لحظة الولادة
نبش الزوجان تاريخ عائلتيهما المرضي، بحثاً عن سبب أدّى إلى موت وليدهما الأول، فلم يجدا. أتى الصغير، سري، إلى الدنيا بقلب مشوّه، ولم تنجح مساعي الأطباء والجرّاحين في إبقائه نابضاً. سكنت الموجة الخضراء على شاشة المجسّ، مطلقةً «آه» حادّة، حتى تلاشت الأم المفجوعة.
جاء البروفسور المتخصص وجلس على الأرض يواسي سلمى، الأم، ويكلّمها عن معنى الأمومة بفقدان المولود. كلامه البليغ جعلها تهدأ وتفكّر. لم يكن البروفسور «الكبير» ليجلس على أرض الغرفة، لو كان في بلادنا. وفي لحظة الألم، راح يحمّسها لتحاول الإنجاب، مرة أخرى.
ورفضت سلمى تدخّل زوجها، بسّام، إذ قال لها: «سنُرزق بغيره». ثارت من كلمة «غيره» واضطربت. فابنها، سري، جاء ورضع من ثدييها ثم غادر بعد يومين. سلمى صارت تريد أن تُرزق بابن «ثانٍ»، لا بغير الأول أو بدله.
لم تشر نتيجة الفحوص الطبية إلى أي داعٍ لما حصل لهما وابنهما الأول. وواصلا بحثهما عن أي سبب يمنحهما بعض الاطمئنان، حتى وقع بسّام على معنى كلمة سري. وجد في «لسان العرب» أنها تعني النهر الصغير الذي ينبع ولا يلبث أن يغور في الأرض. هكذا جاء سري ليعود إلى التراب... لن ينسياه.
سلمى حامل مجدداً. كبتت فرحتها. استعدّ بسّام لكل الاحتمالات. ذهبا إلى البروفسور، ذلك «الذي يجلس على الأرض» مع مرضاه. راقبها واعتنى بتطوّر الجنين. لم يريدا معرفة جنسه، قبل أن يولد. «كل شيء طبيعي»، أعلن البروفسور.
وفي غرفة التوليد أوكل بسّام بمراقبة مؤشرات الآلات، بينما سلمى تئنّ وبطنها تشتدّ ثم ترخي. طال الانتظار: طبيب متمرّن يدخل، وممرضة تخرج... وعرفا أن موعد اللقاء حان عندما دخل البروفسور الغرفة. ربّت على كتف سلمى، وأخذ يشجّعها ويحمّسها، وهي تشدّ حتى تشققت شفتاها وجحظت عيناها. فموعدها هو مع حبيب آتٍ من لدنها، وعليها أن تدلّه على الطريق.
قال البروفسور وقد بدا عليه الإعياء: «يبدو أنها عنيدة»، ردّت الممرضة: «أو... عنيد». وفي لحظة معيّنة شخصت عيون أفراد الفريق الطبي في نقطة واحدة. «شدّي قليلاً بعد»، صرخ البروفسور.
فاقترب بسّام من نقطة لقاء الحبيب. كان يرتعد خوفاً زاده روعة المشهد: رأس طويل يخرج من نفق ضيّق، ما لبث أن انتفخ ليأخذ حجمه وشكله الطبيعيين، كاشفاً عن عينين وثغر وأنف وذقن... كلها صغيرة ومنمنمة. ثم ظهر الجسم. شهق المولود ثم زعق. قصّ بسّام حبل السرّة باعتزاز. بكت سلمى وقبّلت يد البروفسور «الذي جلس معها على الأرض». وجاء... صبي أو بنت؟ لا فرق، «المهم خلقة كاملة»...
زكي محفوض
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد