نذير إسماعيل: اللوحة ليست وصفة سحرية
من بوابة دمشق القديمة أقصد باب توما، وأنت تتجه نحو (القشلة) تطالعك بيوتات للفنانين السوريين، التي هي مراسم وصالات عرض مثل بيت الفنان مصطفى علي، وصالة الفنان غازي عانا ومرسم الفنان عبد الله مراد وصالة الفنان سامر قزح،
ومرسم الفنان نذير إسماعيل، الذي أقام معرضه الأخير في صالة (آرت ون ستة وخمسون) في حي الأشرفية في بيروت) الفنان السوري نذير إسماعيل الذي يمشط هدب أرصفة دمشق القديمة في طريقه إلى صومعته أقصد مرسمه في (القشلة) حاملا معه صليب خلاصه الإبداعي يتأمل الوجوه العابرة على رصيف العمر، ماضية إلى بوابة الجهات المتعاكسة في زحام الوقت والأشياء ومن المعروف عن الفنان انه يوظف الوجوه في معظم أعماله وهو متميز بذلك، بل تكاد تكون هذه الحالة الإبداعية علامته الفارقة بنجاح وتألق وجوه نذير إسماعيل لا تشبه الوجوه التي ألفناها في كثير من الأعمال الفنية لتلك الحساسية العالية وتلك الذائقة الفنية الجمالية المنسابة بكثير من الألق على بياض لوحاته التي تأسرك عبر تلك الشفافية وتلك الألوان التي لايرتوي منها البصر ببساطة، قدم الفنان نذير إسماعيل تجربة جديدة في معرضه الأخير في بيروت، توقف عندها الإعلام اللبناني بكثير من الحفاوة والدهشة، بالإضافة لذاك الإعجاب الجماهيري، هي تجربة مهمة ومتميزة تؤكد للآخر أن الفن السوري متميز ومتألق رغم كل الظروف الصعبة التي نعيشها، تحية تقدير وإعجاب للفنان السوري نذير إسماعيل الذي عكس إيقاع وجوهنا المتعبة، ألقا ومزيدا من أمل نحيا عليه، على وجوهنا التي ترنو لسماء نقية تشبه زرقة فضاء لوحات نذير إسماعيل .
ــ قلت في إحدى الصحف: «من خلال الأسود والأبيض،في بدياتي أصبحت قادرا على رؤية فروق القيمة اللونية «كيف تفسر لنا هذا؟
[ كل لون بالنهاية له معادل بالأسود والأبيض، عندما تتدرب وتتمرن العين أثناء العمل ولفترة لابأس بها على اللون الأبيض والأسود، بعدها إذا قررت العمل بالألوان حينها ستعرف عينك الفارق بين القيمة اللونية للأبيض والأسود وبين اللون كلون، أحيانا اللون يكون مخادعا (ويغش) يدفعك في بعض الأحيان لوضع كتل لونية متناقضة، على حين إذا كانت العين مدربة على الأبيض والأسود، تستطيع وضع أي لون تريده على سطح اللوحة يكون في النهاية متوازنا ومدروسا ويقدم قيمة جمالية بصرية للعمل الفني . حين نتناول أي لوحة ونصورها بالأبيض والأسود، ونتأملها بعمق حينها سنكتشف نقاط الضعف والقوة فيها.
ــ في كثير من الأحيان استخدام اللون في اللوحة يخضع لمزاج الفنان، ما رأيك؟
[ نعم هو توأم اللحظة التي تضع فيها اللون على بياض اللوحة، هو تلك العلاقة الوشيجة بين البعد النفسي والفكري، والحالة واللحظة التي تعيشها، بتفاصيل تلك اللحظة بالذات بالمحيط، اللون وليد وسليل تلك الحالة التي يرسم فيها الفنان.
ـــ مساحة البياض قبل ان تقرر الرسم عليها، هل ثمة ما تخطط له مسبقا؟
[ في كثير من الحالات لا يكون هناك مخطط مسبق للموضوع أو لفكرة اللوحة، وأحيانا أظل لفترة ما لا أرسم فيها. إذا كنت مهيأ نفسيا وتداهمك الحالة الإبداعية مثل الشرارة الشعرية التي تنبثق فجأة، حينها تجدني وجها لوجه أمام بياض اللوحة، أبدأ بالرسم لفكرة ما ربما تكون متجسدة في اللاوعي أجسدها عملا فنيا، أحيانا أدخل مرسمي وأظل لفترة طويلة أتأمل أقرأ أسمع موسيقى يأتي أصدقائي أتحاور معهم، أحيانا قبل أن أغادر المرسم بربع ساعة باتجاه البيت أومكان ما تأتيني الحالة أجدني قبالة اللوحة وأبدأ بالرسم أنسى المواعيد وأشياء أخرى، وأظل لفترة طويلة أرسم فيها.
ـــ حتى تنهي اللوحة؟ ـ متى تنهي لوحتك؟
[ لا أبداً لوحتي لاتنتهي هكذا بهذه البساطة، أحيانا أعود إليها في اليوم التالي لأكمل ما تبقى، وأحيانا أعود إليها بعد حين، وقد اتركها لفترة طويلة. أيضا قد لا أعود إليها لانهائيا، المهم برأيي ان يكون الصدق مع ذاتك قبل ان تقدم ما انجزته من العمل الفني للآخر.
ـــ على جدران مرسمك لانجد لوحات لك ولا لسواك لماذا؟
[ الحياة جدار شاسع والعين هي التي تلتقط تفاصيل هذا الجدار، والحياة أيضا هي من تعلم، ذات يوم كنت قد علقت مجموعة من الأعمال الفنية على جدار (الصالون) الذي نجلس فيه، ونشاهد التلفاز فيه، من ضمن تلك الأعمال الفنية المعلقة على جدار الصالون لوحة للفنان: (نعيم إسماعيل) وأنا أحببت اللوحة، بعد فترة طويلة قمت برسم لوحة وبعد أن أنهيتها وجدت فيها كل الألوان الموجودة بلوحة نعيم، بكل التدرج اللوني الموجود في لوحة نعيم، على حين أن لوحتي لاتتقاطع مع لوحته بأي شيء لا من حيث الموضوع ولا الفكرة ولا أي شيء، فقط الألوان كانت بارزة في لوحتي، من يومها وأنا في الأمكنة التي أمكث فيها لفترات طويلة لا أعلق لوحات لا لي ولا لغيري، حتى لا أكرر ذاتي واستجرها، ولا أن أعجب بعمل من أعمالي وأتوقف عنده واعتبره قمة إبداعاتي، لأنك لا تغسل يديك من ذات النهر مرتين لأن مياه النهر تتجدد.
المدارس المختلطة
ــ يرى البعض ان المدارس الفنية على شتى مشاربها اختلطت بعضها مع بعض إلى حد ما، الانطباعية مع الواقعية ولنقل التجريد . ما وجهة نظرك بذلك؟
[ تلك المذاهب والمدارس الفنية التي تسألني عنها، أسس لها مجموعة من النقاد والمهتمين بهذا الشأن، فقط لفرز حالات تنتمي لذائقة فنية ما لغاية التوصل إلى حالة فنية يتم عبرها قولبة العمل الفني أو الفعل الفني المتجسد عبر اللوحة لتوصيل هاجس ما إلى الآخر، الذي هو في النهاية ليس أسير هذا الرأي أو سواه انه سّيد القرار وصانعه أمام العمل الفني عبر ماتمليه عليه حاسة البصر والذائقة الفنية للعمل، لكن في النهاية يظل العمل الفني الناجح يقدم نفسه للمتلقي بكثير من الثقة، بكثير من الشغف للمتلقي، اللوحة ليست وصفة سحرية، بقدر ماهي رسالة إنسانية، مكتوب غرام، باقة ورد لمحبوب بعيد، رسالة إنسانية تدخل العمق الإنساني بكثير من الأشياء التي هي في النهاية عمل فني إبداعي، سئل ذات مرة بابلو بيكاسو: ـ لماذا لا تفسر لنا أعمالك ؟ أجاب: «كيف تطلبون مني تفسيرا للوحة، هل تطلبون من العصفور أن يفسر زقزقته». مثلما لاحظت في أعمالي تجد هناك الأيقونة والفن الشعبي والانطباعي والوجوه التي ارسمها بحالات مختلفة ومتنوعة ومن هنا أقول العمل الفني هو من يقدم ذاته بكل وضوح وصراحة بعيدا عن أية تسمية، وهو بذلك ينجو من مطب القولبة والتسمية . أصلا لم يعد هناك فرز واضح بين المدارس الفنية، المهم ان يكون في اللوحة، منطق صحيح ولغة واضحة، وأبجدية متكاملة، يهمني أن أبدع عمل يحكي بلغة واحدة، الفن بطريقة ما اختصار وتهذيب واضح وصريح.
ـــ الوجوه بكل أبعادها وتنوعها وغناها وتناقضاتها، تكاد تكون العلامة الفارقة للوحاتك، لماذا الوجوه تحديدا؟
[ من خلال تجربتي الطويلة، لأقل انني في العام 66 شاركت بمعرض جماعي في دمشق، وكان أول معرض أشارك فيه، منذ تلك اللحظة وما سبقها وما سيليها هاجسي هو الإنسان، أنا من عائلة فقيرة ولدت في حي دمشقي شعبي وعشت فيه، من هناك بدأت الرسم رسم كل المناخات، التي عشتها هناك بيد ان الإنسان كان محورها الرئيسي، الوجه هو مرآة بطريقة ما، وهو كذلك من خلاله استطيع قول ما أريد أن أقوله، خلال هذه التجربة.
دمشق
ـــ ماذا عن دمشق في أعمالك؟
[ دمشق ولدت فيها وعشت فيها، أنا بطبيعتي أميل أحيانا للتصوير الفوتوغرافي، قمت بتصوير (كروت بوستال) لدمشق وحلب وبيروت والقدس والقاهرة، منذ بداية القرن العشرين للخمسينيات منه، على عدد أيام السنة، قمت بطباعة ماصورته عن دمشق (كوبي) وطلبت من أصدقائي المحترفين في فن الفوتوغراف، صور لدمشق، حصلت على 600 صورة فوتوغرافية، عملت منها (كوبي) وبدأت معها رحلة تأمل ومن ثم بدأت أبني منها عوالم على عكس مافعل كثر من الفنانين وللأسف حين نظروا إليها كمعلم سياحي، ورسموها ليبيعوها للسائح، تختلف عن كثر ممن تناولوا دمشق حين رسموها وكانت غايتهم منها تجارية لسائح عابر على رصيف دمشقي، تجربتي تختلف عن كثر ممن تناولوا دمشق حين رسموها وكانت غايتهم منها تجارية لسائح عابر على رصيف دمشقي، بنيت من هذا العالم الفوتوغرافي المؤلف من 600 صورة، 30 عملا فنيا، المدينة الموغلة في القدم مبنية من تراب وخشب، ثمة تل اسمه تل المسيح (جنوب شهبا) فيه تربة حمرة، أتيت بالتربة من هناك وبعد معالجات فنية، نجحت التجربة وعرضتها في دمشق وبيروت، قدمت فيها دمشق بطريقة مختلفة.
ـــ بعد ذلك لم تستمر بهذه التجربة. لماذا؟
[ عدت لهاجسي الأساسي الذي أجد فيه بصمتي الفنية، فن (البورتريه) وبالتالي أنا لا أحب تكرار ذاتي، جربت الكثير في محترفي الفني، حتى الرسم في المجلات والصحف جربته، أنا أرسم حين أشعر برغبتي بالرسم.
ـ تبرر وجود العينين كمركزا حيوي لتدفق الأحاسيس، مثلما تصر على رسم الوجوه كما يحلو لكن، تركيزك على العينين في لوحتك يشكل محورا أساسيا في بنية لوحتك، ما رأيك؟ * اعتقد أن العينين هما المحور الأساسي في رسمي للوجوه، أنت ترى العالم من خلال عينيك، ترى كل شيء من خلال العين، وأنا استغني عن بعض عناصر اللوحة مقابل الحفاظ على وجود العيون في وجوه شخوص لوحاتي.
ـــ هاجسك الأول والأخير هو الإنسان هذا ما أراه أنا ويراه الآخرون؟ معرضك الأخير في بيروت، هل هو أول معرض لك هناك، وبالتالي ماذا عن بيروت بالنسبة لك؟
[ أقمت في بيروت ثلاثة معارض فردية، ومعرضي الأخير فيها هو الرابع، بيروت أهم العواصم الثقافية العربية ليس للآن بل منذ زمن موغل بالقدم، أنا شخصيا أدين بالفضل لبيروت التي أقمت فيها سنوات طويلة من العام 1962لغاية 1968 ـ أنا أحب وأعشق بيروت ـ في تلك الفترة كان في دمشق صالة خاصة يتيمة: (صالة الفن الحديث العالمي) بينما في بيروت كان هناك 22 صالة خاصة ـ حينها ـ بيروت أعادة صياغة ألواني، وتلك المسحة اللطيفة التي تغمر بياض لوحتي، بيروت منذ القديم كانت وستبقى عاصمة الثقافة والفن والحضارة، أدين بالفضل الكبير لبيروت.
ـــ في تجربتك الأخيرة نلاحظ سطوع لونيين هما الأزرق والأحمر، وبشكل لافت؟ ما رأيك؟
[ أنا لا أحب الوصف الأدبي للألوان، اللون هو انعكاس داخلي للفنان يضعه على سطح اللوحة، والمهم أكثر في كل هذا وذاك ان تقول ماتريده عبر اللون بشكل صحيح ومدروس بعناية. حين يحزن الناس في بلادنا يرتدون الأسود، وفي بعض البلدان يرتدون الأبيض، لذلك اللون بطريقة ما تعبير عن بوح عن حياة عن لحظة ما لها دلالتها، في النهاية الصدق في اللون يقود للغة بصرية راقية.
أحمد عساف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد