هناك باسم العقل. إنه ينتقد عقل التنوير الغربي، الذي كان بريئاً عند تولّده وفي بداية عمله، ولكنه تحوّل بمرور الزمن إلى عقل حسابي، أداتي، انتهازي، بارد حتى وقد وقع في أحابيل نزعة التمركز حول الذات، واستخدم لتحقيق مطامح طبقة قائدة، هي الطبقة البورجوازية، فالرأسمالية. «وهكذا حلت الدولة الحديثة محل الكنيسة كسلطة لا تفرق بين براءة المعرفة / ومصالح عقل الدولة».
في المقابل فإن العقل الإسلامي وقع منذ زمن طويل في أسر أرثوذكسياته خصوصاً السنية التقليدية، والشيعية المناهضة، والخوارجية المناضلة. وسعياً إلى الكشف عن آليات تكوين هذه الأرثوذكسيات يقسم أركون مجال الفكر إلى:
1- مستوى ما يمكن التفكير فيه للمتكلم. وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المتكلم.
2- مستوى ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة.
ويفسر أركون انتصار روح الأرثوذكسية الصارمة لدى جلّ الكتاب والمؤلفين، واختفاء الموقف الفلسفي كليّاً بسيادة نمطين من العلماء طيلة عصور التقليد: أوّلهما هو نمط الفقيه الذي يحفظ عن ظهر قلب ويعيد إنتاج الكتب المدرسية للفقه من دون ابتكار أو تجديد عقلي. وثانيهما نمط الشيخ أو المرابط، بلغة أهل المغرب، والذي يكتفي بكونه الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة في القرية، ويستطيع أن يكتب تعويذة أو حجاباً، ويؤدّي الصلوات الشعائرية، ويسهر على الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل مع الفرائض القانونية للإسلام. وأما في اللحظة المعاصرة، فإن ما يزيد من مساحة اللامفكَّر فيه والمستحيل التفكير فيه إنما «هو ارتياب النخبة الحاكمة التي لا تقبل بأي زعزعة أو نقض لنظام المشروعية الذي يسند السلطة السياسية. لذا فهو يدعو المثقف العربي المعاصر إلى الانخراط في استراتيجية شاملة لفتح العقليات المغلقة وتحريرها عبر النهوض بفعاليات أربع أساسية وهي: نقد الخطاب، تقديم تاريخ نقدي للفكر العربي - الإسلامي، والتأكيد على ضرورة البحث الأنتربولوجي، وإعادة الاعتبار للموقف الفلسفي.
وفي ما يتعلق بالقرآن بشكل خاص، يدافع أركون عن طريقة جديدة في القراءة تنطلق من قوله إن (القرآن خطاب أسطوري البنية) وهو قول أثار في مواجهته اتهامات وإدانات. ومن جانبه هو فقد أصرّ عليه، وإن حاول إعادة تفسير مفهومات «خطاب» و»أسطورة» و»بنية» بما يباعد بينها وبين الفهم الشائع لها، معتبراً أنها من تلك المفاهيم التي لم يُفكر فيها بعد كما ينبغي في الفكر العربي المعاصر، وأنها هي التي تمنح قراءته للقرآن وصف القراءة الوحيدة التاريخية أو العلمية.
ونختلف هنا مع أركون لأن التاريخية لم تكن غائبة دائماً أو تماماً عن أذهان المفسرين القدماء، إذ بحث هؤلاء عن أسباب نزول آيات القرآن زمانياً ومكانياً، وكوّنوا لذلك عِلماً كاملاً اسمه «علم أسباب النزول» استخدموا فيه مصطلحات كالعموم والخصوص، والمحكم والمتشابه، والظاهر والباطن، والناسخ والمنسوخ وغيرها من المفاهيم الإجرائية التي كانت متداولة آنذاك، ما يعني أنهم قد نظروا إلى القرآن بوصفه خطاباً، وقرأوه قراءة تاريخية. فالسيوطي، مثلاً، في الجزء الثاني من كتابه (الإتقان في علوم القرآن) يقدم تقسيماً للقرآن طبقاً لدرجات الوضوح الدلالي، أي طبقاً لإمكانية التأويل المتفتح على التاريخ إلى أربع درجات بالترتيب التالي:
أولاً: الواضح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهو النص.
ثانياً: الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعني الراجح (الأقوى) والآخر معنى مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر.
ثالثاً: الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل.
رابعاً: الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤوّل.
بلا شك تتميز القراءة التاريخية المعاصرة عن هؤلاء المفسرين القدامى، ولكن ما يميزها هو فقط مستوى فهم القائمين بها، ومدى امتلاكهم أدوات ممارستها وإعمالها في النص القرآني، وليس مجرد وجودها من الأساس. فالمؤكد أن القدامى فسّروا القرآن بما يملكونه من عدة منهجية وأدوات معرفية لم تكن كثيرة قبل التطورات الحديثة في مناهج العلوم الاجتماعية وفي أدواتها البحثية، بل قبل التطورات الكبرى لنقد الكتاب المقدس والتي توالت عبر القرون الثلاثة الماضية، لتراكم ما صار يسمى «النقد الأسمى أو الرفيع للكتاب المقدس» بعهديه: القديم، والجديد، خصوصاً في علم اللسانيات، وعلم الأنثروبولوجيا، وعلم العلامات، وتاريخ الأفكار، وعلم اجتماع الأفكار وغيرها. ولعل تلك المعارف والمناهج والمفاهيم الإجرائية هي التي حاول أركون تطبيقها على النص القرآني على نحو ربما يفوق محاولات الباحثين المسلمين المعاصرين، ولكن ذلك التفوّق النسبي لم يكن كافياً لمنح قراءته للقرآن وحدها صفة (العلمية) ما يعني وقوع قراءة الآخرين في دائرة الأسطورية أو الإيديولوجيا، مثلما يعني تفوّقه هو النوعي أو المطلق عليهم، وهو فهم غير واقعي.
يرى أركون إن الاستشراق عجز عن فهم المجتمعات الإسلامية المفترض أنه يكرّس جهوده لدراستها، ما يعني لديه فشل الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراقية)، أي التي اهتم الاستشراق ببحثها وتأسيس تصوراته عليها، لأنها تجاهلت جوانب أساسية عدة من الظاهرة الثقافية الإسلامية على منوال:
1- الممارسة أو التعبير الشفهي للإسلام، خصوصاً عند الشعوب التي ليس لها كتابة مثل البربر والأفارقة، وبشكل عام، الجماهير الشعبية.
2- إهمال المعاش غير المكتوب وغير المقال حتى عند هؤلاء الذين يستطيعون أن يكتبوا.
3- إهمال المعاش غير المكتوب لكن المحكي، وهو مادة غنيّة يمكن للتحرّي السوسيولوجي، وحده أن يلمّ بها.
4- إهمال المؤلفات والكتابات المتعلقة بالإسلام المنظور إليه بأنه «غير نموذجي أو تمثيلي». والاهتمام فقط بإسلام الغالبية الأرثوذوكسي (السني).
5- إهمال الأنظمة السيميائية غير اللغوية، التي تشكل الحقل الديني أو المرتبطة به من مثل: الميثولوجيات والشعائر والموسيقى وتنظيم الزمان والمكان، وتنظيم المدن وفن العمارة وفن الرسم والديكور والأثاث والملابس وبنى القرابة والبنى الاجتماعية الخ.
وعلى المنوال ذاته يقول أركون بفشل الخطابات الإسلامية في تحليل الواقع وتفسيره لأنها قامت على تكديس التشكيلات والمعارف الإيديولوجية التي لم تحظَ حتى الآن بأية دراسة علمية مطابقة ودقيقة. لهذا السبب يبدو ضرورياً لديه بلورة استراتيجية متكاملة لتدخّل الفكر العلمي في المجال الإسلامي. هذه الإستراتيجية هي ما يسميها أركون «الإسلاميات التطبيقية» التي تسعى إلى تحقيق هدف مزدوج. فهي من جهة تريد أن تتموضع داخل هذه المجتمعات الإسلامية لكي تتعرف إلى مشاكلها القديمة والحديثة، ومن جهة أخرى تساهم في إغناء البحث العلمي كما هو ممارس اليوم في شتى البيئات الثقافية، مع تحقيقها كل شروطه ومتطلباته النظرية.
هكذا قدم أركون الكثير من المفاهيم الجديدة على حقل الفكر الإسلامي من قبيل: العقل المنبثق، والهدم، واللامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه، والإسلاميات التطبيقية. كما يحيلنا في جل كتبه على أهم أعلام الفكر المعاصر وأبرز مراجعه. وهنا تكمن المعضلة الخاصة باستراتيجية الكتابة لديه، فمن كثرة ما يرجع إليه من مفكرين ونصوص ثمة ميزة تجد نفسك معها أمام تيارات واسعة في الفكر الإنساني. ولكن في المقابل ثمة عيب وهو أن فكر أركون يصير أكثر خفاء، وأقل وضوحاً. كما أن حشده الكثير من المفاهيم التي يبقى لكل منها قيمته في ذاته، ولكن من دون ربطها ربطاً جدلياً باستراتيجية تأويلية شاملة، قد حرم كتاباته، في تصورنا المتواضع، من صفة (المشروع المتماسك) أو الفكر الموجب، وجعله أقرب إلى التفكيك الدائم، يكتفي بطرح الأسئلة من دون تقديم أجوبة، ولو احتمالية. صحيح أنه أعلى من مفهوم الهدم ومنحه صبغة معرفية كما لمّحنا سلفاً، ولكن الهدم لا بد من أن يعقبه بناء وألا صار بلا معنى، ولعله هنا يبدو مفكراً ما بعد حداثياً بامتياز، ولعله كذلك، وللسبب نفسه، لم يحزْ لدى القارئ العربي درجة القبول والإجماع التي توافرت لأصحاب المشاريع الموجبة على شاكلة المغربي الكبير، الراحل أيضاً، محمد عابد الجابري.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد