مناورة حربية أمريكية جنوب العاصمة الكورية
كوريا الشمالية تطلق رصاصة الرحمة على جهود إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية وتنضم رسميا للنادى النووى.. هذا ماأطلقه بعض المراقبين على إعلان بيونج يانج إجراء أول تجربة نووية في تاريخها ، رغم تحذير مجلس الأمن الدولى وواشنطن من عواقب إجراء تلك التجربة.
وكانت وكالة الأنباء الكورية الشمالية الرسمية قد أعلنت في الثامن من أكتوبر أن بيونج يانج أجرت بنجاح أول تجربة نووية في جيلجو باقليم هامجيونج وأنه لم يقع تسرب أو إشعاعات عقب التجربة التي أجريت تحت الأرض.
وأشارت الوكالة إلى أن التجربة أجريت بتكنولوجيا كورية شمالية مائة بالمائة ، مضيفة أن هذه التجربة التى وصفتها ب " التاريخية والحدث السعيد" ستسهم في إقرار السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية والمنطقة المحيطة بها ، على حد قولها.
وقوبلت تلك التجربة بردود أفعال غاضبة حتى من أقرب حلفاء بيونج يانج ، خاصة وأنها جاءت بعد إصدار مجلس الأمن بيان في السادس من أكتوبر دعا فيه بيونج يانج إلى عدم إجراء تلك التجربة بعد أن كشفت أنها بصدد إجرائها .
وجاء أول رد فعل غاضب من جارتها الجنوبية ، حيث هددت كوريا الجنوبية بالرد بقوة على تجربة كوريا الشمالية النووية التي وصفتها بـ"العمل الاستفزازي".
وقال الناطق باسم الرئاسة الكورية الجنوبية يون تاي-يونج إن بلاده لن تتهاون مع التجربة وعلى كوريا الشمالية تحمل كافة المسئوليات المترتبة عنها .
وأضاف قائلا :" التجربة تهديد خطير يهدد استقرار وأمن شمال شرقي آسيا بجانب شبه الجزيرة الكورية كما أنها تقلص آمال المجتمع الدولى في إبعاد السلاح النووي عن شبه الجزيرة الكورية وحل المشكلة من خلال الحوار" ، محذرا من أن قوات بلاده مدعومة بالجيش الأمريكي على أهبة الاستعداد تحسبا لأي استفزاز من كوريا الشمالية .
كما دعا رئيس كوريا الجنوبية روه مو-هيون لاجتماع طارئ مع مستشاريه الأمنيين لبحث تداعيات تلك التجربة ، ووضع القوات المسلحة في حالة الاستعداد القصوى. وفي الولايات المتحدة، وصف الرئيس الأمريكي جورج بوش إعلان كوريا الشمالية أنها جربت سلاحا نوويا بأنه عمل استفزازي يستلزم ردا فوريا من جانب مجلس الأمن.
وقال بوش انه تحدث هاتفيا مع القيادات الصينية والكورية الجنوبية واليابانية والروسية وإن الجميع اتفقوا على أن التجربة غير مقبولة. ومن جانبها ، شكلت الحكومة اليابانية خلية أزمة ردا على إعلان كوريا الشمالية إجراء أول تجربة نووية لها.
وقال رئيس الوزراء الياباني شينزو أبى : "لايمكننا التسامح على الإطلاق مع قيام كوريا الشمالية بإجراء التجربة " ، واصفا التجربة بأنها تحد خطير للاستقرار في شمال شرق آسيا . وبدوره ، قال تارو اسو وزير الخارجية الياباني إن بلاده ستسعى لفرض مزيد من العقوبات على كوريا الشمالية وأنها قد تؤيد اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على استخدام القوة بعد إجراء بيونج يانج تجربة نووية. كما أدان وزير الخارجية الفرنسي دوسى بلازى بشدة تجربة كوريا الشمالية النووية ، وقال إن مجلس الأمن كان قد دعا كوريا الشمالية في السادس من أكتوبر لعدم إجراء التجربة، وإن على المجتمع الدولي أن يرد وبحزم على هذه التجربة.
وبالنسبة لحلفاء بيونج يانج ، فقد انتقدت الصين بشدة التجربة النووية لكوريا الشمالية، وقال بيان صدر عن وزارة الخارجية الصينية إنها تعارض هذه التجربة، وإن كوريا الشمالية تجاهلت المعارضة الواسعة من جانب المجتمع الدولي لتلك الخطوة. وطالب البيان حكومة بيونج يانج بأن تلتزم بتعهداتها السابقة، وتتوقف عن أي إجراءات أخرى من شأنها أن تزيد الموقف تعقيدا.
كما أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التجربة النووية في كوريا الشمالية واعتبر أنها ألحقت ضررا هائلا بعملية حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل ، قائلا :" إن القضية لاتكمن في كوريا ذاتها وإنما في ذلك الضرر الهائل الذي لحق عملية حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل". ومن جانبه ، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة لبحث التجربة النووية أدان خلالها التجربة وأحال ملف كوريا الشمالية للجنة خبراء لبحث فرض عقوبات عليها.
ويقفز تساؤل جوهرى هنا : ما مغزى التجربة النووية لبيونج يانج ؟ فيرى مراقبون أن التجربة النووية جاءت فى الوقت الذي جمدت فيه المحادثات السداسية التي تشارك فيها الكوريتان والولايات المتحدة واليابان وروسيا والصين بشأن البرنامج النووي لبيونج يانج وتحول الاهتمام الدولي إلى طموحات إيران النووية، ولذلك فإن بيونج يانج تسعى لاستقطاب الاهتمام العالمى بأزمتها مجددا للحصول على مزيد من التنازلات الأمريكية، كاستئناف العلاقات الدبلوماسية وكسر العزلة المفروضة عليها وتحقيق مكاسب اقتصادية كالحصول على الوقود والمساعدات البترولية.
ووفقا للمراقبين فإن تلك التجربة جاءت بعد اتهامات وجهتها بيونج يانج في الفترة الأخيرة للولايات المتحدة بإجراء رحلات جوية استطلاعية في مجالها الجوى ومواصلة سياستها العدائية ، ولذلك فإن بيونج يانج تسعى لإيصال رسالة قوية لواشنطن مفادها أنها تمتلك تكنولوجيا نووية متطورة قادرة على تهديد الولايات المتحدة نفسها في حال أقدمت واشنطن على غزو أراضيها.
وأشار المراقبون إلى أن تورط أمريكا فى العراق بأكثر من 130 ألف جندى وتكبدها خسائر فادحة هناك ، جعل من الصعب عليها إخافة كوريا الشمالية بشكل كاف ولذلك ترفع بيونج يانج راية العصيان في وجه واشنطن ولاتخشى إقدام واشنطن على مهاجمتها.
ووفقا لتقارير مسربة من الحكومة الكورية الجنوبية فإنه في حال تفكير واشنطن في مهاجمة بيونج يانج فإنها تحتاج إلى 690,000 عسكرياَ بالإضافة إلى حوالي 2,000 طائرة حربية وهذا يعني التزام أمريكا بـ 70 بالمائة من جنود بحريتها قاطبة، و50 بالمائة من قوتها الجوية، و40 بالمائة من قوتها البحرية، وآلاف الجنود العاديين وتفوق هذه الأعداد أكثر من أربع مرات القوات الأمريكية الحالية فى العراق.
يضاف إلى ذلك أن السياسة الأمريكية تعي تماماً أنها تتعامل مع دولة نووية تمتلك وسائل توصيل الرؤوس النووية إلى الأراضي الأمريكية بصواريخ تصل مداها إلى 2000 كيلو متر وتحتوى على رؤوس غير تقليدية بجانب أنه لدى كوريا الشمالية رابع أكبر جيش في العالم، وإنفاقه العسكري يعادل تقريبا 25 بالمائة من الدخل القومي السنوي ، مما يجعل حسابات واشنطن هنا تختلف عن حساباتها مع طهران ، التى لاتمتلك أسلحة نووية مثل بيونج يانج ولاتتمتع بمعارضة لغزوها عسكريا كتلك التى تتمتع بها بيونج يانج من قبل جيرانها .
وبالإضافة إلى الردع العسكرى ، فإن كوريا الشمالية أجرت التجربة النووية وهى تدرك جيدا أن جيران كوريا الشمالية لايشتركون في نفس المصالح أو الأولويات مع الولايات المتحدة .ففى الوقت الذى تتفق فيه اليابان نسبيا مع سياسة واشنطن الحالية تجاه كوريا الشمالية، تعارض روسيا فرض عقوبات على بيونج يانج بسبب صلاتها الوثيقة التاريخية مع تلك الدولة الشيوعية التى كان الاتحاد السوفيتى السابق أول من ساعدها في بناء برنامجها النووي، كما تبدو مصالح الطرفين الآخرين في المحادثات السداسية ، كوريا الجنوبية والصين ، أكثر تعقيدا .
فكوريا الجنوبية تتوجس من أي عمل عسكري قد يدفع بيونج يانج إلى رد نووي قد يتسبب بتدميرها خاصة وأن قدرات جارتها الشمالية العسكرية تفوق قدراتها ، بالإضافة إلى أن نشر الولايات المتحدة قوات قوامها حوالى 38 ألف جندى في الأراضى الكورية الجنوبية ليس كافيا لصد أي هجوم كوري شمالي .
وبالنسبة للصين ، فقد حاولت إدارة بوش أكثر من مرة إقناع الصين ، أقرب حلفاء كوريا الشمالية ، بالضغط عليها لنزع سلاحها النووي ، عن طريق تحديد مساعداتها الاقتصادية والإنسانية وفي مجال الطاقة ، إلا أن الصين رفضت الاستجابة للضغوط الأمريكية على بيونج يانج لنزع سلاحها النووى لأن لها مصالح أخرى وربما ذات أسبقية.
فكوريا الشمالية تشكل حاجزا بين الصين وكوريا الجنوبية، التي تعتبر أقرب حلفاء أمريكا في آسيا وتراجع قوة كوريا الشمالية العسكرية يمكن أن يؤدى إلى سيطرة كوريا الجنوبية على جارتها الشمالية، الأمر الذي قد يغرى الولايات المتحدة بتهديد حدود الصين الجنوبية، من خلال إرسال قوات عسكرية لتايوان لدعم استقلالها عن الصين، وبالتالى تهديد الأمن القومى الصينى في العمق ، ولذلك فإن الصين تعمل على إطالة أمد المفاوضات السداسية للحصول على تنازلات من واشنطن
وإجمالا ، يمكن القول إن بيونج يانج بتجربتها النووية انضمت رسميا إلى نادى الدول التى تمتلك تكنولوجيا نووية وبالتالى فإنه من غير المستبعد إجرائها المزيد من تلك التجارب ، الأمر الذى قد يشعل سباق تسلح نووى في شبه الجزيرة الكورية وشرق آسيا لأن كوريا الجنوبية واليابان لن تلتزما الصمت طويلا تجاه استفزازات بيونج يانج .
كما أن بيونج يانج بتلك التجربة وجهت صفعة قوية للرئيس الأمريكى جورج بوش قد تنال من فرص فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى في نوفمبر المقبل ، خاصة وأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية عجزت حتى الآن عن معرفة حجم القوة النووية التى تمتلكها بيونج يانج ، التى تفاجيء واشنطن والعالم بين الحين والآخر بخطوات مثيرة في المجال النووى.
الأزمة النووية بين واشنطن وبيونج يانج بدأت في عام 2002 إثر اعتراف كوريا الشمالية بتطويرها أسلحة نووية ورفض إدارة بوش إجراء مباحثات مباشرة معها .
وأعلنت كوريا الشمالية في أعقاب رفض واشنطن إجراء حوار مباشر معها عن استئناف النشاط في برنامجها النووي والذي جُمد العمل به بمقتضى اتفاقية 1994 الموقعة مع واشنطن كما قامت في يناير 2003 بطرد المفتشين الدوليين والانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية وأعلنت اعتزامها تشغيل مفاعل "يونجبيون" لتوفير الطاقة .
ومنذ قرار بيونج يانج الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، شهدت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، وهي من الدول الموقعة على المعاهدة، مفاوضات ماراثونية في محاولة لوضع حد لطموح كوريا الشمالية النووي كما عرضت الصين وروسيا حليفتا بيونج يانج وساطتهما في الأزمة وانطلقت المحادثات السداسية التي تضم الولايات المتحدة والكوريتين واليابان والصين وروسيا والتي تهدف لإيجاد حل للمسألة النووية الكورية الشمالية منذ عام 2003 .
وخلال جولات تلك المحادثات ، حاولت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وروسيا واليابان والصين إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن برنامجها للأسلحة النووية مقابل امدادها بالطاقة الكهربائية والمعونات الغذائية والاعتراف الدبلوماسي بها. وأصرت كوريا الشمالية على تزويدها بمفاعل نووي مدني كشرط للتخلي عن برنامجها النووي غير المدني ، بينما أكدت واشنطن أن ذلك لن يتم إلا بعد التأكد من نزع أسلحتها النووية.
واتهمت بيونجح يانج واشنطن بأنها لم تنفذ التزامات الاتفاقية التى وقعها الجانبان عام 1994 والتى التزمت الإدارة الأمريكية بموجبها بتزويد كوريا الشمالية بمفاعلات خفيفة من أجل استخدامها فى توليد الطاقة الكهربائية مقابل امتناع بيونج يانج عن تطوير أسلحة نووية .
واستؤنفت في شهر يوليو 2005 في بكين بعد توقف دام 13 شهرا الجولة الرابعة من المحادثات السداسية ، إلا أن المفاوضات علقت في السابع من أغسطس من العام نفسه بعد رفض واشنطن طلب بيونج يانج الاحتفاظ ببرنامجها النووى لأغراض مدنية .واستأنفت الدول الست مجددا فى شهر سبتمبر 2005 الجولة الرابعة من المفاوضات التي علقت فى السابع من أغسطس .
وتحققت انفراجة في محادثات سبتمبر بعد أن وافقت كوريا الشمالية على التخلي عن كافة أنشطتها وبرامجها النووية، في مقابل الحصول على إمدادات بالنفط والطاقة من الخارج.
كما أعلنت كوريا الشمالية أنها ستنضم مجددا إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.ومن جانبها ، تعهدت واشنطن بأنها لن تشن هجوماً عسكريا على كوريا الشمالية وإنها ستناقش طلب كوريا الشمالية بإنشاء مفاعل نووي، يعتمد على المياه الخفيفة في وقت لاحق لم يتحدد تاريخه بعد.
وتعهدت الأطراف المشاركة في المحادثات أيضا بمنح بيونج يانج مساعدات في مجال الطاقة وتعاون اقتصادي في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار.
كما أكد البيان الختامى لمحادثات سبتمبر أن واشنطن وبيونج يانج ستعملان على تطبيع العلاقات بينهما بالتدريج وأن أطراف المحادثات السداسية يحترمون حق كوريا الشمالية في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وقالت الصين إن هذه أهم نتيجة يتم التوصل إليها منذ بدء المحادثات السداسية منذ عام 2003 .
ورغم تلك النتائج الإيجابية فإن المحادثات تجمدت منذ هذا الوقت بسبب انشغال أمريكا بأزمة الملف النووى الإيرانى وهو ماأثار استياء كوريا الشمالية .وفى الثامن عشر من يونيو الماضى ، أجرت بيونج يانج تجربة صاروخ من طراز تايبودونج 2 الذي يقدر مداه بما يتراوح بين 3500 و4300 كيلومتر ، وهو بهذا المدى قادر على إصابة أجزاء من ألاسكا في الولايات المتحدة إلى جانب آسيا وروسيا .وكانت تلك أول تجربة تجريها بيونج يانج لصاروخ طويل المدى منذ أن صدمت العالم في أغسطس عام 1998 بإطلاق الصاروخ تايبودونج 1 والذى مر فوق اليابان وسقط في المحيط الهادي.
جهان مصطفى
المصدر: محيط
إضافة تعليق جديد