والت ويتمان وروح أميركا
لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا ما اعتبرنا أن الشاعر الأميركي والد ويتمان هو الوجه الأكثر إشراقاً من الروح الأميركية التي يكاد يحجبها عن الأعين قرن كامل من الركض وراء القيم المادية والتكنولوجيا العمــــياء وشهوة التحكم بالعالم. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يحتفي شعراء الأرض وفنانوها بهذا الرجل الاستثنائي الذي عرف كيف يوائم بين مقتضيات التحديث الشعري والإنصات الى قلب الإنسان الباحث عن الطمأنينة والحب وسط العواصف العاتية والكراهية المستشرية. ولم يكن من قبيل الصدفة أيضاً أن يتــــخذ الشــــعراء من ويتمان نقيضاً جوهرياً للحضارة الزائفة والصماء التي تمثلها وول ستريت وناطحات السحاب ودوائر البورصة والمصارف الضخمة. وحين كتب غارسيا لوركا مجموعته المميزة «شاعر في نيويورك» لم يجد من يلوذ به وسط ذلك الفضاء المعدني الأبكم سوى صورة والت ويتمان المفعمة بالصدق والشاعرية الأخاذة.
استحوذ والت ويتمان تبعاً لفرادته الشعرية والإنسانية على اهتمام الشعراء والنقاد والقراء العرب الذين قرأوه، إضافة الى لغته الأم، عبر ترجمات عدة لديوانه الأكثر شهرة «أوراق العشب» أو لأجزاء من هذا الديوان. على أن مقارنة بين هذه الترجمات تدفعنا الى الانحياز للترجمة التي قام بها الشاعر والمترجم السوري عابد إسماعيل لمجموعة ويتمان «أغنية نفسي» قبل شهور قلــــيلة. ليـــس فقط بسبب المقدمة الدقيــــقة والـــــوافية التي يقدم بها إسماعيل للمجموعة بل بسبب المعرفة الوثيقة باللغتين الإنكليزية والعربية، فضلاً عن الجمع بين الدقة والأمانة وسبر روح النص الأصلي من جهة وبين نضارة العبارة العربية وتلقائيتها من جهة أخرى.
أول ما يلفتنا في مقدمة الكتاب، وقبل الشروع في قراءة المجموعة، هو لجوء والت ويتمان الى تنقيحات متوالية لعمله الشعري. فمع كل طبعة جديدة من طبعات الكتاب كان ثمة حذف لبعض ما لم يرض عنه الشاعر وتعديل للبعض الآخر. فالكتاب، الذي هو جزء من «أوراق العشب»، ظهر في صورته الأولى عام 1855، لكن صورته النهائية لم تظهر إلا في العام 1891، أي قبل عام واحد من رحيل الشاعر، الأمر الذي يعيد الى الأذهان ذلك النقاش الطويل الذي دار بين الرمزيين والرومانسيين حول الإسهام والوحي ونهائية الكتابة. وقد استمر هذا النقاش حتى يومنا هذا بحيث وجدنا من ينظر الى النص الشعري بصفته نصاً مرتبطاً بلحظة الإبداع نفسها بقدر ارتباطه بظروف وحالات معينة، وبالتالي لا ينبغي تعديله بأي وجه، كما وجدنا من يعمل باستمرار على تعديل نصوص وصقلها وتحديثها مرة بعد مرة.
تشكل «أغنية نفسي» لغير سبب من الأسباب نقلة حقيقية في تاريخ الشعر الأميركي، كما في الشعر العالمي عموماً. ليس فقط لتحررها من الأوزان والقوافي واعتمادها الأسلوب النثري والترسل الحر للكتابة، بل لأنها، إضافة الى أسبقيتها الطليعية، فعلت كل ذلك من دون أن تخسر شعريتها الهائلة التي استعاضت عن الإيقاعات المعروفة بجيشان المشاعر وتدفق الصور وتلاحق الأخيلة بما يجعلها أقرب الى الملحمة الإنسانية الكبرى التي تمجد الحياة وتزيل العوائق والحواجز وتحل محلها جسور التواصل والتناغم والوئام لا بين البشر وحدهم بل بين كائنات العالم وتمظهراته المختلفة: «ان جميع الناس الذين ولدوا هم إخوتي/ النساء اخواتي وحبيباتي/ وأن مركز الكون هو الحب/ وأن تلك الأوراق المنتصبة أو الذابلة في الحقول لا نهائية/ وذلك النمل في الآبار الصغيرة لا نهائي/ وكذلك جرب الطحالب على سياج الدود/ والحجارة المكوَّمة/ ونبات البيلسان والقطن وعنب الذئب».
لا يترك والت ويتمان لقارئه فرصة للتنفس منذ بداية القصيدة الطويلة حتى نهاياتها. فنحن هنا إزاء سيل جارف من العواطف والرؤى والتهيؤات التي لا تتوقف. ثمة هنا غنى معرفي وثراء مدهش في التصوير ومساررة حميمة مع عناصر الطبيعة كما مع الحيوات الإنسانية والحيوانية والنباتية التي تبدو وكأنها تدور في مدار متناغم هو روح الكون الذي لا يعرف الاستكانة. على أن البعد المعرفي في هذا الشعر لا يصدر عن الفكر المجرد والمنطق الذهني والنظريات الفلسفية الجافة، بل يتمرأى عبر نهر لا يهدأ من المرئيات والمشاهد والصور المحسوسة، ما يجعلنا نشعر أننا إزاء شريط سينمائي تكرُّ من خلاله أطياف الحياة ومخلوقاتها الكثيرة الباحثة عن خلاصها في الحب والتوحد. وإذا كان والت ويتمان لا يحسب من الشعراء الصوفيين، إلا أنه من خلال قوله بوحدة الوجود وانصهاره في بوتقة من التآلف والانسجام يتقاطع مع الصوفية في غير عنصر من العناصر، وفي هذا الشعر تجاوز لثنائيات: الروح والجسد، الخير والشر، الملاك والشيطان، المقدس والمدنس، ولثنائية الحياة والموت: «أنا شاعر الجسد وأنا شاعر الروح/ متع الجنة معي وآلام الجحيم معي/ الأولى أضمها وأخلعها على نفسي/ والثانية أترجمها الى لسان جديد/ أنا شاعر المرأة مثلما أنا شاعر الرجل/ وأقول عظيم أن تكون امرأة/ وعظيم أن تكون رجلاً/ وأقول لا يوجد شيء أعظم من أم الناس».
الغريب في شعر ويتمان أن القارئ لا ينتبه أبداً الى أن هذا الشعر مشغول بمهارة ومعادة صياغته غير مرة، ذلك أن خلفه روحاً متوثبة وشبقاً برياً لالتهام كل ما يصدر عن الحياة من إشارات. كأنه من غير زاوية إرهاص بعظمة الروح الأميركية المتحفزة للانطلاق. لكنها ليست أبداً روح السيطرة والجشع والاستحواذ، بل روح الطموح والإبداع والتمرد على الموت. أما الموت بحد ذاته فليس له وجود في منظور الشاعر لأنه ليس عدماً وتلاشياً بمقدار ما هو محطة من محطات التحول نحو وجودات أخرى وعوالم أكثر رحابة.
شوقي بزيع
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد