هيتو وكرزاي: إغراء المقارنة

06-04-2013

هيتو وكرزاي: إغراء المقارنة

تفرض سيولة الأحداث في سوريا بحثاً مستمراُ عن عناوين تُعرّف المرحلة واتجاهاتها المقبلة. اللاعبون المعنيون بالأزمة السورية يعون ذلك جيداً ويتصرفون على هذا الأساس. غسان هيتو، رئيس حكومة المعارضة السورية، تعبير عن هذا البحث. التوافق على اسمه استوجب عملية جراحية مباغتة استأصلت احتجاج المعترضين، محدثة نزيفاً محدوداً في عضوية «الائتلاف» المعارض. والنزيف هذا عولج بزمن قياسي من قبل طاقم جراحي إقليمي - دولي، بما حسم نهائية قرار «الانتخاب». غسان هيتو اليوم رجل اللحظة المؤقت بقرار، تماماً كحكومته. يشبه الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في عوامل الاختيار ومنطلقاته. لكنه يفترق عنه في مدى محوريته كشخص يرمز إلى المرحلة.
ليس صعباً على أي كان أن يلحظ أن اسم كرزاي تحول، على مدى أكثر من عقد من الزمن، أقله عربياً، إلى صفة يُقصد بها الذم. فالرجل، بحسب الشائع عنه، «أتى على ظهر دبابة أطلسية ليحكم أفغانستان». وقد اختزل هذا الوصف خلفيات الرجل كما الحدث الذي أدخله مفردة في القاموس. فطمس كونه سليل عائلة سياسية عريقة وزعيم قبيلة ينحدر منها مؤسس أفغانستان الحديثة وجل الملوك الأفغان. ولم تشفع للرجل مشاركته في الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي تمويلاً وتسليحاً ومداً بالرجال (بصفته ابن زعيم قبلي بارز وعضواً في جبهة التحرير الوطني الأفغاني) ولا شغله منصباً في خارجية ثاني حكومات المجاهدين (برئاسة برهان الدين رباني) ولا علاقاته الطيبة مع حركة «طالبان» الحاكمة حتى النصف الثاني من التسعينيات. بل تحول بعدما «قزمته» لحظة الانخراط في مشروع سياسي أجنبي إلى تعبير شعبي عريض عن دلالة حدث مزلزل في بلاد إسلامية مجاورة.
على كفة المقارنة الأخرى، تظهر عوامل مغايرة: غسان هيتو ليس سياسياً مخضرماً ولا كان في أي وقت من الأوقات متعاملاً مع حكم الأسد أو حتى معارضاً له. فهو أطل على عالم السياسة برمته من بوابة الانتفاضة السورية. وحتى هذا الدخول جاء متأخراً وذا طابع مدني وإغاثي، لا سياسي. وهذا، وإن كان يعفيه من المآخذ على اعتبار أن ماضيه خالٍ من الشوائب، إلا أنه يؤخذ عليه لدى تقييمه كرمز قيادي في المعارضة. فخلو السجل من العمل العام تماماً يزيد من إمكانية تطويع الرجل وخياراته، تحديداً عند المفاصل الحادة. على الأرجح أن كرزاي ما كان ليتجرأ على واشنطن في الأشهر الأخيرة مطالباً بتعجيلها أمر الانسحاب ومتهماً إياها بالإفادة والتواطؤ مع الواقفين وراء التفجيرات الأمنية المتنقلة في بلاده، لولا أنه يمتلك حداً أدنى من الرصيد من ناحية، وإلماماً بقواعد المناورة السياسية من ناحية أخرى. الهامش هذا مفقود عند هيتو. هو رجل أعمال ناجح، جنسيته الاميركية تضعف موقعه. علماً أن قابلية الرجل للانحناء أمام الضغوط مبعثها أسباب داخلية وخارجية. وإن كان آخرها ينتهي بواشنطن، فأولها يبدأ «بالإخوان المسلمين».
الاختلاف بين الحالتين يعود أيضاً إلى أصل القضية. فكرزاي كرسه تدخل عسكري مباشر. وقد كان مجرد واجهة فيما الحربة برأسها وجذعها أميركية (أو أطلسية). بينما هيتو يسوّق عبر تدخل سياسي ـ إعلامي ـ تسليحي، لكن برأس حربة محلي. ولعل هذا ما يفسر معالم الافتراق حيال الرجلين في المزاج العربي العام ولدى التيار الإسلامي على وجه الخصوص. فالمزاج هذا يميل لصالح هيتو، في حين أنه مثل طرفاً نقيضاً في حالة كرزاي. ويعود الأمر، بديهياً، إلى أسباب رئيسية ثلاثة: أولها أن الأزمة في سوريا كانت داخلية المنشأ قبل أن تطرأ عليها تحولات بنيوية نتجت عن عنف النظام وتدخل الخارج. وثانيها أن التدخل الخارجي مقنّع في الحالة السورية، صريح في الحالة الأفغانية. وثالثها أن النظام الأفغاني طرح نفسه ذراعاً من أذرع الحركات الإسلامية ومعادياً لإدارة أميركية استشرست في حربها على مخالفيها في العالمين العربي والإسلامي، وهو ما استدر عطف كثير من الإسلاميين عليه، خلافاً لما هو الحال في دمشق التي انتهج نظامها سياسة استثارة الإسلاميين واستدراجهم.
ولقضية المنصب المؤقت أهمية خاصة. فحكومة كرزاي الأولى كانت انتقالية تمهد لتثبيت عملية تداولية للسلطة برعاية القوات الأجنبية. فيما حكومة هيتو سابقة للمرحلة الانتقالية، وصلاحيتها تنتهي بمجرد السقوط المفترض لنظام دمشق. وقد انصب الجهد في الحالتين على تأمين نصاب داخلي وخارجي تؤسس عليه الشرعيتان. فلناحية الأصول الإثنية، وقع الاختيار على كرزاي لأنه من البشتون، كبرى القوميات الأفغانية، ومن قندهار تحديداً، عاصمة طالبان. والقصد كان استدراج أبناء القومية هذه إلى العملية السياسية بعدما كانت الأقليات شبه مضمونة نظراً لتمثيل التحالف الشمالي المعارض «لطالبان» قطاعاً عريضاً منها. وبمقياس مشابه، اختير هيتو لأنه دمشقي المولد ومن أصول كردية. وقد شكل الاختيار بذلك رسالة مثلى للنخبة المدينية في الشام والأقلية الكردية المتوجسة من الجار التركي المتداخل مع الأزمة السورية. كما أنه عكس ثقل «الإخوان المسلمين» كطرف مرشح للعب دور مركزي في المرحلة المتصورة مستقبلاً، علماً أن هذا الأمر أثار الرياض وحلفاءها داخل الائتلاف المعارض كما حرض المدنيين المستقلين عليه. وفي حين أن التنازع على اختيار هيتو عكس تنافساً بين الرياض من جهة، والدوحة وأنقرة من جهة ثانية، وكل من هؤلاء لاعبون إقليميون أساسيون على مسرح المعارضة، فقد كان وضع كرزاي مختلفاً. فهو نال مباركة دولية وحظي بحياد إيراني «إيجابي». ورغم حساسية إسلام آباد من تطويبه زعيماً إلا أنها كظمت اعتراضها تماشياً مع المزاج الدولي الراغب بإنجاز عملية سياسية بأسرع وقت ممكن. ولئن يسجل هنا تشابه بين تطويق الاعتراض على انتخاب هيتو وضغط واشنطن على الملك الأفغاني السابق لسحب ترشحه في مواجهة كرزاي في أول محطة انتخابية بعد الاحتلال، إلا أن إرهاصات الاعتراض في الحالة السورية تبدو مديدة الأثر وكبتها يوحي أنه مؤقت، لا حاسم ونهائي كما كان الحال في أفغانستان.
المشترك الأهم، بناء على ما تقدم، يكمن في كون الرجلين نتاج التقاطع بين القوى الناخبة (داخلياً وخارجياً) والتوازنات التي أتت بكل منهما. والاختلاف بين أسباب الحرب في أفغانستان (ذات المنشأ الخارجي والعوامل الداخلية المساعدة) ومقدمات الأحداث في سوريا (حيث الداخل كان أساساً قبل أن يتحول الخارج لاعباً أول) لا يقلل من هذا المشترك أو يؤثر عليه. وإن كان كرزاي قد شكل رقماً ثابتاً في معادلة حكم كابول ربطاً بانجلاء غبار «الحرب على الإرهاب»، فإن هيتو يبدو، حتى اللحظة، مجرد اسم جديد على لائحة يُستبدل مرشحوها تبعاً للتقاطعات والتعارضات الإقليمية والدولية.

ربيع بركات

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...