اختلاطُ العصور في المجتمعات العربية.. واستمرارُ الصراع بين العقل والنقل
1
لطالما عاش الإنسان في عصور حديثة، لهذا فإن الحداثة مرتبطة بالانفتاح العقلي والخروج عن الأنساق الأصولية المكرسة في التفكير السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لهذا يمكننا أن نجد أشخاصا حداثويين في كل العصور، شكلوا حالة تمرد على الدوائر المحافظة التي تخشى الجديد. فلطالما كان التغيير في المنطقة العربية مرتبطاً بوقع سنابك خيل الغزاة، منذ غزو الإسكندر المقدوني لمدينة صور سنة 332 قبل الميلاد واحتلاله العالمَ القديم، حيث تزاوجت ثقافةُ شعوبِ حوض المتوسط مع الثقافة اليونانية، والفارسية، فالرومانية، ثم الإسلامية، والصليبية، فالمملوكية والعثمانية، وأخيرا الأوروبية، حيث اختلطت جميعاً في شيفرتنا المعرفية وشكلت ما نحن عليه من جودة وسوء...
لنقف أمام الجامع الأموي كإرث ممتد للحضارات المتعاقبة ونبدأ بالحفر المعرفي، منذ أن كان معبداً للإله الآرامي "حَدَد" إلهِ المطر والصواعق، حيث استمر المؤمنون الآراميون بالصلاة فيه حتى احتل اليونانيون البلاد واستولوا على معبد "حَدَد"، ليقيموا عليه معبداً للإله "زيوس"، المتحكم بقوى الطبيعة، وأبي الآلهة والبشر ليصلى فيه مؤمنين آخرين غير الأولين لمئتي عام. ثم جاء الغزاة الروم واحتلوا البلاد واستولوا على معبد زيوس وأقاموا ا للإله عليه معبد "جوبيتر" إله السماء والبرق وملك الآلهة، وجاء مؤمنون جدد وذهب الأولون، ثم تحول إلى كنيسة القديس "يوحنا المعمدان" تمثل الآب والابن والروح القدس أواخر القرن الرابع الميلادي، بعد دخول روما في المسيحية، فاندثر الوثنيون وصلى المؤمنون المسيحيون فيه بدلا من الوثنيين لسبعة قرون، ثم جاء العرب المسلمون واحتلوا البلاد واستولوا على الكنيسة وأقاموا عليها مسجداً باسم العائلة الأموية الحاكمة، وكذا فعلوا في مدينة حلب، وصلى المؤمنون المسلمون فيه بدلاً من المؤمنين المسيحيين، حيث تشكل الإسلام الأموي من خليط عرب مسلمي الجزيرة العربية ومن مسيحيي سورية الذين دخلوا في الإسلام حتى يتخلصوا من دفع الجزية ويصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى، فانصهرت ثقافة عرب الجزيرة مع ثقافة السوريين الآرامية اليونانية الرومانية المسيحية، لتنتج نسخة الإسلام الأموي المنقطع عن نسخة الخلفاء الراشدين، حيث تحول الخليفة إلى ملك بعدما كان فرداً يعيش بتواضع مثل بقية رعاياه، في السكن واللباس والطعام .. وهكذا استمرت بقية المعابد في رسالتها على اختلاف عصورها وآلهتها، تحوز على الأراضي باسم الأوقاف، وتأخذ الضرائب باسم الزكاة وتدعو للسلطان الذي تم دمجه بالمقدس على طريقة الفراعنة والإغريق !؟
2
إذاً فقد عبد الناس الآلهة بأسماء شتى قبل توحيدها من قبل الفرعون أخناتون في رمز الإله آتون، ثم نقل اليهود التوحيد عنهم، ومنهم انتقلت إلى المسيحيين فالمسلمين، إلى آخر حكاية الديانات الإبراهيمية المؤتلفة المختلفة، والتي يقتل المؤمنون الإبراهيميون بعضهم بعضاً بسببها منذ ثلاثة آلف عام... وقبلها كان عبدة الأوثان المتدينون يعادون أيضاً غيرَ المتدينين ويعتبرونهم كفاراً، ذلك أن الإنسان حيوان ناطق ومتدين ومحافظ يخشى الجديد... ومنذ عبادة القمر والشمس والنار والمتدينون الوثنيون يحاربون بعضهم البعض، مثلما يتحاربُ الموحدون المسلمون مع اليهود والمسيحيين، وجميعهم في الوقت نفسه يحاربون أبناء جلدتهم من غير المتدينين ويعزلونهم أو يقتلونهم تقرباً من الله تعالى !؟ فالناس بحاجة إلى شيء من الكراهية يتوازى مع محبتهم كي يتوازنوا في حياتهم وأديانهم التي تدعو إلى محبة وإخوة في الدين كما تدعو إلى نبذ غير الإخوة من الأديان الأخرى، وقتلهم أيضاً.. وقد خبر السياسيون ذلك منذ القديم، فاستغلوا جزئية المعرفة ومحدوديتها لدى العامة كي يقودونهم، ومازالوا يستخدمون الناس ضد بعضهم لقلة معرفتهم بثقافاتهم، ذلك أن القتل المنظم في الحروب ملازم لحركة التاريخ ومحرك لها، من حيث أنه يصفع النيام كي يستيقظوا ويخرجوا من مستنقعاتهم السلفية، لتفرض الحروب أفكارا جديدة غير الأفكار التي اشتعلت بسببها، ذلك أن التاريخ لا يأبه بدموع الثكالى ولا يسمع صراخ المظلومين... فقد قتل الإسكندر المقدوني الكثير من الناس خلال زحفه على آسيا وفارس، وبعد الاستقرار تأثرت شعوبها المغلوبة بثقافة اليونان لمئتي عام، حيث بنى الإسكندر لمجموعاته الإغريقية أكثر من عشرين اسكندرية (مدينة) كان في كل منها جمنازيوم يقام فيه الأولمبياد وحمامات ومسارح يتسع واحدها لخمسة آلاف متفرج، وهي مبنية بإعجاز هندسي عجز الأمريكان اليوم عن تقليده، حيث يسمع المتفرج في آخر صف بالمسرح صوت الممثلين مثل المتفرج الجالس في الصف الأمامي (زرت أحدها في اليونان حيث يقام مهرجان مسرحي فيه) وكان يلحق بكل مسرح مكتبة تشتمل على فلسفة أرسطو وطب أبقراط والمدارس الفلسفية اليونانية، وإضافة لذلك كان ينتصب أمام كل جمنازيوم أو معبد عمود يشتمل على 140 حكمة أخلاقية منقولة عن عمود مماثل في مزار الإله "أبولون" في معبد دلفي اليوناني، ( وقد بقي بعض مما ورد فيه إذ يقول: عندما تحافظ على النظام وأنت طفل / عندما تتحكم في نفسك وأنت شاب / عندما تكون منصفا وأنت رجل / عندما تكون حكيما وأنت كهل / عندما تموت لن يكون هناك ما تندم عليه..) كما كان هناك روابط ونواد تدعوا للثقافة الهيلينية.. ورغم أن الإغريق كانوا يشكلون طبقة أرستقراطية فقد منحوا المحاربين المرتزقة والقراصنة الذين يبدون تميزاً في الحروب والمتبرعين الأثرياء للجمنازيوم صفة المواطنة، وتعني الحصول على الأرض والأملاك وحق الرعي.. وطبقا لما ذكره أريان فقد أمر الإسكندر بحل جميع الحكومات الأوليغارشية (حكم الأقلية) في أي مكان وإنشاء حكومات ديمقراطية واستعادة كل مدينة لقوانينها وإلغاء الضرائب التي كانوا يدفعونها للفرس، ليفرض ورثته من بعده ضرائبهم، كما أجبر المدن بإعادة كل المنفيين... ويقول فرانك ولبانك عن حملة الإسكندر على الشرق: "كانت سورية تتألف من عدد من الجماعات بعضها حضري وبعضها قبلي، على درجات متفاوتة في الاعتماد على الحكومة المركزية، بعضها يخضع لملوك محليين ذوي سلطة متوارثة، وآخرون لهم حكام محليون أو غرباء ينصبهم الملك الأعظم، وكلهم على السواء يتمتعون بقسط من الاستقلال الداخلي ما داموا يحافظون على السلم ويدفعون الضريبة بانتظام ".
وفي ظل حكم البطالمة اليونانيين لمصر وسورية المجوفة (مدن الداخل) وحكم السلوقيين اليونانيين لمدن الساحل الفينيقي، انتشرت المدارس الفلسفية وخصوصاً الفلسفة الأبيقورية والرواقية، وقد ضمت مكتبة الإسكندرية حوالي 500 ألف لفافة بردي، وألحق بها معهد للأبحاث ومتحف، وكذا كانت مجمعات الجمنازيوم في سائر المدن التي تخضع لسلطة الإغريق. وكانت الرواقية مثل الأبيقورية تحمل قناعة أنه بالعقل يستطيع المرء اكتشاف الدرب الصحيح واتباعه.. كما استخدموا الحساب في منهج البحث عن الظواهر الطبيعية، وقد نجد بقايا ذلك في أدبيات المعرفة الدينية عند العلويين والإسماعيليين، حيث تشتمل مخطوطاتهم على مفهوم العقل عند أرسطو، والجُمَّل الكبير والجُمَّل الصغير وعلم الفلك المعتمد على الرياضيات الفيثاغورثية.. فقد أدى امتزاج الإغريق بالشعوب الأخرى إلى تلاقح الأفكار، وكان الإغريق يشجعون العبادات التي تدعم سياسات الدولة ويمولونها بتحويل ضريبة السدس على الإنتاج، فمزجوا بين الدين والسياسة، كما وجدت عبادة الحاكم تربة خصبة في المدن اليونانية السورية والمصرية.. وأدى غزو أنطيوخوس الثالث عام 200 قبل الميلاد لفلسطين إلى تأثر بعض اليهود غير المتشددين بالإغريقية، وتم كتابة السفر الجامع من التوراة تحت تأثير الأفكار الإغريقية، غير أن اليهود الأرثوذوكس (جماعة أصولية تلمودية) قاوموا الأفكار الهيللينية بعنف واعتبروا معتنقي الأفكار الهيللينية والمجددين من اليهود مهرطقين ومرتدين، وثاروا ضد الملك الإغريقي بعد إقامة رابطة إغريقية مع منظمة للشبيبة اليهود في بيت المقدس رافضين أي تغيير، ذلك أن التعاليم اليهودية الدينية في بنيتها تعاليم عنصرية تدعوا إلى كراهية الشعوب الأخرى والانغلاق دونها حيث يعيش المتشددون اليهود في كل أنحاء العالم في أحياء مغلقة ضمن دوائرهم السلفية منذ بداية تاريخهم إلى اليوم ..
أما في الإسكندرية فقد نظم الإسكندر بعض اليهود في غيتو ووكل بهم من يدير شؤونهم، حيث تطبع الكثير من يهود مصر بالطابع الهيللينستي وهجروا اللغة العبرية لصالح الإغريقية، وترجم العهد القديم إلى اليونانية (النسخة السبعونية) كي يتمكنوا من قراءته، وقد ظهرت المسيحية فيما بعد بين اليهود الهيللينيين، وكان بولس الرسول يهوديا ورعا ومواطنا رومانيا يمارس التبشير بين الكفار، واستخدم في خطابه الأول للمسيحيين عبارات تشبه العبارات التي كان يستخدمها الرواقيون في وصف خصائص المجتمع السياسي، ومن ثم اعتمد العديد من المسيحيين في القرن الثاني الميلادي كثيرا على تعاليم الفلاسفة الإغريق وخصوصا تعاليم المدرسة الكلبية لعرض قضية المسيحية .
ولو نكشنا في طبقات معرفتنا الدينية، لوصلنا إلى طبقات البناء المعرفي اليوناني، عندما كانت دمشق ومدن الشرق تتكلم اليونانية إلى جانب لغتها الأم، ولوجدنا المنطق الأرسطي في كلام الأشعرية والمذاهب الصوفية اليوم، وكذا أخذ اليونان عن السوريين المعرفة الهرمسية التي تغلغلت في عباداتهم وفلسفتهم، كما أخذوا عن المصريين عبادة الفرعون بعدما استقبل المصريون بطليموس وفتحوا له بلادهم من دون حرب وأقنع كهنة آمون القائد بطليموس بتأليه الإسكندر ومن ثم كرسوا بطليموس إلها يعبد بعد موته، فقد تأثر الغزاة أيضا بثقافة المشرقيين كما أثروا بهم .
3
سقطت شبه الجزيرة اليونانية تحت الحكم الروماني في عام 146 قبل الميلاد بعد معركة كورينث عندما أصبحت مقدونيا مقاطعة رومانية، وبعدها استولى الرومان على سورية سنة 64 ق م وعلى الإسكندرية سنة 30 قبل الميلاد وبات العالم القديم رومانياً.. كانت روما دولة اسبارطية بامتياز يديرها العسكر وتحكمها علاقات القوة، وارتبطت الطبقة الأرستقراطية بالإنجازات العسكرية حيث ترتبط قيمة القائد بما يحصله من غنائم وما ذبحه من أعداء.. وقد أحلت اللاتينية محل اليونانية، ولم تكن حضارتها منتجة للفلسفة ولكنهم اعتنوا بالمسرح الوطني وتبنوا ما يخدمهم من الإرث الإغريقي، كنظام الضرائب وقوانين الدخل والتعليم وفن الخطابة والشعر والطب والهندسة وعلم الفلك، فقد كان الرومان أقل مستوى من الإغريق وكانت حضارتهم مغرقة في الحسية والشهوانية، مثل الحضارة الأمريكية المعاصرة..
بعد احتلاله لسورية أراد "بومبيو" بعث الحياة الإغريقية في مدنها التي تراجعت أحوالها في أواخر حكم السلوقيين، فحاول تقليد الإسكندر وأبقى على الأوضاع كما هي في الأرياف والبوادي تحت حكم العائلات المتوارث، لأنها أكثر تخلفا من أن تتحول إلى مجتمع جمهوري مدني. وفي المقابل حمى المدن من أطماع هذه البيوت الحاكمة التي كانت تمد سيطرتها نحو المدن بحسب ضعف الحكومات الإغريقية، وعمل على تجديد المدن وضبطها تحت ظل نظام جمهوري. وضمن هذه السياسة رد بومبي مملكة اليهودية إلى نواتها الريفية، وعين مجلس الشيوخ الروماني هيرودس ملكا على اليهود حيث تزوج امرأة يهودية تقربا منهم وقام بحركة عمرانية في مناطق اليهود، ثم خلفه بيلاطس النبطي بعد وفاته، وفي زمنه كبحت حركة التجديد الهيلليني التي كان يبشر بها الواعظ الآرامي يسوع الناصري بعدما طرد مع تلاميذه كهنة المعبد اليهودي، فضغط الكهنة على بيلاطس كي يصلبه بتهمة ادعائه أنه ملك، بعدما باتت أفكاره التجديدية تشكل خطرا على سلطاتهم الدينية. وقد أدى صلب يسوع إلى تعاطف كبير مع أفكاره التي انضم إليها التيار اليهودي الإغريقي، معتبرا أن يسوع هو الماشيح المخلص الذي ينتظره اليهود، حيث قامت كنيسة المسيح بعد 50 يوما من وفاته أي سنة 30 ميلادية، وكذا جاءت المسيحية كحركة تجديد داخل اليهودية بتأثير الثقافة الهيللينية، واستمرت علاقة اليهود المتشددين متوترة مع السلطات الرومانية لبضعة قرون، بينما تمكنت المسيحية من الإمبراطورية الرومانية حيث غدت دينها الرسمي منذ عام 312 م على يد الإمبراطور قسطنطين الذي بنى القسطنطينية وجعلها عاصمة للمسيحية، بعدما أقام بالقوة الكنائس مكان المعابد الآرامية والإغريقية،( مثلما ذكرنا عن تاريخ الجامع الأموي) وتحول التبشير بالمسيحية إلى قوة السيف، كما حصل مع الدعوة الإسلامية فيما بعد.. ومنذ أواخر القرن الرابع الميلادي باتت كلمة روماني تعني مسيحي، وكان ذلك سببا لنشوء المسيحية السياسية، حيث تغير شكل رسالة الحب المسيحي وباتت شأناً مؤسسياً يرعاه الكهنة الذين حاربهم المسيح والسياسيون الذين صلبوه.. ومع تقدم الزمن سيطرت جماعة النقل وتشكلت المسيحية السلفية.. وتلخص قصة الفيلسوفة هيباتيا السكندرية 370 م فورة الطغيان السلفي المسيحي ضد الفكر الإغريقي الذي كان سببا في نشوئه، حيث هاجم 500 راهب هيباتيا بعدما رفضت تقبيل الصليب والدخول في المسيحية، فتمت تعريتها وسلخ جلدها بقشور المحار قبل أن يشعلوا النار بجسدها، ثم لوحق تلامذتها ودمرت جامعة الإسكندرية وأحرقت مكتبتها على يد الرهبان، مثلما حصل بعد دخول جيش عمرو بن العاص مصر حيث أحرق مكتبة الإسكندرية واستعاض عن مقتنياتها بكتاب القرآن الكريم حسب ما تذكر بعض الروايات.. وقد دخلت المسيحية نفسها في صراع دموي مع المذاهب المحدثة التي تشكلت لأسباب سياسية، واستنقعت أوروبا في الجهل والظلام تماما مثلما حصل للإمبراطورية الإسلامية في عصر المماليك والعثمانيين.. إذ أن الشعوب تنهض مع الأفكار الجديدة الخلاقة وتهوي مع تحجر العقل وسلفنة الفكر، ليتكرر مشهد صراع جماعة النقل مع جماعة العقل، حيث تنهار الحضارات دائما بسبب خمول وتخلف جماعة النقل الأصولية..
4
وصلت سورية الرومانية إلى أوج ضعفها بعدما تضاعفت نفقاتها العسكرية والإدارية وزادت من ضرائبها بأكثر مما يحتمله وضع رعاياها، فازداد الفساد الإداري وكثرت السرقة، وباتت الفرصة مهيأة للكيان الإسلامي الناشئ والطامح للاستيلاء على الطريق التجاري وعلى جنة الأرض التي تجري من تحتها الأنهار وتخطر على ضفافها النساء البيضاوات، ودون ذلك كانت جنة السماء مكافأة للمجاهدين الذين يتحدث كتابهم المقدس عن صحف عيسى وموسى والصابئة إذ كانت أفكارها منتشرة بين المجتمعات المدينية في الجزيرة قبل إعادة صياغتها في دين جديد.. أما شعوب سورية ومصر والعراق فكانت في كل حقبة تستبدل محتلا بآخر، وكلما جاء غازٍ جديد يتوهمون أنه سيخلصهم من ظلم المحتل القديم.. وعندما دخل المسلمون مدن سورية المسيحية بمساعدة القبائل العربية طردوا الروم وأقاموا مسجدهم مكان كنيستهم في دمشق وحمص وغيرها، كما أسلفنا. وقد استغرقت سيطرة العرب المسلمين على كامل مدن سورية سبع سنوات (633ــ 640 م) مما يدل أنهم لم يدخلوها من دون مقاومة شديدة، وأن المدن السورية لم تستسلم بسهولة (بعكس ما تقوله روايات أجدادنا الفاتحين).. فألغوا ضرائب الروم وأحلوا الجزية مكانها، وهُجرت المسارح والمكتبات، ومنع النحت والتصوير، واستبدلوا التقويم الميلادي بتقويمهم القمري الذي أربك مواقيت الزراعة. وأحل المسلمون نظام الدواوين الفارسي، ولم ينشروا أي ثقافة جديدة بين السكان سوى تعاليم الدين الإبراهيمي الجديد الذي تم تطعيم ثقافته بالإسرائيليات التي بثها كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وانتشرت بسهولة بين العرب المسلمين، كونها كانت مناوئة لثقافة الأعداء الرومان في القسطنطينية الذين استمر الصراع معهم حتى نهاية الاحتلال الصليبي.. غير أن الفاتحين الصحراويين تأثروا بثقافات المفتوحين وكانت مكتبات الكنائس والأديرة تشتمل على كتب الإغريق وفلسفاتهم، حيث أقبل عليها طلاب العلم. وقلد خلفاء بني أمية ملوك الروم والفرس وبنوا قصورا ووضعوا حجابا وخدما وعبيدا وجواري، كما أبقوا على نظمهم الإدارية والزراعية واستخدموا المسيحيين لإدارة شؤونهم المالية (الخراج)، لعدم توفر محاسبين إداريين.. وبالمحصلة انتقل الأمويون من مرحلة الإسلام الهاشمي إلى نسختهم الشامية الجديدة، وتم تهميش المركز الرئيس للإسلام وصارت دمشق هي المركز، حيث هاجر الصحابة من صحراء الإسلام إلى غوطة الشام كي ينعموا بعطاءات الخلافة حتى بلغ عدد الصحابيين الذين تجري عليهم الرواتب في مدينة حمص 500 صحابي عاشوا في ظل عطاءات القائد العسكري خالد بن الوليد، حيث كان يغدق عليهم من الغنائم والخراج بعدما ضاعف قيمة الجزية على مسيحيي حمص فأسلم الكثيرون منهم تفاديا للجزية، وكي ينتقلوا من مرتبة ذمي إلى مرتبة المواطنة.. ويوجد الكثير من مقابر الصحابة في دمشق، حيث كان يكفي أن تروي حديثا عن الرسول الكريم حتى تصنف صحابيا جليلا ويجري عليك العطاء من بيت مال المسلمين، وقد بلغ عدد الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة أضعاف ما قاله النبي.. كما نقلت القبائل التي استعان بها جيش الإسلام في غزو سورية نزاعاتها مع بعضها، ويمكن أن نمثل لها بصراع قبائل القيسية واليمانية في دمشق، فقد استمرت إحدى معاركها في ضاحية المزة شهرا وراح ضحيتها مئات المسلمين. وكذا كان عليه الحال في سائر المدن، إذ كانت السلطة الأموية تشغلهم ببعضهم كي تستفرد بالحكم وتستولي على أسواق دمشق، بعدما كانوا مجرد ناقلين لبضائع اليمن إليها والعكس، حيث كانوا يستخدمون القبائل الموالية لهم للحماية والترفيق واستمرار تجارة أبي سفيان قائد الحزب الأموي المعادي لحزب بني هاشم، حيث تم استبعادهم عن السلطة منذ مقتل الخليفة علي ابن أبي طالب، فتحول الهاشميون إلى حزب معارض، وتقاسم الحزبان ولاء المسلمين واستمر صراعهما إلى يومنا هذا !؟
5
اختار العباسيون توقيت ثورتهم (743 ـ 748م) خلال انتشار الطاعون في بلاد الشام حيث كانت نسبة الناجين 1 من كل 14 ضحية، وقد أضعف ذلك النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، واعتزل الخليفة مروان بن محمد وقادته في قصورهم وديارهم خارج دمشق، وحصلت تغييرات ديمغرافية في البلاد حاول الحكام ملأها بالزنج فهجروا أعدادا كبيرة منهم ونقم الناس عليهم، وبالختام فقد انتصر العباسيون بالطاعون..
كانت الدولة الأموية متعصبة للعنصر العربي، وقد اختلفت الدولة العباسية عن الأموية بانفتاحها على سائر الأمم، إذ فتحت أبوابها لعلمائهم ومفكريهم الذين ترجموا فلسفة اليونان وثقافة فارس والهند، وأنشأت المكتبات العامة، وازدهرت علوم الطب والهندسة والكيمياء والجبر والموسيقى، ونشطت حركة التأليف، وأقبل الكتاب والشعراء على الأفكار الجديدة وأجروا المقارنات والاستنتاجات، وانتشر النثر مع الجاحظ وابن المقفع، وظهر أعظم شعراء العربية: المتنبي وأبي تمام وأبي العلاء والبحتري وأبي فراس وأبي نواس الذي سخر من الاتباعيين ومن ثقافة البداوة والعرب، وظهرت المدارس الشعرية المجددة، كما ظهرت الحركات الدهرية، حيث تأثرت الثقافة الإسلامية بالديانات القديمة كاليهودية والمسيحية والمجوسية بفرقها المتعددة (الزرادشتية والمانوية والمزدكية والديصانية), وتسرب إلى الإسلام من عقائدهم نتيجة الاحتكاك ودخول الكثير من أتباع هذه الملل في الإسلام. وكل ذلك مهد لظهور المعتزلة وجماعة العقل المجددين الذين رعاهم خلفاء بني العباس الأوائل، بحيث باتت بغداد قبلة الشعراء والعلماء والفقهاء والمفكرين، ويمكن القول أن التأسيس لحركة الحداثة الإسلامية بدأ منذ ذلك الحين ونشأت بتأثيرها المدارس الفقهية الإسلامية وعلم الكلام والجدل والمنطق، كما ظهرت العصبية العربية عبر إطلاق مصطلح الشعوبية الذي وصموا فيه منافسيهم بخلفياتهم غير العربية وشككوا في مآربهم من التجديد ومناهضة المدارس والمذاهب الإتباعية، حتى أنهم أدخلوا المذهب الشيعي الذي كان يميل إليه الفرس (الموالي) ضمن مفهوم الشعوبية.. وبالمجمل كانت النسخة العباسية من الإسلام والتي تشكلت في العصر العباسي الأول أفضل نسخ الإسلام..
6
انقلب العباسيون، الذين انتصروا بأصوات الحزب الهاشمي والدعوة لآل البيت، بعدما تمكنوا من السلطة، وتخلصوا من العائلات والقادة الذين وسعوا بهم حدود سيطرتهم على البلاد خوفا من تنامي نفوذهم.. إذ بات همهم في تثبيت أركان السلطة أكثر من تطوير الدولة والمجتمع، حيث تحولوا من دولة قوية مجددة في العصر العباسي الأول إلى دولة محافظة ومترهلة في العصر العباسي الثاني الذي بدأ مع الخليفة المتوكل ومن تلاه، في غياب للعدالة الاجتماعية واستنزاف لثروات الشعب وسيطرة الأتراك على مفاصل الدولة، فكثرت الثورات ضد العباسيين واستجابة الناس لبعض الدعوات الدينية واعتناقهم للعقائد الجديدة، لينتهي العصر العباسي الثاني بغزو التتار لبغداد سنة 1258 م وانتقال الخلافة إلى مصر، حيث ظهر إمام السلفية ابن تيمية (1263 - 1328م) في سورية في العصر العباسي الثالث.. ابن تيمية الذي كانت قد رفضت دمشق الأشعرية أفكاره في حياته ونفته إلى القاهرة، ولم يحتمل القاهريون أفكاره المتطرفة فسجنوه ثم نفوه بدورهم إلى الإسكندرية التي سجنته ثم أعادته إلى دمشق بسبب تطرفه، فسجنته دمشق مجددا حتى مات في سجنه، لتنام أفكاره زمنا ثم تظهر مجددا في القرن الثامن عشر، عصر الانحطاط العثماني، وتغلغل أفكاره بين الجماعات الجهادية السلفية لتنتج أسوأ نسخة عن الإسلام، إذ ظهرت في الجزيرة العربية دعوة محمد بن عبد الوهاب الذي اعتمد أفكار ابن تيمية في الدعوة الوهابية، وفي مصر انتشرت أفكاره بين جماعة الإخونج، حيث ظهر استدلال السلفية الجهادية المعاصرة بكتب وفتاوى ابن تيمية لدى منظري السلفية كسيد قطب وأبي الأعلى المودودي وسعيد حوى، كما يظهر تأثر أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد الجولاني والجماعات السلفية الجهادية التي تحارب الجيش السوري والمصري والعراقي اليوم، وتخيف السلطات الرسمية بحيث باتت تتحفظ على نشاطات العلمانيين وتتمسح بالتيارات الدينية الموالية لأنظمتها كتأكيد على تدينها.. فمنذ سقوط مقديشو وكابول ومن ثم بغداد ونحن نفاجأ بجماعات هاربة من المتحف الإسلامي وكأنها خرجت من ثقب زمني لتفترس عموم المسلمين المتحضرين، وكأننا نواجه هجوما يشنه مقاتلون من كل العصور بثيابهم ولحاهم وسواطيرهم وأفكارهم المعفنة التي تسمم كل من يلمسها، حيث ركزوا خلال الحرب السورية كما الأفغانية والصومالية على تفجير المدارس وقتل المعلمين (لأن الإسلام دين الفطرة ويحتاج إلى ناس بسطاء لم تلوثهم علوم الكفار كي ينتشر الدين الصحيح بينهم) بحسب وصية الشيخ عبدالله عزام للمجاهدين الذين كان يلتقيهم في الحج قبل إرسالهم إلى أفغانستان لمحاربة الكفار الشيوعيين، وأوضح من يمثل تلك الأفكار هم جماعة أبو سياف الإسلامية التي ما تزال تهاجم المدارس في الفيلبين وتقتل التلاميذ أو تخطفهم بغية تجنيدهم في صفوفها.. ذلك أن خلايا الأديان الإبراهيمية تحمل بين طياتها ألغاما جهادية إرهابية لا يعلم المرء متى قد تنفجر، وبعدما عجزت المواجهات العسكرية والحلول الأمنية وحدها عن علاج ما يسمى بالإرهاب الإسلامي فإن العلاج يستدعي برنامجا متكاملا لدى الحكومات العربية يبدأ بتأليف مناهج تعليمية جديدة تعمل على تفكيك البنى الدينية والمذهبية السلفية، والتركيز على المفاهيم الدينية التي تدعو للسلام والتسامح والمحبة، ومعالجة العوامل النفسية المصاحبة للتطرف الديني، واستخدام وسائل نفسية ناجعة للردع الفكري للإرهابيين. بالإضافة إلى تشجيع الفنون ونشر الجمال لكسر روح العنف عند المتطرفين، كما يتوجب العمل على دحض أفكار السلفيين واستقراء أخطارها على المجتمعات المعاصرة عبر التعريف بما تعرضت له الأمم السابقة من عنفهم وظلمهم وامتناعهم عن مواكبة الحضارات الإنسانية المتعاقبة في وسائل الإعلام وخطب الجمعة..
نبيل صالح
المراجع:
العالم الهيللينستي: حملة الإسكندر على الشرق تأليف : فرانك ولبانك
مدن بلاد الشام حين كانت ولاية رومانية: تأليف أ . هـ . م . جونز
الطاعون في العصر الأموي: تأليف أحمد العدوي
إضافة تعليق جديد