قراءة في ألغام مصطلحات «جنيف» وآلياته
لم يحارب أحد من أجل «جنيف 1» كما فعلت روسيا. يمكن تأريخ «الغضب» الديبلوماسي الروسي حيال الأزمة السورية باللحظات التي انبرت فيها موسكو في وجه من يمس مقرراته.
في هذا السياق، جاءت اللهجة الديبلوماسية الحادة والمسهبة للكرملين تجاه بيان مؤتمر لندن لمجموعة «أصدقاء سوريا». لا يخوض معارك كهذه إلا من يعتبر أن «جنيف 1»، على ما هو عليه، مكسب يجب عدم التفريط فيه. كل الضجيج والصياح لا يغير بالنسبة للروس أن جنيف هو جنيف. لكن «الائتلاف الوطني» المعارض يحتاج ما يبرر به قبول التفاوض. هكذا ينتظر أن يأتي اجتماع وزراء الخارجية العرب الأحد المقبل على منوال مؤتمر لندن، نتيجة لتقدم الولايات المتحدة في إقناع السعودية بحتمية خطوة التفاوض المقبلة.
الفرنسيون والبريطانيون حاولوا جعل دول الاتحاد الأوروبي تصادق على ترجمتهم لجنيف الأول. لكن عدة دول أوروبية رفضت الدخول في التفاصيل، وخصوصا إلى من ستعود السلطة على الجيش وتحديد الصلاحيات الرئاسية. هذا ما أكده مصدر ديبلوماسي رفيع المستوى، ومطّلع عن قرب على المداولات الأوروبية.
جرى هذا السجال خلال اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في لوكسمبورغ، قبل يوم من اجتماع لندن. رأت دول، أبرزها السويد والنمسا، أنه يجب عدم إثقال جنيف بالشروط، فلم تمر ترجمة لندن وباريس. لم ينتفض الروس على بيان الأوروبيين، الذي اعتبر أن «هيئة الحكم الانتقالية»، التي أقرها جنيف، ستملك السلطة على «جميع المؤسسات الحكومية والأمنية». لكنهم غضبوا على مقررات لندن التي حددت نهاية دور الرئيس السوري بشار الأسد بمجرد تشكيل هيئة الحكم، وأفتت بوضع سوريا تحت حكم حالة طوارئ مع إبطال الدستور. بالنسبة لروسيا هذا خروج عن مقررات جنيف الأول الذي يقول نصه، بوضوح، خلاف ذلك.
المعارضة والنظام لم يخفيا منذ اللحظة الأولى عدم ارتياحهما لـ«جنيف 1». روسيا نجحت، سريعا، في إقناع النظام بأنه في مصلحته. الدول الراعية للمعارضة لم تنجح في ذلك. لم تمر أيام حتى بدأت موسكو في التحذير من أي تلاعب بما وافقت عليه دول مجلس الأمن الخمس كأساس للمرحلة الانتقالية. لم يتحدث جنيف عن حكومة انتقالية، وكل ما ذكر عن هذا لا يعدو كونه محاولة للتبسيط أو سوء فهم. من صاغوا البيان ليسوا ضيقي الأفق كي لا يجدوا مفردات مناسبة. اعتبروا أن ما سيشكله النظام والمعارضة بالتراضي هو «هيئة حكم انتقالية». ترك للطرفين، خلال التفاوض، تحديد شكل هذه الهيئة، سواء حكومة أو مجلس حكم أو حكماء. لكن صلاحيات الهيئة واضحة في مقررات جنيف. ستخضع لها «جميع المؤسسات الحكومية، بما فيها دوائر الاستخبارات». هنا يحسم جنيف الصلاحية على أفرع الاستخبارات، ويترك للتفاوض تحديد من سيرأسها على أن تكون «قيادة عليا تكون محل ثقة الجمهور». لا حديث مشابهاً عن الجيش، ولا ذكر له سوى من باب ضرورة الحفاظ عليه.
ويؤدي مؤتمر جنيف إلى أن تسير الدولة السورية، خلال المرحلة الانتقالية، تحت سلطة رأسين. حتى تشكيل هيئة الحكم، مهما استهلك ذلك من وقت، ستبقى صلاحيات حكم الدولة بيد منصب الرئاسة. بعد ولادة «الهيئة» ستنتقل لها الصلاحيات «التنفيذية»، المذكورة سابقا، لكن سيكون عليها العمل مع منصب الرئاسة لإصدار ما يلزم لنقل تلك السلطات لها. بعد ذلك، سيكون عليها الإشراف مع الرئاسة على عملية «حوار وطني» لتحديد مستقبل البلد وشكل الحكم فيه. بناء على ذلك، سيعاد صوغ دستور جديد، ومن ثم يعرض على الاستفتاء العام. طوال تلك الفترة، وحتى يتم اعتماد دستور جديد لسوريا، ستكون السلطة على الجيش بيد منصب الرئاسة. ما لم يتخلَّ عنها، فالدستور الحالي يقول إن رئيس الجمهورية هو «القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة». بعد كل ذلك، سيأتي اعتماد نظام دستوري جديد، ليليه الإعداد لانتخابات عامة، رئاسية أو برلمانية، بحسب نظام الحكم الذي سيكون حدده الدستور سابقا.
ويعطي جنيف لهيئة الحكم الانتقالية وظيفة توطيد الاستقرار وإنهاء العنف، ويطلب تعاون الجيش معها لتنفيذ عمليات انسحاب، أما المعارضة المسلحة فتأتي حرفياً في سياق «نزع سلاح المجموعات المسلحة وتسريح أفرادها وإعادة إدماجها».
بعد كل هذا، لا يعود مستغرباً دفاع روسيا عن جنيف. إنهم يعرفون بالضبط على ماذا وقّعوا، والصيغة الأساس للانتقال تضمن دورين لحليفهم النظام: من جهة المشاركة في هيئة الحكم، ومن جهة أخرى استمرار لعب الرئيس السوري لدوره حتى إقرار دستور جديد. جنيف حدد بوضوح ذلك التسلسل، والمبعوث المشترك الأخضر الإبراهيمي يقول إن هناك أمورا «واضحة» تم الاتفاق عليها، وباقي «الغموض» متروك للتفاوض.
بخلاف لندن وباريس، لا يريد الأوروبيون استباق «جنيف 2» بطرح السؤال «هل سيخضع الجيش والأجهزة العسكرية لهيئة الحكم أم ستبقى تحت سلطة الرئيس بوصفه القائد الأعلى لها». لكن «أصدقاء سوريا» يذهبون مباشرة لحسم جنيف بما تراه روسيا مناقضاً للاتفاق الموقع. في لندن يقول حلفاء المعارضة إنه بمجرد تشكيل هيئة الحكم الانتقالية ينتهي دور الأسد. فيما يحدد جنيف، مبدئياً، ذلك بعد إقرار دستور جديد تليه الانتخابات. وينهي بيان لندن دور الأسد ليس فقط بجعل الجيش تحت سلطة الهيئة، بل بجعلها «المصدر الوحيد للشرعية والقانون في سوريا». يعني هذا، تعطيل العمل بالدستور والقوانين، وجعل سوريا تحت حالة طوارئ، الحكم فيها هو لما تراه هيئة الحكم الانتقالية. هذه الآلية الأخيرة لم يذكرها جنيف، بل تخالف الآلية التي تتحدث عن مراحل تقود إلى دستور جديد.
وفي هذا السياق، كان طبيعياً أن يخرج قادة «الائتلاف» بقبول الذهاب إلى جنيف كما يراه «الأصدقاء». ترجمة شبيهة طلبت من وزراء الخارجية العرب، الذين سيعقدون اجتماعاً طارئاً الأحد. هذا الاجتماع جاء نتيجة لتقدم حصل خلال اجتماع وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره السعودي سعود الفيصل في باريس. مصدر اطلع على أجواء الاجتماع، في العشرين من تشرين الأول الحالي، قال إن ما حصل لا يمكن وصفه «انفراجا»، لكن «الأميركيين أكدوا للسعوديين أنه لا جدوى من رفضهم مسار جنيف». لهذا، ينتظر أن يأتي الاجتماع العربي في نفس سياق اجتماع لندن: مظلة معنوية تغطي على ذهاب «الائتلاف» للتفاوض، تحت عنوان «ضمانات المجتمع الدولي».
اللافت أنه بينما تتمسك واشنطن وموسكو بجنيف، يرفضه الحليفان «الميدانيان» لطرفي الصراع السوري. ليست السعودية وحيدة في عنادها للمسار التفاوضي. فخلاصة التصريحات الإيرانية ما زالت تصر على أن «جنيف 1» هو شروط مسبقة على «جنيف 2». الطرفان لم يتراجعا عن اعتبار أن الميدان وحده يحدد نتائج التفاوض. طموح كهذا لا يتسع له إطار جنيف الحالي.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد