كوليت بهنا: خريطة الحيوان في ذات الإنسان

رغم التطور الطبيعي الذي طرأ على الانسان عبر ملايين السنين وتميزه عن باقي الكائنات الحية ، إلا أن بعض الناس الذين يعيشون بين باقي الناس ، ويتخذون أحيانا شكل رجل أو امرأة ، مازالوا يحتفظون في جيناتهم بسلوكيات كثيرة اكتسبوها من( حيوانيتهم الأولى) أو احتفظوا بها في ذاكرتهم من تماسهم المباشر مع عالم الحيوان العجيب . وبحيث يبدون وهم يتنقلون هنا وهناك وكأنهم حديقة حيوان حقيقية وجوالة ومتكاملة الأنواع. وليس بيت القصيد هنا توجيه الاهانة لهم بما يمتلكونه من هذه السلوكيات الحيوانية ، بل على العكس تبدو هذه السلوكيات أحيانا ضربا من الشطارة والذكاء وتساعد هذه الفئة من الناس ليس فقط على غريزة البقاء، بل أيضا على الارتقاء نحو الأفضل وتحقيق الثروات وتصيد الفرص المناسبة لهم في كل زمان ومكان  .
هذا النموذج (الرجل مثلا) ليس غريبا عنا بمعنى الغربة أو منعزلا بحيث يعيش في كهفه الخاص. بالعكس، فهو يبدو أليفا من ظاهره ، قد يكون جارك ، أو قريب لك أو زميل في العمل أو رفيقك دون أن تدري. اكتسب من الثعلب مكره العجيب بحيث أنه لايبدي أي رد فعل في الأزمات الحقيقية أو موقف حقيقي يمكن أن يسجل ضده. بالعكس ، فإن جيناته كفأر أيضا تنشط في الوقت الملائم وتساعده على الهرب من هذه المواقف التي لاتغنيه عن فقر ولاتسمنه عن جوع.
له خرطوم مخفي بعكس الفيل ، يمكنه أن يستعمله إذا وضع في منصب (مهبر) ما ، ويمكنه من شفط ثروات بما يعادل وزناً شفط ماء محيط شفطة واحدة. لكنه في نشوة الشفط الذي يمارسه، لاينسى جذوره كفيل ، ويمكنه في لحظة أن يدوس عليك ويهرسك هرسا فيما لو جربت أن تتشاطر وتمنعه دون أن تحسب حسابا لغضبه كفيل عتيق، أو يتحول بسرعة وبساطة إلى الحالة الأسهل والأكثر شيوعا وهي تكشير أنيابه كذئب بكامل استعداده ولياقته لعضك والتهامك سواء اكتمل البدر أم لم يكتمل .
إذا حدث من سوء حظك واحتجت إليه في خدمة ما أنت  مضطر ومتأكد أنه الوحيد الذي يمكنه أن يؤديها لك بحكم منصب ما تصيده بمخالبه الطويلة كصقر محترف ، ينقلب أمامك في ثوان  إلى أفعى من الطراز الأول ويمارس أمامك فنون المراوغة ، بحيث أنك لاتخرج من عنده خالي الوفاض فحسب ، بل إنه بسلاسة يمكنه أن يتسلل إلى (عبّك) ويسرق منك زهوتك وماتمتلكه من تفاؤل أو أمل، ولايخرج منك إلا بعد يلدغك. وفي العودة إلى تحوله إلى صقر اقتنص منصبه اقتناصا ، فهو في هذه الحالة لايمكن أن يتشبه بالصقر تماماً، لأن المعروف أن صيادي الصقور يعتمون عيني الطير المسكين تعتيما كاملا لأكثر من ثلاثة أيام ، بحيث يحطمون نفسية الصقر وكبريائه وكرامته بغرض تطويعه لخدمتهم. لكن صاحبنا هنا بالأساس لايمتلك أي كبرياء ، وليس لديه – ولو لحفظ ماء الوجه – أية كرامة تذكر.

إذا وجد نفسه ، أحيانا، في حالة إهمال أو منبوذ لغلط ما ارتكبه هو بنفسه ، يتحول إلى ضفدعة تقض مضجعك بالنق المستمر، أو بومة تقف عند نافذتك لتخرب صباحك وتتعس مساءك وهو يدعو لك وعلى أمانك واستقرارك وهناء عيشك بالخراب الدائم .

يمتلك سرعة أنثى النمر الياغوار في اللحاق بطريدتها ، لكنه لايمتلك البتة حنانها . إذا أنه لايطارد فريسته أساسا لإطعام صغاره كما تفعل هذه الجميلة ، بل يطارد لحقد متأصل في نفسه لايهدأ أويكنّ ، إلا بعد أن يرى طريدته وقد سقطت في قبو معتم بعد أن أشبعها تهماً بتقاريره التي يكتبها بخط منمق واضح وكذب وافتراء منمقين وواضحين . ومن أجل الإنصاف ، فإن تنميق خطه وكذبه لم يكتسبهما من أحد، ولا يوجد بالتأكيد حيوان يكتب أو يكذب ،  إنما هما ميزتان فرديتان  تسجلان له وحده نمتا مع الأيام من شدة عفونة أفكاره، وشدة نتانة مستنقعات روحه النتنة.

يمكنه أن يقفز برشاقة  قرد من باب إلى باب، ومثل نقار الخشب يمكنه أن ينقر كل الأبواب الموصدة في وجهه وينقر أي وجه يسد طريقه بقصد أو بدونه. وفي هذا الاطار يتجلى ابداعه الحيواني بأهم تجلياته ، فهو إن جلس على كرسي في يوم من الأيام والتصق عليه بثقل مثل الدب ، لن يتحمل بالتأكيد أن يفقده مثل خاروف. وفي الوقت الذي يفرح فيه أعداؤه الكثر لأنه طار بعيداً مثل غراب ويستمتعون بالسخرية منه والتشفيّ فيه بعد أن مص دمائهم مثل الضبع. يكون هو في جحر ما يرتجف من غضبه كجرذ مبلل ، ويتحين الفرصة الملائمة للانتقام منهم كجمل ، دون أن يسهو عن استعمال موهبته كقط عتيق له سبعة أرواح، يمكنه ببساطة أن يفدّي بروحين أو ثلاثة أو خمسة من هذه الأرواح تحت أي حذاء يساعده في عودة  أمجاده كديناصور ، ليفاجأ أعداءه وقد عاد ليحتل كرسياً جديداً  بمنصب جديد يمكنه أن يعتليه بثقة وهو يمارس غروره بلذة كطاووس ، دون أن ينسى الذين شمتوا فيه في محنته ويبتدئ بنتف ريشهم مثل الدجاج واحدا تلو الآخر .
الفرق الكبير بينه وبين القط الجميل أنه لايموء مثله ، بل يعوي.
إنه يعوي منذ زمن طويل.. ونحن نسمعه أيضا.. منذ زمن طويل.     

كوليت بهنا
المصدر: جهينة