قمة معاهدة شنغهاي: نحو نظام عالمي جديد؟
هل تنجح "معاهدة شنغهاي للتعاون" (SCO) في وضع المداميك الرئيسة لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يحل مكان النظام الحالي "وحيد القرن" (كما يسمى) الذي تهمين عليه الولايات المتحدة؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك تذكير سريع بتاريخ هذه المنظمة الجديدة التي عقدت في 15 أغسطس الحالي قمتها السابعة في بيشكيك، عاصمة جمهورية قرغيزيا الأسيوية الوسطى.
ولدت المنظمة في عام 1996 بحفز من الصين، وكان هدفها في البداية متواضعاً للغاية: حل الخلافات الحدودية بين هذه الأخيرة وبين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق المحاذية لها، و"تعميق الثقة العسكرية بين الأطراف الموقعة"، خاصة بين الصينيين والروس، الذين خاضوا مراراً مجابهات عسكرية حدودية خطرة.
في 1997، وقعَت الدول نفسها "معاهدة خفض القوات العسكرية في المناطق الحدودية" خلال قمة موسكو. لكن، في سنتي 2001 و2002، تم توسيع أهداف ومبادئ وبنى المنظمة على نطاق واسع لتشمل المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، إضافة إلى بناء الثقة العسكرية. كما تم ضم الهند وباكستان ومنغوليا وإيران إليها بصفة مراقب.
ورغم أن إعلان تأسيس اتفاقية شنغهاي في عام 1996 احتوى على بيان يشدد على أن هذه الأخيرة "ليست تحالفاً موجهاً ضد دول أو مناطق أخرى، وأنه يلتزم بمبادئ الانفتاح"، إلا أن معظم المحللين يعتقدون أن أحد أهم أهداف هذا التجمع هو العمل كموازن للقوة الأميركية، وتجنب النزاعات التي تسمح لواشنطن بالتدخل في مناطق قريبة من حدود الصين وروسيا.
كما يعتقد آخرون أن الاتفاقية شهدت النور كرد مباشر على التهديد الذي بات يفرضه تمدد القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، إضافة إلى إحياء مشروع أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكي، بعد أن غيّرت الولايات المتحدة سياساتها النووية وبدأت تعزيز ما بات يعرف بـ"الدفاع الصاروخي القومي"، أو حرب النجوم، في أوروبا.
المبادئ الثلاثة التي رفعتها المنظمة بداية هي مكافحة الشرور الثلاثة: "الإرهاب، والتطرف، والنزعة الانفصالية". وهذه كلها قضايا داخلية في كل من الدول الأعضاء التي تعاني من واحد من هذه "الشرور". بيد أن قمة بيشكيك خطت خطوة كبرى إلى الأمام نحو البدء بتحويل المنظمة من تكتل إقليمي محدود الأهداف إلى ما يحتمل أن يتطور في المستقبل إلى حلف عسكري.
وهذا كان واضحاً من خلال أمرين اثنين: الأول تعَهد قادة المنظمة بتعزيز الأمن الإقليمي وإقامة "ناد للطاقة"، والثاني، إجراء أول مناورة عسكرية مشتركة شارك فيها نحو 6500 جندي، معظمهم من روسيا والصين، في جبال الأورال الروسية، مع وعد من جنرالات موسكو بأن تجري مثل هذه المناورات بشكل منتظم وسنوي.
هذه المعطيات توحي بأن "لعبة الشطرنج الكبرى" (وهو تعبير صكّه البريطاني أرثر كونولي، ثم استخدمه الروائي روديارد كيبلينغ في كتابه "كيم")، التي بدأت مع مطلع القرن التاسع عشر بصراع بين الإمبراطوريتين البريطانية والقيصرية الروسية حول السيطرة على آسيا الوسطى، يتم استئنافها اليوم على نطاق واسع بين الغرب، برئاسة أميركا، وبين الشرق برئاسة روسيا والصين.
وفي عصرنا هذا، أحيى زبغنيو بريجنسكي مفهوم "لعبة الشطرنج" هذا، وجعله عنوان كتاب أصدره في 1997 بعنوان "لوحة الشطرنج الكبرى: التفوق الأمريكي ومستلزماته الجيو- إستراتيجية". ثم ما لبثت إدارة بوش أن تبنت مقولات هذا الكتاب بالكامل وحولّته إلى سياسة هدفها إحكام الخناق على موارد النفط في أسيا الوسطى- قزوين والخليج، وبقية مصادر النفط العالمي (بما في ذلك حتى النفط الروسي نفسه).
موازين القوى في هذه اللعبة تميل هذه الأيام لصالح بكين وموسكو ولغير صالح واشنطن. فبعد قرار قمة شنغهاي الشهير عام 2005، الذي دعا واشنطن إلى تحديد موعد لإغلاق قواعدها العسكرية في آسيا الوسطى، عمدت جمهورية أوزبكستان إلى طرد القوات الأمريكية من قاعدة كارشي خان أباد الجوية المهمة. والعمل الصيني والروسي جار الآن على قدم وساق لإغلاق آخر قاعدة عسكرية أمريكية في آسيا الوسطى، وهي قاعدة ماناس في مطار بيشكيك.
الجمهورية الوحيدة التي لا تزال واشنطن تتمتع فيها بنفوذ قوي هي كازاخستان الغنية بالنفط (ينتظر أن تصَدر 3،5 مليون برميل في عام 2012)، والتي يدفعها موقعها الجغرافي بين العملاقين الصيني والروسي إلى محاولة ممارسة لعبة التوازنات.
واستنادا إلى هذه القاعدة، عمد رئيسها نور سلطان نزارباييف إلى توسيع خط الأنابيب إلى مرفأ موفوروسيسك الروسي، وأقام خط أنابيب جديد يصل إلى الصين. وفي الوقت ذاته، أعلن عن اتفاق لضخ النفط في خط أنابيب باكو- سايحان الذي ترعاه أميركا وتقوده شركة "بريتيش بيتروليوم". كما أنه استجاب للطلبات الأمريكية بعدم بناء خط أنابيب إلى إيران. ومؤخراً، بعث نزارباييف برسالة إلى الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ينصحه فيها بالتخلي عن الأسلحة النووية، كما فعلت كازاخستان غداة انهيار الإتحاد السوفياتي.
هذا الدور التوازني الكازاخستاني بين الغرب الأمريكي- الأوروبي والشرق الروسي- الصيني لا يزال ناجحاً حتى الآن. لكن إلى متى؟ العديد من المحللين يعتقدون أنه سيتراجع كلما تقدم دور معاهدة شنغهاي الأمني والاقتصادي، وفي النهاية الدولي- الإستراتيجي.
نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: هل تكون منظمة معاهدة شنغهاي التي تضم الآن ربع سكان الأرض، وقد تضم نصف البشرية في حال انضمام الهند وباكستان ومنغوليا إليها، حجر الأساس في نظام عالمي تعددي جديد؟
الأول هو أرييل كوهن، الباحث البارز في دائرة الدراسات الروسية والأوراسية في "هاريتيج فاونديشن"، الذي يقول إن "عودة الصين إلى حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى بعد غياب دام ألف عام، وعودة روسيا إلى ممتلكاتها القديمة في الإتحاد السوفيتي السابق، يجب أن تدقا أجراس الإنذار في واشنطن، ليس فقط حيال وجودها في هذه المنطقة الغنية بالطاقة، بل أيضا إزاء مستقبل زعامتها العالمية".
والثاني كانت "الغارديان" البريطانية التي أعادت إلى الأذهان أن منظمة شنغهاي حددت في وقت مبكر من عام 1999 هدفها بإقامة نظام عالمي تعددي جديد، حين شدد كل من الرئيسين (آنذاك)، الصيني زيانغ زمين والروسي بوريس يلتسين على "إيمانهما بضرورة إقامة نظام عالمي تعددي، يحل مكان النظام الحالي الأمريكي". ثم أشارت الصحيفة إلى أن البيان المشترك لقمة بشكيك الأخيرة أعلن أن "التحديات الحديثة والتهديدات الأمنية لا يمكن مجابهتها بفعالية إلا عبر جهود موحَدة تقوم بها كل الأسرة الدولية".
حسناً. منظمة شنغهاي تندفع بالفعل نحو هدف موازنة القوة الأمريكية، أولاً في وسط آسيا، وربما لاحقاً في بقية مناطق العالم. لكن هذا لا يعني أن ذلك سيحدث اليوم أو غداً. فلا الصين في وارد رمي القفاز في وجه أميركا، حفاظاً على أولوية نموها الاقتصادي، ولا روسيا قادرة وحدها على مجابهة القوة الأمريكية بعد أن خرجت من الحرب الباردة، وهي مجردة بالكامل تقريباً من كل ملابسها. فضلا عن ذلك، مازالت الخلافات عديدة وعميقة بين بكين وموسكو حول العديد من القضايا الدقيقة، ليس آخرها التنافس على النفوذ في الجمهوريات الآسيوية الإسلامية.
وعلى سبيل المثال، من مصلحة موسكو زعزعة استقرار الشرق الأوسط ومنطقة الخليج بهدف مواصلة رفع أسعار النفط، فيما تتضرر الصين بشدة من هذا الأمر لكونها المستورد والمستهلك الأول للبترول في العالم.
ثم هناك المواقف المتباينة بين روسيا والصين في جنوب آسيا. ففي حين تدعم الثانية باكستان بقوة، تجد الأولى مصالحها مع الهند. وهذه نقطة قد لا يحلها انضمام الهند وباكستان معا إلى معاهدة شنغهاي، بل قد يعقَدها إذا لم تحل أزمة كشمير.
ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني أن منظمة معاهدة شنغهاي يمكن أن تكون بالفعل أهم منصة انطلاق لنظام عالمي تعددي جديد. لكن هذا في المستقبل فقط. أما في الحاضر، فسيبقى هذا التكتل الإقليمي- الدولي ثوباً ينتظر من سيلبسه، أو أساسات تنتظر من سيقيم عليها صرح البناء البديل.
بيد أن هذا المشروع المستقبلي بات، برغم ذلك، يثير للمرة الأولى القلق في الغرب. وهذا ما عبَر عنه بوضوح مراسل الـ "بي. بي. سي" الذي كان يغطي قمة بيشكيك حين قال: "ثمة مؤشرات عدة برزت من قمة هذا العام بأن معاهدة شنغهاي بدأت تأخذ دورها بشكل جدي للغاية. والرسالة التي وجهتها هذه المرة هي أن "العالم أكبر من الغرب".
سعد محيو
المصدر: سويس إنفو
إضافة تعليق جديد