معرض الفنان السوري منذر كم نقش: تقاطعات الأزمنة والفنون والأساطير والبشر والملائكة
الداخل إلى معرض الفنان السوري منذر كم نقش ينتبه أنه أمام فن مختلف عما تعودته العين، لا لجهة الغرابة التي تتضمنها الأعمال، إنما لتلك الخلطة الذكية التي تأخذ فنيتها من عصور مختلفة، تبدأ بفنون عصر النهضة ولا تنتهي بتمثلات الحداثة، كما تأخذ موضوعها من أساطير الحضارة اليونانية والرومانية من دون أن تقفلها عندها، فهي تنفتح أساساً على أسئلة وجودية متشعبة، وإن كان عنوانها الأساس المرأة.
الفنان كم نقش (مواليد 1935) الذي نعرفه في لبنان للمرة الأولى، عاش تجربته الفنية في باريس، وهو اليوم يتنقل بين سويسرا وسوريا، وقد عرض في صالات باريسية وأوروبية وشرق أوسطية عدة، وهو يعرّف تجربته بالقول: «أحاول، في ما أقدمه من أعمال، الرجوع إلى الذات، والبحث عن الأشياء المضيئة والنقية فيها، وتثيرني دورة الحياة في الطبيعة، من برعم أو نبتة صغيرة، أو شجرة كبيرة تلقي بآخر ورقة لها في فصل الخريف، أو طفل حديث الولادة يحاول تلمس العالم لأول مرة، إلى شيخ مسنّ يمد يده بابتسامة حلوة ليودع هذا العالم».
قد يكون الكلام الذي يقوله كم نقش أقرب إلى التعبير عن شخصية فنان أفلاطوني، منه إلى فنان ينطلق من وقائع عالم اليوم، أو فنان يعيش مرارات شعبه، فهو يتجاوز يوميات أهله الأكراد، ليصفّي أعماله الفنية من شوائب العالم وتبعات غيوم الواقع وتأزماته، ليرتحل مع شخصياته شبه الأسطورية إلى أسئلة أكثر عمقاً وتأسيساً، إلى معضلات الخلق والوجود والولادات الأولى للأشياء، مع كل ما يحيط بها من هوامش تسحب العمل الفني نحو جماليات الطبيعة المستمرة.
الأساطير
تذكرنا أعمال المعرض بلوحات مايكل أنجلو وسواه من الفنانين الذين صوّروا القصص التي تحمل معها المعاني القدسية، هكذا نرى الأم وأبناءها الذين يشبهون الملائكة المجنحين، وكثيراً ما نراهم طائرين على جدران وسقوف الكنائس. لكنها تعود أيضاً إلى أسطورة فينوس الرومانية، وقد جعل عنوان المعرض «فينوس الغيوم»، فينوس آلهة الحب والجمال والخصوبة، بل إن وجود البجع في بعض اللوحات يعيدنا إلى أبعد من ذلك، إلى أسطورة «ليدا والبجع» اليونانية.
في أي حال، الفنان هنا يتكئ على الأسطورة من دون أن يغرق في أعماقها، فهو يعتمدها كمدخل إلى العالم الذي يريد الانفتاح عليه، لا سيما عالم المرأة، التي تبدو هنا مشعة بكل معانيها، من الولادة والخصب والجمال حتى الإغواء الجنسي. هذا الامتداد الترميزي والتعبيري نراه من خلال معالجة الفنان لجسد المرأة، الذي يقربه مرة من الحلم، ولا يبتعد به، مرة أخرى، عن مهمة إغواء البصر وفتنة المُشاهد، أولاً وآخراً، من دون افتعال أو استجداء، فهو يمتلك عدة الفتنة تلك، ويؤدي عمله بمزيد من التقنية المبسطة التي تبدو في كثير من الأحيان مرنة وطرية وعفوية. تلك البساطة التي تبدو من خلال استخدامه مادة الباستيل مبتعداً بها عن تداخل السطوح اللونية، وعن تجسيد الانفعالات الفالتة والضربات العشوائية في لوحاته، كما يعتمد التبسيط اللوني والوضوح، فالفنان يهتم في أعماله بتقديم صيغة أنيقة، تتناسب والموضوع.
حلم
كائنات المعرض من نساء وأطفال وطيور وسماء تختصر الطبيعة التي يلجأ إليها الفنان، باحثاً في تصوير أشكاله عن جمالياتها، من دون أن يلتزم في ما قدم بمقاييس الطبيعة، ولا بواقعية المشاهد، فالأسطورة تأخذ مداها، منسجمة بالطبع مع السوريالية التي تتكشف في أسلوب تشكيله مخلوقاته، فهو وإن انطلق في معالجة الشكل من الأناقة والوضوح والابتعاد عن التجريد اللوني، إلا أنه تعامل معه كأنه عجينة يستطيع تشكيلها في المخيلة لا على الأرض، حتى أن مخلوقاته في معظمها تبدو محلقة في فضاءات غير واقعية، وسابحة في مجرات قد لا تشبه عالمنا، ومرتفعة عن أي أرض أو مكان محدد. فالمسرح الذي يحرك فيه أبطاله هو الوجود مختصراً بمساحة اللوحة، هو عالم علوي سماوي قدسي، أو مسكون بخرافات وخيالات جميلة.
تبدو اللوحة كأنها حلم جسده الفنان بألوان الباستيل الهادئة الحالمة، حلم يعلو لخفة وزنه، بعكس المنحوتات البرونزية التي يعتمد فيها ثقل المادة المعدنية أولاً، ثم الارتكاز القوي للشكل على أسس عريضة متينة، ثم التقرب من الحالة النصبية التي تجعلنا ننقل الشكل في مخيلتنا إلى ثقل أكبر وحجم أضخم. على أن الحوار لا يقتصر على اللوحة والمنحوتة، إنما البراءة والشهوة، الأسطورة والواقع، الجسد البشري والملائكي. وإذا تطلعنا إلى عيون الشخصيات وجدنا أنها مغمضة دائماً، ما يقودنا إلى التفكير في الداخل في الوقت الذي نتطلع فيه إلى الخارج أي الجسد.
وما لا بد من الوقوف عنده أيضاً هو تلك السكونية في الزمن الذي تؤشر إليه الأعمال، فلا تحيلنا على زمن بعينه، بقدر ما تحيلنا على زمن مستمر، على أزلية وخلود قريبين من مفهوم القداسة ومن مفهوم الايقونة. ومع ذلك ينحرف الفنان بهذه القداسة والملائكية نحو التعبير المادي، فيمط أعضاء الشخوص، ويعظّم بعضها، فيحوّل الجسد إلى رأس كبير، أو الرأس إلى امتداد متلاش، يختصر مرة ويبالغ مرة أخرى، فيصبح الفم نقطة صغيرة في بحر الوجه، وتفقد الطبيعة توازنها عندما تصير اليد بحجم العين أو الرأس أطول من الأطراف.
مهما يكن من موقف من الزمن الفني الذي يتحرك في أعمال الفنان أو الاتجاهات القديمة التي يذكرنا بها، وحتى المواضيع الأسطورية والقدسية والوجودية التي تحملها الأعمال إلينا، إلا أننا أمام معرض يحرك الذاكرة الفنية عندنا، من دون أن يجعلها تستقر في زمن بعينه، وهو في الوقت الذي يذهب فيه بالحلم نحو روحانيات قوية يوقعنا في فخ الجسد الأنثوي وإغراءاته، وفي الوقت الذي يغير فيه الشكل ويبعده عن أي قولبة نراه يأخذه إلى أناقة مثيرة وفاتنة.
أحمد بزون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد