لماذا نحتاج إلى قادة؟
الجمل: إننا مجموعة ضدية و غالبا مثيرة للجدل من اليسار . فمن جهة يبدأ أغلبنا الاشتغال بالسياسة كمتمردين ضد السلطة . و غالبا ما نجد صعوبة في تقبل النظام – حتى النظام الذاتي . انظر إلى ميل اليسار للانشقاق و الانقسام .
من جهة أخرى فلدى اليسار أيضا ميل إلى التطلع إلى قادة أقوياء . إن لدينا ذلك الميل لكي نختزل رؤيتنا في فرد واحد يمكنه أن يعبر عنها بشكل جيد – أو من يبدو أنه يملك إحساسا واضحا و لا لبس فيه إلى أين يجب أن نصل و ما نحتاج لفعله كي نبلغ هذا الهدف . هذا يمكن أن يعني أن نحلل أنفسنا من المسؤولية الشخصية , الوجه الآخر من عملة نقص التزام اليسار بالنظام .
لكن يجب أيضا أن نبقي في الاعتبار الكثير من الأمثلة , رغم أنها أقل قبولا بكثير , من المنظمات اليسارية التي عملت على نحو فعال جدا من دون قائد واحد . هناك عدد كبير من الأمثلة من حركات النساء و السلام و حركات الخضر إضافة إلى التنظيم العالمي لحركة العولمة البديلة .
و بعض هذه الأمثلة الأفضل لهذا الشكل من المنظمة يمكن أن يوجد تاريخيا في الحركة النقابية و العمالية في أفضل الأحوال .
خذ على سبيل المثال بنية فروع النقابات و منظمات رجال النقابات . إنها نتاج تراث طويل من النقاش بين الأعضاء و من القواعد التي تمت الموافقة عليها و تجديد هذه الموافقة المكتوبة بشفافية , هذه القواعد التي تخلق هيكل أو إطار من المسؤولية المتبادلة , و الالتزام الذاتي بالنظام و المسؤولية الشخصية . إنها تسجل هناك على الورق , مسؤولية كل عضو في أن يستخدمها و يختلف معها و أن يتبعها بمجرد أن تجري الموافقة عليها .
بالطبع يمكن هنا أن يدخل الجمود , و أن تصبح القواعد حاجزا أمام التفكير الإبداعي و التغيير , يصبح المسؤولون فاسدين أو راضين عن النفس , أو يتقهقروا إلى نماذج جافة شكلانية و غير فعالة من النشاط . أو يمكن للهزيمة أن تؤدي إلى نفس النتائج من خلال الانسحاب من العضوية الفعالة . لكن تبقى هذه القواعد و المبادئ الرئيسية متوفرة لجيل جديد يعمل في ظروف أكثر تغيرا لكي يجري استخدامها و تعديلها و تغييرها – كما جرى في بريطانيا في السبعينيات من القرن الماضي و كما يجري الآن في القرن 21 .
لا يعني وجود بنية بالضرورة وجود قائد واحد . هذا تمييز هام لأن غياب البنية يمكنه أن يكون غير ديمقراطي كما هي التراتيب الهرمية على الطريقة القديمة . علينا أن نكون واعين دوما "لاستبداد غياب البنية" , مفهوم أخذ اسمه من كراس كتب اعتمادا على خبرة حركة تحرير النساء في السبعينيات , التي انعكست في خبرات تلك الحركة في التنظيم بطرق لا تقاوم فقط فكرة القادة , بل إنها تستغني في بعض الأحيان عن أية بنى أو تقسيم للعمل تماما . في الواقع فإن هذا الغياب الظاهر للبنية الذي يختفي غالبا في قيادة غير رسمية لا يتم الاعتراف بها و غير مسؤولة كانت أكثر ضررا لأن وجودها نفسه كان يجري إنكاره .
يكمن الجواب الديمقراطي الوحيد في خلق بنى شفافة تقوم على أسس يجمع عليها جماعيا و التي قد تتضمن أو لا تتضمن وجود قادة من نوع ما .
إذا لماذا قد نحتاج إلى قادة على الإطلاق ؟ هنا تخطر ثلاثة أسباب على البال .
أولا , هناك حاجة في المنظمات المعقدة لآليات للتنسيق و التوحيد . القادة غالبا هم أولئك الذين يحاولون أن يشكلوا نظرة شاملة عن نشاطات منظمة ما , و إلى جانب هذا أيضا المسؤولية عن الحاجات الكبرى لتلك المنظمة .
اليوم تمكننا الوسائل التكنولوجية الجديدة من تبادل و الاشتراك في المعلومات و التقديرات بسرعة و فعالية أكبر . تثبت الشبكات بشكل متزايد أنها أكثر فعالية من التراتيب الهرمية الصارمة . ستبقى هناك الحاجة إلى مناصب فردية و جماعية للمسؤولية , حيث تكمن الخطورة . لكن هناك فرصة أكبر لتجنب مركزة المعرفة و السلطة و لتدوير و تقسيم مواقع قمة المسؤولية .
ثانيا هناك تفاوت في الرغبة لجعل الأمور تحدث , لأخذ المبادرة و قبول المسؤولية - بصورة حاسمة . هنا غالبا يظهر القادة . لكي تتطور المنظمات و تتجدد فإننا نحتاج إلى رجال يوفرون دافعا أكبر , إبداعا أكبر , و مستعدين ليخصصوا وقتا أكبر .
لكن يجب ألا يقود هذا إلى مراكز دائمة للقيادة , بل يجب اعتبارها على أنها تشبه أكثر اندفاعات في الطاقة . إن الخطورة مع أي قائد , مهما كان قادرا أو فعالا أو مسؤولا على الورق , هو أن هذا الفرد يحل مكان و يعيق قدرات من يقودهم , إما بناء على رغبتهم الخاصة أو بسبب خمول البقية .
الحاجة الثالثة للقادة – و ربما الأكثر صعوبة للتغلب عليها في إطار منظمات اليسار – تتعلق بالمؤسسات السياسية . هناك عامل مشترك أساسي بالنسبة لكل الأزمات المختلفة نفسها التي ترتبط ببلير و لولا و شيريدان . إنه ( بشكل واضح إلى درجات مختلفة و حول سياسات مختلفة جدا ) تجاوز ما بعد السيطرة الديمقراطية لمنظمة ما من قبل شخص ما يبدو أنه يرمز لقضية هذه المنظمة .
في كل هذه الأحوال , فإن العملية التي تضفي كل هذا على قائد واحد تنتج تأثيرا نفسيا في الفرد المعني . في حالة طوني بلير , حزب فقد ثقته بنفسه في أنه قادر مرة أخرى على الفوز بالانتخابات وجد نفسه خاضعا لشخص يبدو أنه يعرف كيف يفعل ذلك . عندما بدأ بلير و حزب العمال الجديد بتدمير اليسار ( الذي رأوه العقبة أمام النجاح في الانتخابات ) فإنهم قد قاموا في الواقع بتدمير كل مصادر الرأي المخالف , و الكوابح و التوازنات . لم تكن النتيجة فقط في ظهور مفهوم الترئيس بل في ظهور رئيس تمكن بشكل متزايد من أن يحتل عالما خرافيا عن قواه كأداة للتاريخ .
إن المأساة المماثلة لحزب العمال البرازيلي كانت هي الطريقة التي قام من خلالها جزءا قويا من القيادة بتشجيع أعضائه و ناخبيه لكي يسبغوا على لولا ( الرئيس البرازيلي الحالي – المترجم ) كل أحلامهم عن السلطة الشعبية ( انظر سو برانفورد ) . إن الرؤية الراديكالية الديمقراطية القائمة على المساواة التي عمل عليها أعضاء حزب العمال على امتداد البلد جرى اختزالها إلى مجرد رمزية وجود عامل مصنع سابق في القصر الرئاسي . يعيش لولا خيال أنه إذا كان في هذا المنصب فإن الشعب هو في السلطة . عليه أن يصل إلى هناك و يبقى هناك بكل الوسائل الممكنة , لا يهم مهما كانت فاسدة أو كم هو وضيع في انصياعه للدولة البرازيلية و الأسواق المالية العالمية .
يشبه ذلك توم شيريدان ( بغض النظر عن الرأي الشخصي في الظروف التي تحيط بالانقسام الأخير ) فقد استثمر الحزب الاشتراكي الاسكتلندي أكثر مما يجب في هذا الفرد الواحد كتجسيد لهذا الحزب . يعتقد شيريدان , من دون شك , أنه يمثل الاشتراكية في اسكتلندا , و أن سمعته حاسمة لتقدمها , و أن المحافظة على هذه السمعة بكل الوسائل الضرورية هو أساسي بالنسبة للقضية . مرة أخرى تستخدم الأهداف لتبرير الوسائل . لكن هنا أيضا انتهى الرمز و قد استهلك الواقع .
هل هذا الشكل حتمي ما أن يدخل اليسار إلى مضمار السياسات الانتخابية ؟ ما هي خصائص مؤسساتنا السياسية "التمثيلية" التي تؤدي إلى هذا النوع من فصل رأس حركاتنا و أحزابنا الراديكالية أو الراديكالية المحتملة .
كان هناك على الدوام معنى مزدوجا لفكرة التمثيل . فمن جهة هناك التمثيل بمعنى "أن يجسد" أو "يرمز إلى" الشعب . و من الجهة الأخرى هناك تمثيل بمعنى "أن يمثل حضور" أولئك من لا يمكنهم أن يحضروا بشخوصهم . جانب من الأزمة المتعمقة لمؤسساتنا فيما يتعلق بالتمثيل السياسي هو أنه كلما خضعت المؤسسات المنتخبة على نطاق قومي أكثر للهيئات الاقتصادية غير المنتخبة و للتحالفات العسكرية , فإن رمزية القادة الشعبيين تملأ الفراغ الديمقراطي .
يجب أن تشمل العلاجات لهذا الوضع تحويل "التمثيل" إلى عملية تجعل الناس ممثلين بالفعل . يشمل هذا استخدام الحملات الانتخابية لتعزيز انخراط الناس بفعالية في السياسة , و رفع توقعاتهم , و تحفيز الناس ليكتشفوا مصادر قوتهم الخاصة ليتمكنوا من تحقيق هذه التوقعات .
كما أنها قضية تتعلق بالإصلاحات الديمقراطية الراديكالية أن نجعل تمثيل الشعب – كمجموع و ليس ككتلة واحدة – مباشرا أكثر ما يمكن . و إذا كان على الناس أن ينخرطوا في العملية السياسية بهذه الطريقة , فيجب إعطاؤهم السلطة لاتخاذ قرارات ذات معنى كنتيجة لهذا الانخراط – حتى لو لم تكن هذه القرارات هي نفسها التي نرغب بها نحن في اليسار .
بتعابير مباشرة و عملية , يتطلب هذا التزاما بديمقراطية محلية حقيقية – "محلية جديدة" حقيقية , و ليست النسخة الآمنة و الصحية التي تستهوي الطبقة السياسية الحالية في بريطانيا . سوف يتضمن ذلك برنامج واسع النطاق , يبدأ من نظام الانتخابات النسبي ( نظام لا يمنح السلطة ببساطة للأحزاب ) , و تشريع قوي لأقصى قدر ممكن من الانفتاح , و نقل حقيقي للسلطة إلى المحليات ضمن إطار من المعايير و الحقوق الوطنية .
كي نكون صادقين , يجب أن يتضمن نقلا كهذا للسلطة رغبة بتقبل قرارات "سيئة" أو كريهة , أن نسمح للناس بارتكاب الأخطاء – و أن يتحملوا مسؤوليتها . نحن في اليسار سيكون علينا أن نكون مستعدين لمواجهة توجهات نعارضها – بما في ذلك سياسات و قيم يمثلها الحزب القومي البريطاني ( الفاشي – المترجم ) , و بقية أشكال الشوفينية و العنصرية و الأصولية – سياسيا و ليس عن طريق الأوامر المركزية المؤسساتية .
كما تتطلب معارضة مقترحات الخصخصة نحو أشكال أعمق و يومية من السيطرة الديمقراطية على المؤسسات العامة . كما كتب أوسكار رايز في هذا العدد , فإن واحدة من "الأفكار الكبيرة" لحزب كاميرون المحافظ ذا المظهر الجديد هي الترويج لفكرة "نقل السلطة من خلال الأسواق" على التوازي مع مبدأ حزب العمال الجديد عن "دولة المقاولين" , الدولة كمتعاقد للخدمات . يحتاج اليسار إلى تطوير نماذجه البديلة الخاصة – و الفعالة – للتنظيم و السيطرة الاجتماعية الديمقراطية .
علاج آخر لأزمة القيادة هو نشر القوة داخل اليسار . ناقش كثيرون منا طويلا أن القوة لتحقيق التغيير الاجتماعي الراديكالي الانعتاقي ذات مصادر مختلفة عديدة : من المطبخ إلى مكان العمل , الإعلام القديم و الجديد , الشوارع و المتاجر الكبرى , بالإضافة إلى الأحزاب السياسية نفسها . إن الإقرار بهذه التضمينات الهائلة لتعددية مصادر التغير الاجتماعي هي أساس التزامنا بتوزيع راديكالي للقوة و التمثيل على اليسار – و للحاجة إلى إعادة تفكير راديكالية في دور الأحزاب و قادتها .
تلعب بعض الشخصيات العامة دور الحفاز أكثر منه دور "القادة" , و عوضا عن يشخصنوا القضية ( يجعلوها شخصية أو مرتبطة بشخوصهم – المترجم ) فإنهم يشجعون أولئك المنخرطين في المقاومة في ظروفهم الخاصة المباشرة على الوصول إلى كامل قوتهم الكامنة و ارتباطهم بعملية أوسع للتغيير .
طوني بن المتأخر , خاصة منذ أن انسحب من البرلمان ليعمل بالسياسة , قد يكون مثالا جيدا . أما طوني بن الأول , و الطريقة التي استثمر فيها أغلب يسار حزب العمال الكثير في حملة ترشيحه لنائب الرئيس في أوائل الثمانينات , قد لا يكون كذلك .
يسار حزب العمال محدود القوة يتجمع من جديد لخوض حملة انتخابات قيادة جديدة . هناك علامات على أن الدرس قد تم تعلمه – و ليس فقط كنتيجة للواقعية الواضحة أنها انتخابات لا يمكن الفوز بها .
من الواضح من المقابلة معه في هذا العدد من الفلفل الأحمر ( مجلة يسارية بريطانية – المترجم ) أن جون ماكدونيل يرى نفسه كمحفز لإعادة التفكير و إعادة البناء أكثر من كونه شخصية قيادية منفردة . فيما إذا كان طريق بلير التدميري سيترك أي شيء من حزب العمال ليجري إعادة بنائه هو سؤال مفتوح , لكن في النقابات على الأقل لدى حملة ماكدونيل قاعدة مؤثرة من الدعم .
أظهر استطلاع للرأي أجرته جمعية إصلاح الانتخابات المستقلة أن 59 % من مندوبي النقابات يدعمون ماكدونيل . إن بنى و قواعد عمل النقابات عنت أن دورها في الحركة العمالية قد نجت من جائحة كون القائد خارج السيطرة . هل من المبالغ الأمل أنهم قد لمحوا فرصة للتنظيم السياسي لليسار لا تستحوذ عليه كلية مسألة قائده ؟
ترجمة : مازن كم الماز
بقلم هيلاري وينرايت و ستيف بلات
9 أكتوبر تشرين الأول 2006
نقلا عن www.zmag.org
إضافة تعليق جديد