قانون الأحزاب تحويل أم تأزيم ديمقراطي
الجمل ـ عبد الله علي: ينظر الكثيرون إلى صدور قانون الأحزاب على أنه الركن الأساسي الذي سيقام عليه هيكل الديمقراطية الموعودة في سورية، دون أن يفكر أحد في الحفرة التي ينبغي سبرها عميقاً في صميم الجسد السوري للتمكن من إقامة هذا الركن وترسيخه بحيث يكون قادراً على حمل ما هو مطلوب منه.
فإذا كانت الديمقراطية في حاجة إلى أحزاب لقيامها، فإن وجود أحزاب، وقانون منظِّم لها، لا يكفي وحده لقيام الديمقراطية لأن الديمقراطية لا تأتي أو تذهب بقانون!! ولا توضع أو ترفع بمرسوم!! ولا تفرض أو تلغى بقرار!! لذلك ينبغي علينا ونحن نرحب ونهلل ونصفق لصدور قانون الأحزاب ألا نبالغ في حجم الآمال المتوقعة منه، خاصةً على صعيد التحوّل الديمقراطي، لأنَّ حجم الخيبة التي قد نعاني منها سوف يكون معادلاً لنفس الحجم الذي أفرغنا فيه آمالنا. والخشية كل الخشية أن نفيق ذات يوم وقد تبخرت كل أحلامنا المتعلقة بعملية التحول الديمقراطي، لنجد أنفسنا فجأة على شفا هاوية من نقيضها وهو ما نسميه بالتأزم الديمقراطي.
لا نقول ذلك، ونحن لا سمح الله، كارهين للديمقراطية أو معارضين لصدور قانون الأحزاب. بل على العكس تماماً نقوله خشيةً منَّا على جنين الديمقراطية الذي أكرمنا الله به بعد عقم مديد، أن يلد في ظروفٍ لا تؤمِّن له استمرارية الحياة والنمو، أو أن يأتي المولود مصاباً بـ "أعراض المسألة الشرقية" على حدِّ تعبير خلدون حسن النقيب في كتابه "الدولة التسلطية في المشرق العربي".
***
ففي مجتمع القبيلة والطائفة، ومهما تمت إعادة صياغته شكلياً، لن ينتج عن حراكه ونشاطه إلا أحزاب القبيلة والطائفة. ولن يغيِّر من هذه الحقيقة شيئاً أن ينص مشروع قانون الأحزاب المرتقب على أنه: ((لا يجوز أن يقوم الحزب على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي أو جنسي أو مناطقي)). فالنص كما هو واضح يدل على حظر الأحزاب الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو المناطقية، وهذا الحظر القانوني يستدعي التساؤل عن الغاية التي دعت إليه، وهل تتمثل هذه الغاية إلا في الخشية من تصادم مكوِّنات المجتمع القائمة على أساس القبيلة والطائفة؟.
هذا النص في الواقع وإن جرت صياغته بأسلوب "النهي" الدالِّ على الحظر القانوني، يشير عند إمعان النظر فيه إلى التوصيف الحقيقي للمشكلة التي يعاني منها مجتمعنا والتي غالباً ما يتم التغزُّل بها ووصفها باللوحة الفسيفسائية. فالخطاب القانوني بلغته الرصينة الحازمة الموجودة في النص السابق، يشفُّ عن واقع اجتماعي مهدَّد بتناقضاته البنيوية الداخلية، ويمكن أن نستشفَّ منه رغبة لدى المشرع في تخطي هذا الواقع والتخلص منه. ولكن هل تكفي آلية الحظر لتحقيق هذه الرغبة؟ الجواب بالتأكيد "لا" وهذا في اعتقادنا يرجع إلى سببين: الأول وهو متعلق بالمجتمع نفسه الذي يقف في فسيفسائه المتنوع على خط زلازل يمتد عميقاً من حاضرنا الراكد إلى طبقات تراثنا المتحركة. والثاني يتعلق بالنص نفسه، فالنص السابق غير واضح ولا نراه يعبِّر عن غاية المشرع التي يقصد تحقيقها، حيث يفهم من النص أنه يحظر الأحزاب الدينية، أي تلك التي تنطلق من عقيدة أو ايديولوجية دينية محضة، لكن التدقيق بالنص يكشف لنا أنه بصيغته الحالية لا يحظر الأحزاب التي لا تستقطب إلا منتسبين من طائفة واحدة أو مذهب واحد وإن كانت لا تقوم على أساس ديني، وهذا يعني إمكانية أن تكون بعض الأحزاب التي تنشأ في ظل هذا القانون المزمع إقراره مجرد غطاء يخفي وراءه حركات أو تجمعات ذات نزعات دينية. ونحن نعتقد أن إغفال هذه النقطة يعتبر نقصاً كبيراً في القانون من شأنه أن يعمق التناقض الموجود في فسيفساء المجتمع ويزيد من تهديد التصادم بين مكوِّناته.
***
ومن جهة أخرى، فإن مجتمع "الممانعة" والمهدَّد بالاختراق الخارجي لا يمكنه وهو نفسه مجتمع القبيلة والطائفة، أن يخاطر من أجل تحقيق وعد الديمقراطية بالتنازل عن مناعته الداخلية وحصانته الذاتية. لذلك ورد في أحد نصوص قانون الأحزاب المرتقب أنه يجب: ((ألا يكون الحزب تابعاً لأي حزب أو تنظيم سياسي خارجي ولا يتلقى التمويل أو الإعانة أو الهبة المالية من أي جهة خارجية)).
وتتبدَّى لنا خطورة هذا الموضوع إذا علمنا أن التجربة الحزبية تدلُّ على أن مجمل الأحزاب أو الجماعات التي شهدتها الساحة السورية على طول تاريخها منذ الاستقلال، كانت لا تتعدَّى أن تكون شراذم تتبنَّاها الدول الإمبريالية المتنافسة وتتلاعب بها، مانعة اندماجها في كيان سياسي متناسق قابل للحياة بشكل مستقل عن هيمنتها. ويمكن التعبير عن هذا الاختراق كحقيقة تاريخية إما بفكرة التبعية، أو بفكرة المسألة الشرقية"( النقيب 1996). والنظام السياسي المختَرق هو الذي تُلحقه القوى الخارجية بنظامها السياسي، وتختلط فيه القضايا السياسية المحلية والقومية والإقليمية والدولية، فلا يُفهم المجتمع المختَرق من دون الرجوع إلى القوة أو القوى المهيمنة، ويكون نظامه السياسي المخترق لعبة سياسية تلعبها القوى الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية في تحالفات متبدلة ومتغيرة (جاد الكريم الجباعي، مقالة التجربة الحزبية العربية).
هذا "الاختراق" التاريخي يمثِّل أحد أهم الأسباب التي وقفت وراء الاضطرابات الكثيرة التي شهدتها الساحة السياسية السورية منذ الاستقلال والتي تجلت في متوالية الانقلابات العسكرية التي كانت الطريق الأمثل لتداول السلطة في سوريا في خمسينيات القرن الماضي.
فإذا صدر قانون الأحزاب اليوم، هل من الممكن أن يعيد التاريخ نفسه؟ أم أن النص المشار إليه يكفي لحماية الأحزاب التي تنشأ في ظله من فخ "الاختراق"؟ وبالتالي حماية الساحة السورية من اضطرابات الخمسينيات؟ ببساطة لا أعتقد ذلك لسبب بسيط هو أن الفترة التاريخية التي شهدت تبعية الأحزاب للخارج لم تكن تتوافر فيها سمة الانفتاح وسهولة الاتصال التي تسم هذه المرحلة الحالية من تاريخنا. لذلك فإن الالتفاف على النص المقترح، من قبل الأحزاب التي قد تسعى لإقامة علاقات خارجية، لن يلقى في طريقه الكثير من العقبات. وبالمقابل ستكون بعض الأحزاب ذات الحضور الشعبي عرضة لتلقي اتهامات غير صحيحة عن ارتباطها بالخارج دون أن تجد ما تدافع به عن نفسها. وتراودني هنا قناعة ملحة أنه سرعان ما سوف تعاني الأحزاب السياسية المشكلة وفق القانون الجديد من عذابين: عذاب التمنُّع عن إغراءات "الاختراق" الخارجي من جهة، وعذاب الرضوخ لمتطلبات "الاخلاص" الداخلي التي لن تخلو من رقابة أمنية وسياسية صارمة على سلوكها من جهة ثانية.
وفي الختام، يبقى السؤال المعلَّق هو: هل يستطيع قانون الأحزاب أن يحفر في صميم الجسد السوري بحيث يغير من تركيبته البنيوية الحالية القائمة على القبيلة والطائفة، وأن يبني السور العظيم القادر على حماية روح الممانعة لدى هذا المجتمع؟ أم أن مجتمع القبيلة والممانعة لن يعدم الوسيلة القادرة على تأويل نصوص القانون المرتقب بما يضمن له الثبات والاستقرار في مكانه وزمانه؟.
التعليقات
لاأبالغ إذا قلت أن مثل الكلام
لا يصلح ولا حل
لإنها لا تقترن بعناويين، تسمّى تعليقات
مبروك لمن تدعون انكم تحت سقف
إضافة تعليق جديد