مضايا والزبداني: رواية من الداخل
يجول محمود في ساحة قريته كأنّه يعيد اكتشافها. يتنقّل بين بقعة مشمسة وأخرى، ليتدثّر أخيراً بفيء نصب تذكاري. في مضايا، غلبت الحياة التاريخ القريب.
محالّ فتحت أبوابها وإلى جانبها أهالٍ وضعوا كراسيهم أمام منازلهم، لعلّهم ينعمون بلفحة دفء. بالنسبة إليهم، لم يكن يوم جمعة أو سبت أو...، هو «الثالث» بعد خروج المسلحين. قد يطول العدّاد على هذا المنوال في بلدة اعتادت «الحساب» في أشهر الصيف السياحية وحسب تقويم الأرض/ الزرع.
أبو حسام، الخمسيني، يأبى إلّا أن يستضيف زواره في بقالته بين باقات النعنع والخُضر. في حديقة أمام منزله يزرع «موسمه» ويصدّره إلى متجره الصغير. يروي أنه ينتظر تسلّم أرضه في سهل مضايا. يشبّه ما حصل في بلدته بأعمال القرصنة... قرصنة «من القريب» حسب وصفه: «جزء من أولاد البلدة قرّروا أنها ملكهم وأنّ استثمارها هو في السلاح والسطوة... الله يسامحهم».
لا يحمل الرجل أيّ ضغينة «فكلٌّ أخذ الطريق الذي أراد وحصد نتيجة أعماله». أما أحمد صاحب محل الخرضوات فيقلب كرسيه من زاوية إلى أخرى في متجره. تفشل ابتسامة التفاؤل في إخفاء مخاوفه، «مين بالو بالمسامير» يقول.
آلاف المواطنين بقوا في البلدة، حيث نسبة الدمار تكاد تكون معدومة. الحاجة إيناس تضحك عندما تجيب عن آخر خروج لها من مضايا: «يمكن وقت الحج بالـ 2007».
تشرح طويلاً عن «الاكتفاء»، عن الزراعة والمياه التي تطعم وتسقي «كل الشام». الأربعينية التي تبدو في الستين من عمرها حسب «مزحة جارتها»، لا تتأفف من «كِبرها» الافتراضي، فـ«سنة الحرب بخمس».
بين شوارع مضايا وناسها، لم تعد «حملة التجويع» قابلةً للنقاش بأسلوبها القديم. المساعدات أسيرة مستودعات الفصائل المسلحة، وبيعها (لا توزيعها) حسب أسعارهم وتوقيتهم. خروج المئات من مسلحي مضايا وذويهم جبّ ما قبله. في الحافلات أخذوا «غنائمهم» وتوجّهوا نحو إدلب.
منذ بداية عام 2016 حتى أسابيع خلت، تحكّمت مجموعات صغيرة لا برقاب أهل البلدة فحسب، بل بكل خبر عنهم. آلة إعلامية استطاعت أن توحي بأنّ مضايا مدينة أشباح متحدة على الجوع والمرض في مواجهة الحصار.
اليوم، انعتقت البلدة الدمشقية ومعها جارتها بقّين، فيما في الزبداني رواية أخرى. في قلب المدينة الشهير، حيث المربّع الأخير للمسلحين المحاصرين، دمار كبير. دمار لم يخفِ جشع آخر القابضين على الزناد في المنطقة التي حوصروا فيها، ولم تُحسم عسكرياً لربط مصيرهم بمصير أهالي كفريا والفوعة.
أسفل «مركز العمليات» رائحة حديد مشتعل. القائد العسكري في «حركة أحرار الشام» أبو عدنان زيتون أحرق آلياته. الرجل الأول في الزبداني خلّف وراءه سيارات عدة حديثة. تشير المصادر المتابعة لاتفاق «البلدات الأربع» الى أنّه طلب الخروج بسيارته من نوع «بي. آم. آكس 5». أَخّر المفاوضات أياماً ليحصل على خروج «الأبطال القادة». خسر شرطه، فأشعل الثائر ممتلكاته وجلس على مقعد في باص تحت أنظار الجيش السوري.
من هذا المربّع، خرج 156 مقاتلاً من «أحرار الشام» و«هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)». أربع حافلات نقلتهم جميعاً دفعة واحدة، لا أطفال ولا شيوخ معهم. رغم ذلك، حتى الأمس القريب، «وثَّقت» قنوات عربية عدة «بالصور» من داخل الزبداني «آثار سياسة الحصار والتجويع». أما عشرات المقاتلين المتبقين، فتبيّن أنّ لديهم عشر دبابات، وأنفاقاً ومئات الكيلوغرامات من المساعدات الغذائية.
في النتيجة، وضعت الحرب أوزارها في الخاصرة الشمالية الغربية لدمشق. هنا تتصدر الزبداني، ومضايا، وبقين، وسرغايا وبلودان وقرى وادي بردى قائمة المناطق السياحية، والخزان المائي للعاصمة السورية.
كذلك، اندثر تأثير هذه البقعة الضخمة على قلب العاصمة والطريق الدولي والحدود اللبنانية، بعدما أضحت آمنة بشكل كامل وشكّلت مدخلاً للسلاح والمسلحين من لبنان إلى مناطق القلمون وغيرها (بسبب قربها من لبنان بمسافة متفاوتة بين الـ 11 كلم إلى 1 كلم عند سرغايا). وبفضل تضاريسها وسلاسلها الجبلية المرتفعة، تكشف كل الطرقات المحيطة بها، لتؤَمّن الحدود من هذه المنطقة وتقفل معابر الإمداد والتهريب، إضافة إلى تأمين ريف دمشق الغربي.
«الجيش والحلفاء سيخفضون وجودهم في المنطقة»، يشير مصدر متابع. ولإعادة التموضع آثار إيجابية في الميدان، إثر القدرة الحالية على إراحة عدد كبير من الجنود وتفرّغ آخرين لجبهات أخرى. أما المرحلة الثانية من اتفاق البلدات الأربع، فمن المتوقع إنجازها بعد شهرين، يجري خلالها إخلاء كامل لكفريا والفوعة (8000 شخص) مقابل خروج مسلحي «جبهة فتح الشام» من مخيم اليرموك و1500 معتقل من السجون السورية. ويروي مصدر سوري أنّ «هذه المرحلة ليست مكتملة المعالم بعد»، إذ كان من المفترض أن تشمل أيضاً مسلحي «النصرة» من بلدات بيت سحم وببيلا ويلدا جنوبي دمشق.
طُوِيَت صفحة الحرب العسكرية والإعلامية في الجبال الوادعة. عادت مضايا وجوارها لتنهل من كتابها «التكوينيّ»، من الأنهار وأشجار التفاح والكرز والدراق، حيث لا صورة أنقى من الخضار الممتد إلى كيلومترات طويلة. «عروس بردى» المطلة على سهل الزبداني في انتظار «موسم» جديد... فالأرض لمن يزرعها.
إيلي حنا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد