لقمان العربي ونسوره السبعة: قصة البحث عن الخلود لدى عرب الجاهلية

12-06-2008

لقمان العربي ونسوره السبعة: قصة البحث عن الخلود لدى عرب الجاهلية

تنسب شخصية لقمان بن عاد وفق الموروث العربي ﺇﻟﻰ قبيلة عاد التي ورد ذكرها ﻓﻲ القرآن الكريم، «وأما عادٌ فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية». وعاد قبيلةٌ قديمةٌ، وصلت أصداء أخبارها ﺇﻟﻰ عصر ما قبل الإسلام، وجاء ذكرها ﻓﻲ بعض أشعارهم، لكن ما ورد عنها من أخبارٍ أقرب ﺇﻟﻰ الخرافة والأحداث الخيالية، من التاريخ الدقيق.

أما قصة لقمان بن عاد، فلها صياغات متعددة وردت في قصص الأمثال وكتب الأخبار، ومن رواياتها المميزة ما جاء عند وهب بن منبه ﻓﻲ كتابه (التيجان ﻓﻲ ملوك حميَر). قال وهب: «وكان الله أعطى لقمانَ ما ﻟﻢ يعط غيرَه من الناس ﻓﻲ زمانه، أعطاه حاسةَ مئة رجل، وكان طويلاً لا يقاربه أهل زمانه». وهذا ما نسميه ﻓﻲ السرد القصصي بوصف الشخصية، وهو ما يعطيها سماتها المتفردةَ المختلفةَ عن غيرها، وكما نلاحظ فمنذ البداية تبدو شخصيةً غريبةً فريدةً، متفوقة، فأي رجل هذا الذي جَمع حاسةَ مئة رجل، والحاسة متعلقةً ﺑﻤﺎ هو معنوي، أي أن لديه من ناحية الذكاء والفطنة وعَمل الحواس ما يتفوق على الآخرين. ويضاف ﺇﻟﻰ هذا الوصف الداخلي، السمات والأوصاف الخارجية، من ناحية ضخامة الجسم: «وكان طويلاً لا يقاربه أهل زمانه»، فنحن إذن أمامَ شخصيةٍ قصصيةٍ، يقوم السارد بتمييزها وتفريدها عَما يحيط ﺑﻬﺎ من شخصيات وبشر.

ويكمل وهب بن منبه صياغة قصة لقمان فيقول : «وكان لقمان بن عاد يدعو ربه قبل كل صلاةٍ ويقول (ﻓﻲ دعائه): اللهم يا رب البحار الخضرْ/ والأرض ذات النبت بعدَ القطرْ/ أسألكَ عمراً فوقَ كل عمر). فلقمان (وفق الحكاية) رجلٌ مؤمن، وهو يريد من الله أن يعطيه عمراً أطولَ من عمر أي إنسانٍ آخر، إنه يريد حياةً ممتدة، ويريد أن يَفر من المَوت، وهو يكرر ذلك الدعاءَ مرةً بعد مرة.

ولا يَطول الزمن على لقمان حتى يسمعَ هاتفاً أو منادياً يقول له من دون أن يراه: قد أجيبَت دعوتكَ وأعطيتَ سؤالكَ ولا سبيلَ ﺇﻟﻰ الخلود، واختر إن شئتَ : بقاءَ سبع بقراتٍ عفْر، ﻓﻲ جبل وَعْرْ، لا يَمسَسْهن ذعر. وإن شئْتَ بقاءَ سبع نواياتٍ من تَمر، مستَودعاتٍ ﻓﻲ صخر، لا يَمسَسْهن نَدى ولا قَطرْ. وإن شئْتَ بقاءَ سبعة نسورٍ كلما هَلَكَ نسرٌ عَقَبَ بَعدَه نَسر. قال الراوي : فكان ذلكَ أنه اختارَ ( بَقَاءَ ) سبعة نسور.

نلاحظ ﻓﻲ هذا الجزء من القصة أنها تقوم على سؤال الحياة والموت، أي مأزَق المصير الذي طالَما عَبرت عنه القصص والملاحم القديمة، وهو سؤال ملحمة جلجامش السومرية من أدب بلاد الرافدين، سؤال الخلود والبحث عن سر الحياة، فلقمان يريد أن يتخلصَ من مأزق الموت، ويبددَ الخوف منه، فيصل ﺇﻟﻰ الخلود، لكن صوتَ الهاتف جاء واضحاً قاطعاً: لا سبيل ﺇﻟﻰ الخلود. أي لا تحلم ولا تفكر بالخلود، ستعطى عمراً ممتداً طويلاً كما تشاء... ولكنك لن تخلدَ، لأن الخلود ليس للبشر، مهما حاولوا وبحثوا عن سر تجدد الحياة وقهر الموت... هذا هو المعنى الكبير الذي يمكن أن نأخذَه من هذه القصة العربية، وهي بذلك تكرر واحداً من المعاني الكبرى ﻓﻲ أقاصيص الخلود ومحاولاته المتكررة : هل يخلد الإنسان ؟ هل يستطيع أن يغلبَ الموت، هل يستطيع أن يهرب منه؟؟ تجيب هذه الحكاية ضمناً وصراحةً : أن هذا محال، فالموت من نصيب البشر أجمعين... ولا سبيلَ ﺇﻟﻰ الخلود.

لقد وجَدَ لقمان نفسَه أمامَ خيارات ثلاثة ﻓﻲ البقاء، وهذا يعني أنه سيبقى حياً ما بقيَ الأمر الذي يختاره: بقاء سبع بقرات (وحش) معتصمة بالجبل الوَعر، أو بقاء سبع نواياتٍ من التمر بعيدة من أسباب التلف، أو بقاء النسور السبعة المتتالية. وهذا الخيار الأخير هو الذي فضله لقمان. لأن النسر طائرٌ معمرٌ وفق الوجدان العربي، وهو ﻓﻲ كثيرٍ من المرويات والأساطير القديمة مرتبطٌ بالحياة الممتدة وبطول البقاء... ﻭبهذا الاختيار ربطَ لقمان بقاءَه بحياة النسور السبعة التي أعْطيَ عمرها، وصارت القصة تدعى : قصة (لقمان والنسور السبعة).

وتبالغ القصة شأنَ القصص الخيالية العجيبة، فتجعل كل نسرٍ يعيش خمسمئة عام، وتَمضي السنون متتابعة، ومع النسر السادس يصبح عمر لقمان ثلاثة آلاف عام، ﺛﻢ يموت هذا النسر، ويظل النسر الأخير الذي تطلق عليه القصة اسمَ (لبَد): ﺇﻧﻬﺎ تعطيه اسماً، وتتوقف عنده، لأنه الخيط الأخير لأمل لقمان ﻓﻲ الحياة، ويَمتد العمر بلقمانَ أطول وأطول، حتى بلغ عمر النسر الأخير المسمى (لبد) ألف عام، أي أنه عاش عمراً مضاعفاً عن النسور الستة التي سبقته، ويصبح عمر لقمان (أربعة آلاف عام)، وحين ذاك يحس لقمان بدبيب الموت، أراد أن ينهضَ فضربت عروق ظهره، ﻭﻟﻢ يكن قبل يشتكي شيئاً منها، فقال معبراً عن هذه اللحظة القاسية:

يالَ قومي نَـعى إلَي بموتي/ اختلاف النسا وحبل الوتين

فكأنه ﻟﻢ يشبع من الحياة، على رغم أنه عاش أربعة آلاف عام، كأن كل الأعوام التي مرت لم تكن شيئاً، فما زال يطمع ﻓﻲ الحياة، ما زال يرغب ﻓﻲ المزيد.

وتسرد الحكاية المشهد الأخير ﻓﻲ حياة لقمان بن عاد، وهو ينظر ﺇﻟﻰ نَسْره الأخير « لبَدْ « آخر النسور وأطولها عمراً، فيلاحظ أن النسور جميعها طارت، أما نسره فقد بقي ﻓﻲ مكانه ﻭﻟﻢ يَطرْ، لقد عجز عن الطيران، ففوجئ لقمان وبوغتَ بعجز نَسْره، لأنه فهم معنى هذا العجز : لأنه يعني أن لقمانَ نفسه صار عاجزاً عن الاستمرار ﻓﻲ الحياة، أي أن النسر صارً رمزاً للعمر والحياة، ﻭﻟﻢ يعد مجرد طائرٍ من الطيور.

أخذ لقمان نسرَه بين يديه، وبدأ يشده، وينفضه ﺛﻢ يهزه بكل ما تبقى فيه من قوة، كأنه يحثه على الطيران، لكن (لبَد) خذل صاحبه، وتطاير ريشه يميناً ويساراً، تناثر ﻓﻲ المكان مثل ريش قديم... فكان هذا نذير شؤم وإعلاناً مفاجئاً عن انقضاء العمر، واقتراب « الحياة من التوقف «. وهكذا أيقن «لقمان» أن عمره قد نفد وأن الموتَ قادمٌ لا محالة.

هكذا تنتهي حكاية لقمان، أي حكاية الإنسان وهو يقلق من الموت، ويفتش عن سبيلٍ مورقٍ للحياة الأبدية. ومن الواضح أن هذه الأسطورة العربية إحدى الصيغ السردية المعبرة عن فكرة الخلود التي طالما خامرت الإنسان القديم، خصوصاً ﻓﻲ الحقب الوثنية القديمة، أي قبل الإسلام والأديان السماوية التي منحت الإنسان خلوداً مختلفاً، عندما وعدته بخلود الآخرة، وعلمته أن الدنيا زائلةٌ، وأﻧﻬﺎ دار فناءٍ لا بقاء... أما الآخرة ﻓﺈﻧﻬﺎ دار الخلود والبقاء الأبدي... ولكن قصة لقمان، مثل ملحمة جلجامش السومرية، تظل شاهداً خالداً على قلق الإنسان وبحثه عن الطريق لمواجهة الموت، وحل مشكلة المصير ﻓﻲ ظل غياب الرؤية الواضحة عن مصير الإنسان بعدَ الموت، وقد ظلت قصة لقمان بن عاد حاضرةً ﻓﻲ الوعي العربي من خلال ورودها ﻓﻲ قصص الأسمار وقصص الأمثال، والأخبار وغيرها، فقيل ﻓﻲ أمثال العرب: (أتى أبَدٌ على لبد). وكذلك قيل : (أخنى أبدٌ على لبد).

وكما وردَت هذه القصة نثراً، استعارها بعض الشعراء القدامى، وعرضوها ﻓﻲ قصائدهم بأسلوب شعريٍ قصصي. وهكذا أفاد الشعراء القدامى من قصة حكاية لقمان ونسوره، وأشار إليها غير واحد منهم، وتباينوا ﻓﻲ غَرَض إيرادها، مثلما اختلفوا ﻓﻲ أسلوب سردها، فاكتفى بَعضهم بالإشارة الخاطفة إليها، وكأنه يعتَمد على ذاكرة جمهور المتلقين الذين لا يحتاجون إلا ﺇﻟﻰ الإشارة ليتذكروا القصةَ ويستحضروها، بينما أطالَ بعضهم فيها، فأدت الإطالة ﺇﻟﻰ إضفاء مسحة القص على القصيدة.

أفاد النابغة الذبياني مثلاً من هذه القصة عندما جعَلَها مثالاً لتأثير الزمن، فذكرها وهو يعرض لخراب الديار ﻓﻲ معلقته المشهورة فقال:

أمستْ خلاءً وأمسى وأهلها احتملوا/ أخنى عليها الذي أخنى على لبد

أي أن الديار أصابها الخراب، وأتى عليها فعل الدهر، كما هو حال (لبَد) نسر لقمان الذي عاش طويلاً لكن حياته ﻟﻢ تستمر، بل أصابها الخراب.

وأما طرفة بن العبد فأشار ﺇﻟﻰ القصة وهو يواجه حديثَ الموت، ويحس بعمق مأساته، ويَرى خلبيةَ الخلود واستحالتَه. يقول طرفة :

فكيف يرجي المرء دهـراً مخلداً/ وأيامه عَما قليلٍ تحاسبه

ﺃﻟﻢ ترَ لقمانَ بنَ عـادٍ تتابعت/ عليه النسور ثم غابت كواكبه

ويشير زهير بن ﺃﺑﻲ سلمى الى هلاك لقمان بن عاد متخذاً منه مثلاً على الفناء واستحالة الخلود :

ألا لا أرى على الحوادث باقياً/ ولا خالداً إلا الجبالَ الرواسيا

ﺃﻟﻢ تـرَ أن اللهَ أهلـك تبعاً/ وأهلَكَ لقمانَ بنَ عادٍ وعاديا

ويقص لبيد بن ربيعة حكاية لقمان مع لبد، ويتوقف عند مشهدها الأخير، فنرى لقمان يحاول إنهاض نسره لكنه يعجز عن النهوض، فيعرف أن الموتَ قد جاءه، وأن الخلودَ محال :

ولقد جرَى لبدٌ فأدركَ جريَـه/ ريب الزمان وكان غيرَ مثقل

ﻟﻤﺎ رأى لبد النسورَ تطايرت/ رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل

مـن تحته لقمان يَرجو نَهْضَه/ ولقد رأى لقمان أن لا يأتلي

وترد القصة عند ذي الإصبع العدواني وهو يدافع عن شيخوخته وكبَر سنه، بعدما صارَ مثلاً للهزء والسخرية، فيوجه حديثه ﺇﻟﻰ امرأة يسميها (زنيبة/ تصغير زينب) ويطلب منها أن تكف عن الهزء والسخرية، فالحال الذي آل إليه هو حال كل حي، ولا ذَنبَ له فيه، ويأتي بالقصة ليدللَ على فعل الدهر وقسوته، إذ لا يمكن أن يفلت الإنسان من قضائه وحكمه:

هزئت زنيبة أن رأت ثَرَمي/ وأن انحنـى لتقادم ظهري

لا تَهزئي مني زينب فما/ ﻓﻲ ذاك من عَجَبٍ ومن سخْر

أولـم تري لقمانَ أهلكه/ ما اقتات من سنَة ﺇﻟﻰ شَهْر

وبقاء نسرٍ كلما انقرضتْ/ أيامه عادَتْ ﺇﻟﻰ نَسْر

ما طالَ من أمَدٍ على لبَدٍ/ رَجَعَت مَحورته ﺇﻟﻰ قَصْر

محمد عبيد الله

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...