هيرتـا مولر: الكتابة أنقذت نوبل
في هذا الحوار الاستثنائي مع الروائية الألمانية المُتوجة بنوبل لسنة 2009، تتذكر طفولتها ببلدها رومانيا وكذا علاقتها بالأدب. هيرتا مولر، صاحبة جسم ضئيل، طائر صغير جدا وشاحب كثيرا، يكسوه ريش أسود ـ حذاء، سروال، قميص ـ تنبثق منه عينان واسعتان وقلقتان. مبتسمة، لكنها مضطربة إلى حد أن كل كيانها، يظهر كأنه ممتد على حبل. أنا في غاية التوتر، تهمس وهي تفتح باب منزلها الكبير المتواجد وسط برلين.
جد "مرهقة"، بعد انقضاء أسابيع على إعلان فوزها بجائزة نوبل للأدب شهر أكتوبر، بحيث لم تعد تتحمل" قط سماع أي تعليق بهذا الصدد. قطعا، تلح على الأمر، وهي تسير بخطوات متثاقلة وسط أرضية خشبية تلمع بطلاء البرنيق، وللاحتفاظ بقواها حتى تتخلص من وضع يفزعها ويخلق لديها الضجر، قررت إجراء حوار صحافي واحد، مع الصحافة الدولية، لا غير، "باستثناء، السويدية" قبل تسلمها للجائزة بمدينة ستوكهولم.
ترفض التقاط صور لها، موقف يذكرها بلحظات الاستنطاق التي أشرفت عليها عناصر جهاز البوليس السري الروماني "لاسيكوريتات" "la securitate"، أيام تواجدها برومانيا، فقط كليشيات سلبية أُخذت لها أثناء اللقاء الصحافي.
أيضا، وهي بالكاد جالسة على مقعد وطيئ صنعه نسيج رمادي، تطالب الروائية بصوت مختنق شيئا ما، ألاّ يستغرق اللقاء أكثر من نصف ساعة: "وضع يتناقض مع طبيعتي، فأنا أفضل أن أختلي بنفسي كي أكتب. إن حياتي الخاصة وعملي، لست في مستوى التعبير عنهما بشكل آخر". على امتداد المكان من حولها، فوق الطاولات والكراسي، بل وخلف بعض الأثاث، تنتشر قطع ورقية تناسب حجم دبُّوس. كلمات ثم كلمات باللغة الرومانية، اقتطعت من جرائد، ستنجز بها "ملصقاتها" أو بمعنى ثان قصائد.
ولدت هيرتا مولر "Herta Muller" سنة 1953 برومانيا، وتحديدا منطقة تسمى""le Banat، تتسم بطابعها الجرماني، لذلك تكتب مولر باللغة الألمانية مثل أغلب أهل وطنها، الذين سعوا إلى الفرار من ديكتاتورية الرئيس تشاوسيسكو، فقد تركت رومانيا نحو ألمانيا سنة 1987، بعد أن لاحقها وراقبها هذا النظام المعارضة له لفترة طويلة. كل مشروعها التأليفي ـ مجموعات شعرية ، 22 رواية تُرجمت منها حتى الآن ثلاثة نصوص إلى الفرنسية وستصدر غاليمار Gallimard العمل المقبل شهر أكتوبر 2010 ـ ينطوي على خاصية اضطهاد "حطمها" كما تقول.
عناوين مثل: "الثعلب هو قبل ذلك صياد "سوي 1990""، "الإنسان، أكبر نصاب على وجه الأرض "فوليو""، "الدعوة، "ميتيلي2001""، مؤلفات غريبة وجميلة، حيث يكتسي معها الوصف الغارق في النثرية مسالك عجيبة توحي بطريقة خارقة ويقوم على قوة استحضار زخم لغة فاتنة، تعبر أحيانا عن شتى مضامينها كتابة أو شفهيا. كما، لو أن متانة الصور التي تسكنها وتلازمها، ساعدت الروائية على هزم الخجل وعصبية المزاج ثم الخوف. أيضا ينبغي على الكلمات قطعا اكتساح الميدان، في مواجهة الموت. نتيجة لكل ذلك، استغرق الحوار أخيرا، ساعتين ونصف.
* هيرتا مولر، ما هو أول انطباعكم حينما تلقيتم خبر حصولكم على جائزة نوبل للأدب؟
- لحظتها، لم أفكر في أي شيء ولم أتفوه بأية كلمة.. سعادة غامرة هي تقريبا مأساة كبرى: أعجز عن فهم ما جرى. وقد عاتبت عليّ مؤسسة نوبل عدم إدلائي بأي تصريح. حتما، أنا مبتهجة لكنني لست من النوع الذي يهتف فرحا. خاصة، لا أريد لهاته الجائزة أن تغيرني.
في رومانيا، جعلت اليومي خوفا من الموت. ولكي، لا أنبطح، حاولت جعل وقائع محددة تبدو كأنها عادية. ينبغي، أن تحافظ على تماسكك حتى لا تتحطم. بالتالي، عملت تلقائيا على تصنيف الأشياء حقا دخل رأسي، بقدر خطورة حظ كهذا، حدث بغتة في مسار حياتي. أعرف الموقع الذي نسبته له : إنه بجانبي. لست أنا من نجح، إنها مؤلفاتي.
* داخل أي وسط عائلي تربيتم؟ هل كان للكتب حيزا؟
- لم يكن من وجود للكتب في منزلنا. توفي أبي وأنا صغيرة جدا، أما أمي فقد كانت تشتغل في الحقول طيلة اليوم. ذلك أن منطقتنا المسماة "le Banat" عبارة عن أرض مستوية وسهل، تحيط به القرى الزراعية. الوحيد، الذي امتلك مكتبة، كان أحد أعمامي، صاحب القناعة النازية. مكتبة، احتوت بالتأكيد على مختلف مؤلفات الفكر النازي، فقد اتصف بكونه إيديولوجيا قرويا مجنونا.
حينما مات في "ساحة القتال" سنة 1945، ووصل الروس الذين اقترفوا كل أنواع الفظاعة داخل قريتنا، تحولت جدتي إلى كائن مرعوب. أساؤوا التقدير، كي يميزوا بين الكتب المورِّطة من غيرها، فألقوا بها كلها في موقد، مما منحهم إمكانية التدفئ فترة يومين. لقد عشنا، رعبا شديدا.
* اصطدمتم مع البوليس السري الروماني، قبل بداية مشروعكم الإصداري، بحيث طلب منكم، تزويده بمعلومات عن أنشطة بعض أصدقائكم المثقفين في منطقتكم "le Banat"، لذلك طردتم من المصنع الذي تشتغلون فيه. هل، شكلت الكتابة منذ البداية، صيغة للمقاومة؟
- لحظة التعليم الثانوي، وأنا في سن المراهقة والفتوة، كتبت مجموعة قصائد، لكن ذات يوم قلت لنفسي : "هذا يكفي، كل العالم بإمكانه أن يفعل ما أقوم به". ثم توقفت. ولم أعاود الأمر، إلا بعد مرور فترة طويلة. لكن بين الزمانين، أصبحت واحدة من مريدي حلقة المثقفين المسماة آنذاك بـ: l\'Aktions gruppe. أدركت، معهم، أنه بوسعي تمثل ماهيتي الحقيقية.
فكل ما بدا لي جوهريا في الحياة وسعيت وراءه، كان محظورا عليّ. احتقرت من كافأتهم الدولة، حيث النظام عبثي يشتغل بكيفية مقلوبة. هكذا، لست أنت من تحدد نفسك كمنشق، بل النظام هو من يصنفك ويختار لك هاته الصفة، فتصير كذلك.
* خلال أي فترة عُمرية بدأتم الكتابة جديا، وما هو الدافع؟
- خارج قصائد الشباب، لم أتوخ الكتابة قط. وإذا كتبت فلأني طُردت يوما ما من المعمل، إنها وسيلة لتأكيد حضوري الذاتي، لكنني لم أعتبر ذلك أدبا. ابتدأت، بتدوين أشياء كثيرة، وقلت مع نفسي: إذا تأتى لي صياغتها في قالب، فهذا يدل على أني أفكر. أيضا، أصدقائي شجعوني، وكانت النتيجة أول عناوين كتبي: "Niederungen"، انصب موضوعه الأساسي على قريتي "le Banat" وركودها، حيث تشبه علبة كل شيء فيها جامد ولا يتغير.
* ما إن ظهر كتابكم الأول، حتى تعرضتم للرقابة، ما الذي منحكم القوة كي تواصلون العمل؟
- عندما صدر الكتاب، قالوا لي بأني أبصق في الحساء. على امتداد قرون، فإن الأدب الوحيد الذي أقرّته هاته القبيلة الجرمانية، حمل تسمية: "Heimatliteratur" أي النثر المحلي والوطني، ويمنع توجيه رؤية نقدية حول أصوله. فجأة، انفصلت حقا عن الجماعة.
هكذا، عندما عدت للقرية كي أزور أمي، وجه إليّ الناس مختلف الشتائم. أما أمي، فقد استنكروا العمل بجانبها في الحقول. الحلاق بدوره، رفض شذب لحية أبي. لم أواصل الكتابة لدواعي قوة ما، لكني فقط اكتشفت أنها منحتني صيغة للتماسك الداخلي، ويمكنها أن تدعم وعيي بذاتي. أساسا، ربما عدم امتلاكي للقوة، دفعني لكي أكتب. آمنت لحظتها، بأن الكتابة مفتاح يحق لنا التشبث به، حتى ولو أدركت أن وقائع الحياة ستبقى على حالها. هناك، كتابات تجيز ذلك، مثل ما أنجزه بول سيلان، توماس بيرنرهارد أو بيتر هاندك في بداياته قبل أن يصبح سياسيا لا يُحتمل.
لقد ابتغيت، أن أعيش بطريقة تجيز لي صداقة هؤلاء الأشخاص على الرغم من موتهم أو أنني لم ألتقيهم أبدا.شكل، هذا دعما لي، بحيث راهنت على استساغتهم لما أكتب. لذا، أسألهم ذهنيا: "كيف الأمر، أهو جيد؟".
* جزء كبير من كتبكم، يصف رمزيا تقريبا، الديكتاتورية، الاعتقال، الركود، معطيات ارتبطت بالأنظمة الشمولية. المثير أيضا لديكم، قوة الانتظار؟
- ننتظر دائما شيئا ما. حينما تكون حياتنا قابلة للتحمل، لا نأخذ ذلك بعين الاعتبار، لكن مع الوضع النقيض نعرف جيدا ما ننتظره. في ظل سلطة الديكتاتور، نترقب كل يوم موت الديكتاتور. إنها ظاهرة جماعية، من هنا تكاثرت الإشاعات حول مرض الديكتاتور.
* شخصيات أعمالكم، تشعر بالخوف. إننا نتبيّنه، بل ينفذ عبر الهواء الذي يتنفسونه، هل عانيتم من ذلك ؟
- نعم، لقد هيمن الفزع في كل مكان، مقابل غياب لأي شيء آخر. عندما يهددونك بالموت، ويندسون إلى منزلك أثناء غيابك، يقوم لديك الانطباع بقدرتهم على ملاحقتك أينما تواجدت، بالتالي عجزك على حماية نفسك، هكذا تضيع أحيانا الشخصية والحميمية. حاولت إقناع نفسي، بأن السائد هو المعيار، لكن ذلك سينتهي إلى القضاء على المرء : ستتحمل الوضع لفترة ما ثم تنهار. الأكثر هلعا، شعورك بالضعف. في إطار هاته الشروط، ليس من جدوى لمشاعر الحب، الصداقة والمحبة. حينما، تُستنزف معنويا، يستحيل أن تحتفظ بتلك العلاقات سليمة مع الآخرين.
* في مؤلفكم الأخير المعنون بـ: Atemschaukel، والذي سيترجم قريبا إلى الفرنسية، استحضرتم تاريخ أوسكار باستيور Oskar Pastior ، شاعر صديق إليكم، اقتيد إلى معتقل للأشغال بأوكرانيا وقد روى لكم بإسهاب حكايته. تنطلقون من أشياء، كي ترسمون ثانية التجربة الاعتقالية. لماذا هذا الاختيار ؟
- الأشياء مهمة جدا! خاصة حينما لا نتوفر على أي شيء، ونحن نتسكع في العالم بحقيبة جد صغيرة. داخل معتقل، تسود فيه السيطرة العسكرية، نتحول من أفراد إلى أرقام. والحال أنه، بقدر ما نملك الأشياء بشكل أقل، نحدد الموضوعات أكثر. العمل. بدوره يصير واحدا، حتى المواد التي نشتغل بها، الحجر أو الفحم.
تُغتصب ذواتنا، ثم يلزمنا أن نتحدد ثانية. الأشياء تسمح بذلك. يتأتى لنا تشخيصها كي نموضع ذواتنا. أول، ما تصدمنا به وضعية القهر، تكمن في هذا الاستعباد المطلق. إبان حكم النازيين، كان ينبغي على اليهود الرحيل والتخلي عن كل شيء. يجب أن نتصور دلالة الوضع، بمعنى أن تلقى في العالم دون حماية ما. فالأشياء تحمينا وتجعل حياتنا مُبررّة أكثر. كما، تنفرد بخاصية كونها تجعلنا نصمد. تأملوا ، ركام النظارات والأحذية التي عثرنا عليها في المعتقل النازي "Auschwitz".
هذا القدح المتموضع فوق الطاولة، قد يستمر لفترة طويلة قياسا لعمرنا، شريطة أن لا يكسره شخص ما. أفق، صغير للأبدية. هذا يرعبني نسبيا، من ناحية أخرى. أحيانا، تغمرني السعادة حينما يتكسر الشيء: نحتاج قليلا إلى التباري في هاته الحياة!
* حضور الطبيعة ثابت في نصوصكم، بما فيها تلك التي توظف المدينة كفضاء لها، مثلما الشأن مع عملكم: [La convocation]، ما هي أهمية الطبيعة لديكم، ولماذا تمنحونها وصفا كهذا، لاسيما السماء، إنها عنصر رئيسي؟.
- أنا طفلة قروية، وحيدة أيضا، عشت دائما في عزلة مع المناظر الطبيعية، من حقل إلى حقل، أرعى الأبقار. في تلك الحقبة، لم تكن لدي كلمات كي أعبر عن أحاسيسي، وجدت المنظر الطبيعي مُهدِّدا، فأقول مع نفسي: سيبتلعنا. يغدينا، لكنني شاهدت أيضا كيف مات الناس تحت أقدامه. نقتات من الطبيعة، وفي يوم من الأيام ستفترسنا. داخل جوف الأرض، سنتحول إلى نباتات، نوع من الاستمرارية.
* الموت قائم باستمرار بين طيات أقوالكم...؟
- نعم، الموت هنا وقد أخافتني على الدوام. أثناء طفولتي، تساءلت على الدوام: "هل سأموت للتو؟". كلما، سقطت دودة على كتفي. الموت مهولة، قد تفتك بك متى أرادت.
* ابتعدتم كثيرا عن الواقعية، بالمعنى المعتاد للمفهوم. اختيار القصيدة والمتخيَّل بل العجائبي أحيانا. هل، هي طريقة للاقتراب من الحقيقة؟
- لا أعرف ما هي الحقيقية، أو بالأحرى أفهمها كما تتجلى في الحياة اليومية: أن تعرف، إذا كان شخص ما، يكذب عليك أو يقول الحقيقة. أمقت، الكذب والخيانة والخداع، بمعنى كل ما يتعارض مع الحقيقة. فيما يتعلق بالأدب، تنبني الحقيقة عبر كل الأجزاء، إنه خيال يقودنا إلى أثره.
حين نكتب نعثر على أشياء، لم يدركها اليومي بعد ثم تصير حقيقة، فالكتابة تنهض على قواعدها الخاصة المصطنعة. غير أن الحياة تسخر من الكتابة، ولسنا في حاجة للعيش كي نكتب إنه تمثيل إيمائي: نؤسس حقيقة ونكتشف بها ممكنات أخرى غير متوقعة. تكمن المفارقة، في أن كنه الخيال أفضل ما يتطابق مع حقيقة كهاته. شيء غريب لكنه جميل، وهو ما يمنحني إمكانية تحمّل الكتابة، لأنني لا أحب أن أكتب، ليس لدي ثقة في اللغة.
* ما سبب هذا الارتياب إزاء اللغة؟
- ولماذا الاطمئنان إليها؟ فاللغة مجرد انعكاس لمن يتكلمها. وبقدر حقيقتها تلك، فهي لا شيء، لكن بوسعنا أن نخلق بها أي شيء. لقد عانينا جميعا من هذا الوضع فترة الديكتاتورية: جسدت اللغة، أفضل وسيلة لخداع العالم. حين تصمت، يصعب عليك أن تكذب. بالتالي، يتم الارتياب في الصمت أكثر من الكذب.
* ثقل الكلمات وكذا حضور لغة الخشب كما يعبر عنها النظام السياسي، يبرزان دائما في كتاباتكم. شُيِّد إنتاجكم عبر التسلل إلى لغات مختلفة مثل الألمانية أو الرومانية كلغة رسمية؟
- لغة الخشب أشعرتني بتقزز حقيقي. وجدت هوة بين الخطابات التي تدعي التقدم وسعادة الشعب، ثم الأفراد ونحن نلاحظ كيف يتحطمون! ينتابني الجنون عندما أقرأ كتاب فيكتور كليمبيرير "Victor Klemperer" عن لغة الرايخ الثالث، أدركت بأن الشخصيات الديكتاتورية توظف دائما نفس الاستراتيجية، مختلف الكلمات التي يستعملونها بلا قيمة، يهدفون فقط إلى التضليل، هكذا توخيت أن لا تخترقني لغتهم وهو ما أحاوله أيضا راهنا في مواجهة الإشهار: أبذل قدر المستطاع كي لا أنقاد وراءه.
* لغتكم الخاصة، أليست في نهاية المطاف، متشردة، خلقت حيزها الذاتي وهي تنساب بين الثقافات؟
- في قريتي الجميع يتكلم الألمانية، غير الطبيب والشرط،ي شخصيتان نفضل أن لا تكون لنا صلة بهما. تعلمت اللغة الرومانية في سن الخامسة عشر جراء قراءتي للكتب، فوقفت على جمالية صيغها وعباراتها الشعرية وتبين لي مدى انسجامها مع مزاجي قياسا للألمانية. مثلا، أسماء النباتات ونوعية الأشياء: زهرة الزنبق، تؤنثها اللغة الألمانية، لكنها ذكورية في الرومانية، الأمر ينطبق كذلك على الورد. فيما بعد، تكونت لدي صورة مختلفة عن المعطيات وصار للنباتات وجها آخر. كل شيء يمتلك منحيين، فهم ترسخ في دماغي. لذلك لحظة الكتابة، تحضر الصورة الرومانية خلف الكلمة الألمانية. الإثنان، مترابطان.
* عملكم الأول باللغة الرومانية، صدر متأخرا وتحديدا سنة 2005، فلماذا هذا الانتقال إلى الرومانية عبر بوابة القصيدة؟
- كنت في رومانيا، واضطررت إلى السفر على متن القطار، لأن أوسكار باستيور أراد أخذي إلى بيت والديه. أحد الأصدقاء، حمل لنا حفنة جرائد عملنا على تقليب صفحاتها بغاية التسلية. وحينما عدت إلى برلين، شرعت في تقطيعها والاستئناس بلعبة لصق الكلمات، ثم نجحت الخطة. إنه نموذج، للكتابة انطلاقا من كلمات موجودة سلفا. يدخل في هذا الإطار أيضا، حساب أردت تصفيته مع اللغة الرومانية، فقد عجزت عن الكتابة بها، لكن عن طريق تلك العملية عدت قادرة وأردت تقديم دليل هذا التحقق.
*المنفى، الاجتثاث، الرحيل، حاضرة جدا في عملكم، كيف تعايشتم منذ 1987، مع إقامتكم بألمانيا الغربية؟ هل أثر الوضع على كتابتكم؟
- ما هو أساسي إحساسي بأنني نجوت. انتهت خشيتي من القتل، على الرغم من استمرار تهديدات بوليس La securitate. قلت لنفسي: "لقد رحلت، أنا بعيدة الآن"، مما غير طريقتي على مستوى الكتابة. في رومانيا ساد الخوف من الإقدام على اقتحام المنازل وتفتيشها، بالتالي استلزم الأمر إخفاء كل شيء، أما هنا لا حاجة لذلك. ليست، المسافة وحدها، هي التي تبدّل الأشياء، بل الزمان: بقدر ما نبتعد زمانيا، فإن المسافة الجغرافية لا تعمل إلا على مضاعفة الإبعاد الزماني. جل الوقائع التي نحياها، تأخذ دلالة مختلفة حينما نبلغ الشيخوخة، بحيث ننظر إليها بشكل مغاير.
كل ما له قيمة في الحياة، يتغير مجراه. أشياء هائلة تصير صغيرة، كذلك الذات، تتموضع بكيفية أخرى. بهذا الصدد، لم يبدِّل الرحيل أي شيء. هو الأفق ذاته، حتى لو بقيت في رومانيا.
* هل من وسيلة للتصالح مع الماضي؟ الذكريات؟ أهي الكتابة؟
- لا أحتاج إلى اطمئنان داخلي، بل أجهل معناها. ولا شخص يمكنه ذلك. جميعنا ينطوي على أحاسيس تتأرجح حدتها، كما أنها تنزاح وتتحول. يظهر لي، الاطمئنان الداخلي عقيما ومضجرا، ثم إني لا أتصارع مع ذاتي، فأصل مشاكلي ينبعث من البراني.
* هي إذن قصة حب بينكم ورومانيا، ميزتها نهاية سيئة؟
- لا، ليس التصور كذلك، لقد حطموني هناك. لو مكثت وأمكنني أن أعاين ما حدث بعد سقوط جدار برلين، لأصابني الجنون. عندما وصلت إلى ألمانيا، عجزت عن الفصل بين الضحك والدموع. عانيت من أقصى حالات القلق. ضياع، لست معتادة على قول ذلك، لكني منهارة، أدرك الأمر.
سعيد بوخليط
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد