مهن نسائية دمشقية مندثرة
أيام زمان ، لم يكن مسموحاً للمرأة الدمشقية بمغادرة بيتها متى شاءت ،وكيفما اتفق بل كان خروجها يلزمه موافقة ولي أمرها ،من أب ،أو زوج ،أو أخ ،وكان خروجها محّدداً وقصير المدة ،لقضاء حاجات ضرورية ،ولم يكن الرجل الدمشقي ليسمح لابنته ،أو زوجته ،أو أخته بالعمل .
إلا في حالة الضرورة القصوى وفي مهن مدروسة متعارف عليها في ذلك الوقت . مايهم الرجل في المقام الأول من المرأة هو رعاية شؤونه وشؤون منزله وتربية أطفاله ،ما يجعل المرأة ملازمة لبيتها طوال النهار ، لتثبت جدارتها أمام زوجها ،معيلها الأول ، لكن عندما تعترض المرأة الدمشقية ظروف سيئة تدفعها للعمل ومغادرة المنزل ،يكون أمامها عدة خيارات ،عليها أن تختار إحداها لتدفع عنها ظلم الحياة وقسوة الدهر .
ومن الأعمال التي التصقت بالمرأة ،والتي تعد من الأعمال المهمة في ذلك الوقت ،هي مهنة «القبالة ».وكانت القابلة تسمى «الداية »،وهي التي تقوم بعملية التوليد في البيوت . إذ كان من النادر أن يقوم الطبيب بتوليد المرأة ،وكانت هذه المهنة تنتقل بالوراثة ،أو بالتعلم على يد داية خبيرة كبيرة في السن ،ولكل حارة من حارات الشام العتيقة «داية» معروفة ،فإذا ما دخلت الزوجة مرحلة الطلق ،أي «المخاض »هب الزوج إلى تلك الداية ،فيصطحبها إلى بيته ،ولو كان ذلك في منتصف الليل ،وتقوم الداية بفحصها وتعمل على استيلادها بالخبرة التي اكتسبتها ،مستعينة بالماء الساخن ،وبأدوات بدائية ،وخرق نظيفة . ثم يقوم الزوج بعد إتمام مهمتها بإكرامها ، بما يتناسب مع وضعه الاجتماعي . وكانت القابلات أيام زمان يرضين بأي مبلغ يعطى إليهن من فقير ،وأحياناً كن يعملن دون أجر ،وبعضهن كن يجدن في هدية بسيطة من والد فقير التكريم الذي كن ينشدنه من عملهن الإنساني .
ومن المهن المشهورة أيام زمان ،مهنة «البلانة »وهي من أبرز العاملات في حمام السوق . كانت مهمتها رعاية شؤون المستحمات وجلب ماء الشرب إليهن ،إذا طلبن ، وتفريك ظهورهن ،وتلييفها حسب طلبهن . وكانت هذه المهنة تتطلّب جَلَداً وصبراً وقدرة على التحمل في الخروج من الحر في (الجواني ) إلى (البراني ) بسرعة ، وعلى تحمل العكس ،وكانت الإكراميات الممنوحة لهن لا تسّد الرمق ،وتعيل أسرة البلانات بشق الأنفس ،والمحظوظة منهن من كانت تعمل في حمام واقع في حّي يسكنه كبار القوم ،لأن النساء الغنيات كن يدفعن الإكراميات ،أمّا المستحمات الفقيرات فكن يتهربن بحجة قلة الفراطة ،أو بالتطنيش ،لأن الإكرامية ليست إلزامية .
وعملت المرأة الدمشقية أيام زمان «عشّية »، والعشية هي التي تطبخ الطعام بالأجرة , حيث كان الميسورون لا يطبخون طعامهم بأيديهم ،بل يستأجرون من يطبخه لهم . ومن الشروط الواجب توفرها في العشية أن تكون فنانة في صنع الطعام وطبخه ،أن يكون (نَفَسَها )ذكّياً في الطبخ والنفخ , وكانت تتقاضى أجراً معلوماً في الأسبوع عن خدماتها ،بالإضافة إلى تناولها من الطعام الذي تطبخه , أو حملها منه لأطفالها إن كانت غير مقيمة .
و«الخجا » أيضاً مهنة دمشقية مندثرة ،فهي التي كانت تعلم صغار الأطفال المبادىء الأولى في القراءة والكتابة ،وغالباً ما كانت تفرد غرفة من غرف بيتها لاستقبال الأطفال ،ذكوراً وإناثاً ،من الصباح إلى الظهر ،أو المساء ،وتحاول أن تعلمهم ما يمكن لمداركهم أن تتعلمه في هذه السن , وكانت تحتفظ بالأطفال في منزلها , في الوقت الذي تنصرف فيه أمهاتهم إلى أعمالهن في البيوت , وكانت تتقاضى لقاء ذلك أجراً معلوماً يسمى «جمعية »، وغالباً ما كانت تسأل الخجا نهاية كل أسبوع الصغار:«وين الجمعية ؟ »، فيمدون أياديهم إلى جيوبهم ويخرجونها ،وكان الأهل يرسلونها إلى الخجا بهذه الطريقة ،أو يأتون بأنفسهم لدفعها .
ومن الأعمال التي زاولتها الدمشقية أيضاً أيام زمان ،« الخّياطة »،وبعض النساء كن يفتحن في بيوتهن مدارس خياطة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى ،حيث كانت الخّياطة تفصّل وتخيط الثياب النسائية حسب الموضة ،مستعينة بماكينة خياطة بدائية تدور باليد أو بالرجل ،إذ لم تكن الماكينات الكهربائية قد دخلت البيوت بعد . وكانت بعض الأسر ترسل بناتها لتتعلم الخياطة عند إحدى الخياطات الماهرات في بيتها ،وتفرد لها غرفة أو قاعة ،وكثيراً ما كان يوجد خمس أو ست فتيات يتعلمن الخياطة عند خياطة واحدة ،وكانت هذه المهنة توفّر دخلاً جيداً لمن يعملن بها ، وبخاصة لمعلمات الخياطة .
وهناك مهن أخرى كثيرة ومتنوعة كانت تزاولها المرأة الدمشقية بحبًّ وإخلاص مثل «كوايّة الشعر »،حيث كان كوي الشعر على البخار سائداً ،أيام الأعراس والمباركات وحفلات الختان. وأيضاً مهنة «التحفيف »وكانت العاملة في هذا الكار تسمى «المحففة »، وهي التي كانت تدّق أبواب زبوناتها لتعمل على تجميلهن ،ومساعدتهن في نزع الشعر الزائد من أبدانهن وفي تقليم أظافرهن , تماماً ما يوازي «البد يكور » في زماننا هذا . غير أن هذه المهنة كانت خاصة بعالم الثريات والميسورات من ذوات الحسب والنسب .
وكما نرى فإن المهن التي عملت بها المرأة الدمشقية , كانت تتماشى مع روح العصر القديم وتقاليده ،والتي غالباً ما قضى عليها تبدّل المفاهيم ،وانتشار الوسائل العصرية الحديثة واختلاف نمط الحياة والعيش ،وأخيراً ملامسة المرأة لواقعها والتمرد عليه، والسعي نحو الأفضل .
هبة الله الغلاييني
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد