هل بدأ الخروج من مأزق التطرف؟
حصل محمد عطية العضو السابق في «الجماعة الإسلامية» في مصر، وبعد سنواتٍ قضاها في المعتقل، على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر. وهذا التحول عن مسار العنف لدى الجماعة الإسلامية، من جانب أحد أعضائها البارزين، ليس البداية. فقد بدأت قيادة الجماعة تحولاً باتجاه المسالمة والعودة الى المجتمع، منذ عام 1996. وفي السنتين الماضيتين خاض أحد المفكّرين الإسلاميين الجهاديين مراجعةً فقهيةً وسياسيةً مع النفس، ومع حركة الجهاد بزعامة الدكتور الظواهري. ومن جهةٍ أخرى يستمر الرئيس الأميركي في برنامجه لإقفال معسكر غوانتانامو الفاجع والرهيب. وقد تبين أن علة ذلك الإقفال ليست الفظائع التي ارتُكبت فيه وحسب: بل إن المئات ممن احتجزوا فيه، ما أمكن اثباتُ شيءٍ عليهم استحقوا بسببه الاعتقال والتعذيب. وفي العراق، وعلى رغم استمرار «القاعدة» في تنفيذ الاغتيالات والتفجيرات، فالواضح أن دولة القاعدة هناك، صارت من الماضي، وما عادت مشكلةً رئيسة بين المشاكل المتفاقمة هناك. ويحقق برنامج «المناصحة» السعودي نجاحاتٍ واضحةً في اعادة تأهيل الشبان الذين جرفتهم موجات العنف لحوالى العقدين من الزمان المُقبض والكالح، فهل تعني تلك التحولات المختلفة المصادر والاتجاهات نهايةً لتلك الحقبة من التطرف والعنف باسم الإسلام في العالم العربي؟
المفكر الفرنسي أوليفييه روا المتخصص في الحركات الإسلامية، أعلن قبل ثلاث سنواتٍ عن نهاية الإسلاميين: العنيف والسياسي! لكن في ضوء ما حدث ولا يزال يحدث، فإن استنتاجه هذا قد يبدو متسرّعاً. فنحن نعرفُ أن الصومال واليمن يعانيان من تصاعدٍ للعنف مصدرُهُ «القاعدة»، وكذلك الأمر في الصحراء الكبرى والساحل حيث تتحرك «منظمة القاعدة في المغرب الإسلامي». وهذا يعني أن تنظيمات العنف لا تزال قادرةً على الحركة والتخريب، وتجدُ شباناً مستعدين للقيام بعمليات انتحارٍ واغتيال. لكن من جهةٍ ثانيةٍ، فإن الساحات الرئيسة للعنف باسم الإسلام في مصر والسعودية... والعراق، صارت خارج هذا الخطر. بل وظهرت توجهات ونقاشات هدفها مواجهة هذه الظاهرة، بغض النظر عن جهود الأجهزة الأمنية للضبط والاستيعاب والمكافحة.
والذي أراه بعد طول تأملٍ لهذه الظاهرة، أنها تجاوزت ذروتها منذ زمن، وأن ما نشهدهُ هذه الأيام في بعض الأماكن انما هو من بقايا المرحلة السابقة. ولا يعود ذلك الى التحركات المضادة للعنف أمنياً وفكرياً وحسب، بل الى تضاؤل أو غياب الحملة الأميركية والغربية على ما اعتبرته عنفاً وتطرفاً ضدّ الأمن والمصالح في دُوَلها ومناطق نفوذها. فالقتل يبعثُ على القتل، والعنفُ يبعثُ على العنف. والدليل على ما أقول واضحٌ في ما يجري اليوم في باكستان وأفغانستان. إذ ان حلف الأطلسي لا يزال قويَّ الحضور هناك، وبقدر العنف المُمارَس، يتحرك العنف المُضادّ أو يزيد.
لكن غياب أو تضاؤل عناصر الإثارة والاكتساح، والدخول في سياساتٍ جديدةٍ لحلّ المشكلات بدلاً من فوضى بوش البنّاءة، يضعُنا نحن في مواقع التحدي والمسؤولية. فالحركة الفكرية المنطلقة ضدّ العنف باسم الإسلام ما بلغت الحدود والآفاق المأمولة والضرورية، لا من جانب المُراجعين، ولا من جانب المؤسسات الدينية والثقافية. عضو الجماعة الإسلامية الذي حصل على الماجستير من جامعة الأزهر، يدفعُنا للسؤال عما فعلتهُ هذه المؤسسة الدينية الكبيرة والعريقة ليس للنهي عن ممارسة العنف فقط بل ولتوجيه نظر الشباب واعتبارهم الى قضايا جاذبة تدفعُ الاهتمام، وتصرف عن الإحساس باللاجدوى أو باليأس والعبثية. وبرنامجُ المناصحة السعودي الذي حقق نجاحات، يدفعُ أيضاً للتساؤل عن «التساوُق» المطلوب والمرغوب من جانب المفكرين والمؤسسات الدينية الكثيرة والقوية. فالدولة ووزاراتُ الداخلية، وجهات الأمن، ليست الوحيدة المكلَّفة بالأعمال التربوية والتوجيهية، وما يصحُّ على السعودية ومصر، يصحُّ أكثر على دول المغرب العربي ومجتمعاته، التي لا تزالُ القاعدةُ تتحرك فيها، وتجدُ الأنصار والمتحمسين، وإن ليس بالكثرة والفاعلية السابقة. وعندنا في لبنان، وقد شهدنا الحدث الفاجع لفتح الإسلام والجماعات المشابهة، لا تزال مئاتٌ من الشبان في السجون، ومئاتٌ آخرون ضائعون في الشارع بعد أن انفرط عقد تنظيماتهم، ولا نزالُ نُعزّي أنفسنا بأن المخيمات الفلسطينية هي التي تشكّل محاضن للعنيفين من شتّى الأشكال، وعندما تحلُّ المشكلة الفلسطينية تنتهي الظاهرة! بيد أن أحداً لا يسألُ أين هي المؤسساتُ الدينية والثقافية الحاضنة والمستوعبة والموجِّهة، والتي يكونُ عليها أن ترعى الذين في السجون، وترعى قبل ذلك وبعده الذين لم يدخلوها بعد، لأنهم لم يمارسوا عملاً عنيفاً في نظر الجهات الأمنية؟!
ما بدأ العنف باسم الإسلام بالقاعدة، وهو لن ينتهي بنهايتها. وهذا ليس انذاراً فحسب، بل يدفع للسؤال عن مصائر الألوف من الشباب الذين اعتنقوا هذا الفكر، ولا يملكون اليوم ما يدفعهم الى الانصراف عنه غير الخوف من الجهات الأمنية. لقد كان المخاضُ عسيراً، وقد كلفنا ضياع مئات الألوف بين المعاقل والسجون أو الجبال والصحارى النائية أو المهاجر الضيّقة. انها مواريثُ جيلين، ضاعت خلالهما الأهدافُ والأرواحُ، وفشلت الجهودُ القليلةُ الراميةُ الى استنباط أهدافٍ أخرى للحياة والأمل والفعالية. ونحن نعرفُ - كما سبق القول - أدوار السياسات الدولية في استنهاض هذه الظاهرة وإثارتها ثم مواجهتها، كما نعرفُ مظالم وارتكابات السلطات من شتى الأشكال. لكننا اليوم أمام هذا الواقع أو بقاياه ومخلَّفاته، وقد أنفقنا وأنفق المراقبون والدارسون الأجانب عشرات ألوف الصفحات والتحقيقات عن أسباب الظاهرة، وأدوار مختلف الأطراف في ثورانها والتهابها. وقد نفدت التحليلات، وتضاءلت تأثيراتُ موجات «مكافحة الإرهاب»، وبقينا مثل الساحة الخامدة التي ننظر فيها الى الأشلاء، والطائفية بينها وعلى حواشيها، من دون أن يحرّك المشهدُ المؤسي دوافع واتجاهات للإنقاذ والاستيعاب، وتغيير المشهد، واجتراح معالم أخرى للمرحلة الجديدة، فمن يعلّق الجرس؟ ومَن ينهضُ لتحمل المسؤولية؟
قال لي المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي عام 1972: ان أخطر ما ستشهدهُ المرحلة المقبلة في مجتمعاتنا ظهور شكلٍ من أشكال «الإسلام البروتستانتي»، لن يقتصر على أفكار الحاكمية والجهاد، بل سيتعدّى ذلك الى سلوكاتٍ عنيفةٍ ينخرط فيها ألوف الشباب. وكان بن نبي يتصور أن بلاد الشام، وأقطار الجزيرة العربية، هي التي ستكون المشهد الرئيس لبروتستانتية الإسلام، أمّا المغرب العربي فلن يشهد شيئاً مشابهاً، بسبب قوة إسلام «الجماعة» المالكي فيه! لكن الانثروبولوجي المعروف إرنست غارنر، وفي بحثٍ نشره عام 1972 بالذات، رأى أن الجزائر هي التي سينطلقُ منها العنف باسم الإسلام، لأسبابٍ ذكرها، والواقعُ الذي شهدناه خلال العقود الثلاثة الماضية اعلمنا أن «الإسلام التقليدي» ما استطاع الصمود في وجه البروتستانتية (= الاحتجاجية) العنيفة في أيّ مكان! وقد انقضت عقودُ المأساة، من دون ان تنقضي آثارُها، فهل الى خروجٍ من سبيل؟
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد