ميدفيديف وساركوزي في نيس يتفقان مالياً ويختلفان أمنياً
ديميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي، في نيس، لا يبتعد كثيرا عن الكرملين. درة الريفييرا الفرنسية، عادت، بعد فاصل الإتحاد السوفياتي، و٧٠ عاما، ضاحية للأثرياء الروس، حديثي النعمة، وللمافيا الروسية ايضا.
الرئيس الروسي لم ينس تحية »الديكور الرائع« الذي جمعه برئيس الإتحاد الأوروبي، الفرنسي نيكولا ساركوزي، دون أن تعني المجاملة السياحية، تأجيل الخلافات حول هندسة الأمن الجماعي في أوروبا، لمناسبة القمة الأعلى من نوعها بين موسكو والإتحاد الأوروبي منذ الحرب الروسية الجورجية في آب الماضي، التي تسببت بتعليق مفاوضات اتفاق شراكة معززة بين أوروبا وروسيا، والتي بحسب ما أعلنت متحدثة باسم المفوضية الأوروبية، ستستأنف في الثاني من كانون الأول المقبل.
الرئيسان تبادلا عروضا بعقد قمة أمنية دولية. توافقا على عنوانها وضرورتها وموعدها غير النهائي منتصف العام المقبل، لكنهما اختلفا على لائحة المدعوين مع »منظمة الأمن والتعاون« أو من دونها، واختلفا على مآلها الأخير، بجعلها محور الأمن في أوروبا، بعد ضم روسيا إليه، وإرسال حلف شمال الأطلسي إلى مصير مشابه لحلف وارسو البائد.
الرئيس الفرنسي حاول تجديد زعامته لأوروبا، وتثمير وساطته الناجحة لتهدئة النزاع في القوقاز، مستعجلاً ضيفه »الانسحاب من منطقتين محددتين في اوسيتيا«. كما سعى ساركوزي إلى تثمير إنقاذه لماء وجه الأوروبيين بانفتاح مضبوط على المطالب الروسية الدائمة، بتكييف الاتفاقات الإستراتيجية في أوروبا، مع انتهاء الحرب الباردة، واختفاء حلف وارسو.
الرئيس الفرنسي لم يذهب بعيدا في الاستجابة لمطلب ميدفيديف، خلف منبره في نيس رغم حرارة الاستقبال، »أقترح قمة جديدة منتصف العام المقبل للبحث في شروط الأمن الجماعي في أوروبا، وإشراك روسيا فيها، ولكن في إطار منظمة الأمن والتعاون الاقتصادي« وبالتشاور مع الولايات المتحدة، التي لا يستطيع ساركوزي تجاوزها.
المسافة بينهما لا تزال كبيرة. ميدفيديف لا يريد أقل من تفكيك حلف شمال الأطلسي، ولا يؤمن أن »الأمن والتعاون«، التي لا تتعاطى في الأمن إلا بشكل هامشي، وتسيطر عليها واشنطن، قادرة على منح روسيا الموقع الذي تستحقه، وضبط تمدد الأطلسي في الطوق السوفياتي القديم: »إن آلية الأمن في أوروبا تحتاج إلى تطوير واستكمال، ونحن نريد إعادة النظر بها عبر معاهدة الأمن الأوروبي، لكي تشكل أساسا لعملنا المشترك، ويجب أن تشارك فيها كل المؤسسات الأمنية العالمية والأوروبية، ويجب أن يسبق التوقيع على معاهدة أمنية جديدة، تجنب اتخاذ أي خطوات أحادية«.
ميدفيديف حصل مع ذلك على ريبة رئاسية فرنسية وشك ساركوزيّ صريح: »ان نشر الدرع الصاروخي (الأميركي في تشيكيا وبولندا) لن يزيد أوروبا أمنا، بل سيعقد الأوضاع«، وهو تطور لافت في موقف الرئيس الفرنسي، الذي قدم لميدفيديف مبررات لقراره الأخير نشر صواريخ »إسكندر« في ممر كالينينغراد المحاذي لليتوانيا و»نشر هذه الصواريخ« ناجم عن »تصرفات بعض الأوروبيين الذين اتفقوا مع شركائهم (الأميركيين) على قرار نشر الدرع الصاروخي دون التوافق معنا. نحن نعيش في بيت واحد، فدعونا نناقش هذه المسألة« معاً.
من واشنطن جاء رد تطميني متكرر، »الدرع الأميركية ليست موجهة ضد روسيا أو روسيا البيضاء أو أي أحد«، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية روبرت وود، وإنما »هي مصممة للتعامل مع التهديدات من الدول المارقة في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً إيران«، معتبراً أن نشر صواريخ »اسكندر« على »الساحة الأوروبية لن تساعد إرساء الاستقرار«.
وجاء كلام وود رداً على تصريحات لرئيس روسيا البيضاء الكسندر لوكاتشينكو، قال فيها لصحيفة »وول ستريت جورنال«، إن بلاده ترحّب باقتراح روسي لنشر صواريخ »اسكندر« في بلاده، كاشفاً عن »سر« مفاده: »حتى لو لم تقدم روسيا هذه الصواريخ، فسنشتريها بأنفسنا«.
الرئيس الروسي لم يكرر في نيس ما بات معروفا للصحافيين من عقيدته الأمنية. فالأمن في أوروبا، كما قال في مناسبات عديدة، يجب أن يدار عبر معاهدة تشمل الأراضي الواقعة في أميركا وآسيا وأوروبا. من فانكوفر في أقصى القارة الأميركية، حتى فلاديفوستوك، في أعماق الشرق السيبيري، لتمنع انتشار الدروع الصاروخية، وتوسيع حلف شمال الأطلسي إلى أي دولة، يعتبرها أي موقع على المعاهدة الأمنية الجديدة مهددة لأمنه.
الرئيسان تبادلا عروضا بعقد قمة ثانية في شباط المقبل، تصلح النظام المالي العالمي، تلي قمة واشنطن اليوم، قبل أن يهما بمغادرة نيس، للمشاركة في قمة »العشرين« تحت العنوان ذاته في العاصمة الاميركية. الاقتراح الذي تحمس له الرئيسان يعكس تدني الآمال بأن يخرج »العشرون« في واشنطن بما يشبع طموح ساركوزي إلى إصلاح النظام الرأسمالي، »وتبديل الأمور.. بشكل دائم وبنيوي«، أو بما يكرس تعددية قطبية كما يطمح ميدفيديف، على الأقل في المجال المالي.
وكلاهما توافقا، دون الإعلان عن ذلك، على عدم توقع الكثير من قمة يستضيفها الرئيس الأميركي جورج بوش، وإدارة أميركية مغادرة. فأكثرا من الإشادة »بتقارب طروحاتهما«.
ميدفيديف كان أصرح الاثنين: »مع ساركوزي توصلنا إلى استنتاج، أننا نحتاج إلى اتفاقات صريحة، ومن الواضح أننا لن نوقع على اتفاقات تؤدي إلى بريتون وودز جديدة (الاتفاقات التي تدير النظام العالمي منذ ١٩٤٤)، وأصر على عقد قمة أخرى، بعد واشنطن.. ومن دون تأخير«.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد