نبيل المالح: الدمشقيون كومبارساً
الجمل- نبيل المالح: سمعت مـنـذ عـام تقريـبـا أن دمشق ستـكون عام 2008 عـاصمة للثقافــة العربـية ، وفهمت أن الحجـر والحـديـد والأعمـدة والأرصـفـة لـم تـكـن هي المقصـودة بهـذه الاحتـفـاليـة ، على اعتـبـار أنهـا تـراكـم تـاريخـي طبيعي لمدينـة بعـراقـتهـا وأنهـا لن تكون سـوى الديكـور الطبـيعي وروح حـدث أكبـر، كمـا أنـه ليس الهدف شـرح تـنوعهـا الديني والطائفي إذ أن ذلك جـزء مفصـلي من خصـوصيتهـا ، إلى جـانب أن الأمـر لا يتعلق بياسمينهـا وباحـات بـيوتهـا لأن هــذا مولـود معهـا ، وإنـمـا المقصـود هـو بشـرهـا الذين عـاشـوا متداخلين مترابطين متكـافليـن في السـراء والضـراء واستطـاعـوا بالرغـم مـن الانكسـارات والانتصـارات وضـروب الاحتـلال والغزو والفرح والأمـل أن يصنـعـوا نسيجـا خاصـا يحمـل عبقـه الفريـد والاستـثـنـائي ، هو عبق هـذه المدينــة . وأن المقصـود هـو ثـقـافـة مدينـة ، مديـنــة ثقـافـة حيـاتيـة لهـا لونها الخاص الفريد بين المدن فيها تلخيص لتـاريخ هـذا الوطـن بكـافـة مفرداتـه وألوانـه ، وان الاحتفـاليـة ستكون تكريسـا لمنجـز إنسـاني وحضـاري صـنـعـه البشـر . ولكـن أين هم البشـر مـن هــذه الاحتفـاليـة ...؟
الطريف أن أصحـاب العلاقـة ، وأقصد أهل دمشق وقاطنيهـا ، لا يعرفـون شيئا مما يخطط لمدينـتهـم ، بل غـدوا مشـروع ضيـوف طـارئين عـلى مكانهـم الـذي صـنـعـوه عـلى مدى آلاف السنين. فهنـاك لجـان ومسؤولين وأفـراد يحمل لهم الناس الكثير من الاحترام والتقديـر كشخصيات تحاول صـنـع حدث استـثنــائي ، ولكنهم يجتمعـون وكـأنهـم نــاد نخبوي خاص يـريـد أن يفـاجىء أهل دمشق وسـورية والعالم بـإنجـازه غيـر المسبـوق والأول تـاريخـيـا ، والذي سيكـون الأخيـر طبعـا فالدور لغير دمشق فيمـا بعــد ، لنجـد أنفـسنـا أمـام نفس التلقـينـيـة المزمـنـة التي اعتـدنــاها ... لا تـفـكروا لأنـنـا سنـقـوم بالتفكيـر والتـقرير نيـابـة عـنـكم .
حتى الآن لم أفهـم مـا علاقــة أهـل دمشق بالاحتـفـاليــة ، بينما لا تزال سـاخنة في رأسي وبشكل مؤلـم عشـرات الخيـام التي نصبت في مختلف الأحيـاء التي تقــدم الطعـام والشراب والفرق الموسيقية ورقصــات الدبكـة كجـوازات سفر لشخص مغمـور إلى مجلس الشعب ، بـينمـا لـم يحـدث مرة واحـدة أن تـفضل أحــد من مسؤولي الاحتـفـاليـة بالتواصل مـع أهـل المدينة ، فيمـا عـدا مقـابلات تلفزيـونـيـة وإذاعـيـة وصحـفيـة خجـولة ، ليشـرح مـا المطلوب من المواطن ومـا هـو دوره في هــذه الاحتـفـالية ، حيث لا دور حقيقي له سـوى أن يكون محافظـا على النظـافــة ومذعـنـا لما برمجــوه لـه .
لم يكن لأحد فضل مـا في جعل دمشق على مـا هـي عليـه سـوى أهـلهـا والذين اتخذوهـا أمّـا لهم . لا الغزاة والفاتحين ، ولا من تركـوا وراءهـم الأنصـاب والأقواس الحجـريــة والجدران الصخريـة ، وإنـمـا أولئك البشـر العـاديـون الذين أغنـوا دمشق بوجـودهـم وأذابـوا كل ذلك التاريخ الحافل في بوتقـة واحـدة وصنعوا ثقـافـة هـذه المدينـة ، وهـؤلاء البشـر بالذات هـم الذين بقـوا خـارج قـوس الاحتفـاليـة بمدينـتهـم، فلقـد قرر الآبــاء العرس بينمـا لـم تعرف العروس حتى الآن بذلك إلا من خـلال الزمـن الضـائـع للالتفـاف حـول الطرقـات والسـاحـات التي قرروا رصفها أو ترميمهـا على مـدى شهور وكأنهـا الهـدف وليست التفصيل الصغـير في فسيفساء مدينـة مثل دمشق.
هـل المواطن جزء من هذه الاحتفالية أم أنـه مجـرد كـومبـارس متفــرج واقف على الرصيف .
هـل جـرى اجتمـاع موسّـع للفنـانين والمبدعين والمثـقـفين صـغـارا وكبـارا ، مشاهير ومبتـدئين ، ولو تحت خيمـة من خيام المرشحين ، وبعيـدا عن دوائر اصطفـاء الموعـودين بالجنـة ، ليتقدمـوا بأفكـارهم وتصوراتهـم ومشاريع مساهمـاتهم الطـوعيـة أو المأجـورة لجعل الحـدث حـدثـا صغيرا أوكبـيرا ولكنــه جــزء مـنـهم . إن اجتمـاعـا واحـدا في مكتبـة الأسد كان سيجعل الجميع متورطين حـبّـا في أن تـكـون له مساهمـة أو رأي مـا . وأن يترك ولو بصمـة صغيرة على جدران وروح هذه المديـنـة.
حتى الآن ، يـبـدو أن الأرصـفـة والشـوارع وواجهـات شـوارع محـددة قـد حظـيت باحتــرام واهتـمـام أكثـر مـن الذي نــاله البشــر .
لقـد تـمّ تبسـيط مفهـوم الثـقـافــة لنسيج مدينــة عريقـة كدمشـق إلى معــادلات سـاذجـة ، كـأن تـقـام معـارض وتعرض مسرحـيــات وتصـوّر أفـلام وتــؤلف مـوسيقى ، وكل هــذا أسـاسي في مثل هــذه الاحتـفـاليـة ، ولكنــه تفـصيـل مـن صــورة أشـمل لـم يـرهـا منظـمـو العمل بل ولم يفكـروا بهـا .
سـمعت أن هنـالك الكـثـيـر مـن البرامج التي سيتم تـنفيذهـا ، ولـكـن هـل سـئل مـواطن واحـد عـن تصـوّره للكيفيـة التي يريــد بهـا أن تـكـون عليـهـا دمشقـه وكيف يـمكـن أن يكون شـريكا فـاعـلا في احتفاليتـه..؟
هـل تـمـت دعــوة الناس للمشـاركـة في صـنــع بهجــة مــا ، سـوى الطلب بـأن يحـافظـوا عـلى النظــافـة ، ولكن نظـافـة مـاذا ..؟ هـل هي نظـافـة الشوارع والأبـنـيـة والسـاحـات المختارة التي يراد تــأهيلهـا ، أم أنهـا المديـنــة المهمـلــة بكـاملهـا ، والتي غــدا اللون الرمـادي لونـهـا الرسمي .! أم أن الفكرة هي في قرارات تـؤخـذ في حينهـا بان عليك إيهـا المواطن أن تـكـون فرحـا وسعيـدا في الأيـام كـذا وكـذا بنـاء على البرنـامج الذي الذي وضعنــاه لك ..؟ ومـا عليك سـوى الوقـوف جـانبـا وتـتفرج ثـم تـعـود إلى حيّك المهـمل .
لمـاذا لم يخطـر بالبال أن تقـام مسابقـة بين الأحيـاء مـن أجل الحيّ الأجمل لتتسابق عليهـا أحياء المدينـة المقصـودة بحيث تغـدو ظـاهـرة عـامـة تمتـد إلى جميـع المدن الأخـرى لتصبح ظـاهـرة وطنية تمتـد إلى مـا بعـد هــذ الاحتـفـالية..؟ بل لمـاذا لـم لم يطلب من الناس أن يتـقـدمـوا بمبـادرات على مستوى الحيّ والشـارع والزقـاق ليتقـدمـوا بمسـاهمـاتهـم الطـوعيـة لجعـل مدينـتـهم أجـمـل واكثـر حيـويـة . ونحـن نعلـم أن الكرنفـالات والاحتـفـالات الشعبيـة في العالم لا تـتمّ بقـرار أو لافتـة ولجـان وبطـاقــات دعوة، وإنـمـا هـي تعبـير عن حـالــة فـرح جـمـاعي عفـوي ، ولكنـه يبـدو أنـنـا فقـدنـا ذلك منذ زمن طـويل ، وتعيـد احتـفـاليتنـا هـذه تكريس الرسمي والاصطفائي والنخبـوي ، بينمـا كـانت الفرصة مشرعـة أمـامهـا لجعـل سـنـة 2008 عيـدا للجـميـع ، يمتــد سـنـة بعـد سـنـة .
لمـاذا هــذا التجـاهل الاستعلائي تجـاه المواطن والمبدع إلا لمـن اعتقـد منظمو الاحتفـاليـة بأن هؤلاء الذين تـمّ اختـيارهم والضيوف القادمين من وراء البحـار هـم الحل الأمثـل والأكثر تـعبيرا عن ثقـافـة هـذه المدينــة وليشاهد الضيـوف القادمون دمشق ويتحدثوا فيما بعـدعن ذكريـاتهم فيهـا لأصدقـائهـم .
السـؤال وبمنـتهى البسـاطـة : لمـاذا تـمّ استـقصـاء المـواطـن عن أن يكون شـريـكـا وعنصـرا فـاعـلا بمحبــة ومسؤوليـة في هـذا الحـدث الذي لن يعـاد .
يسـتطيع المـرء منـذ الآن أن يـرى الصـورة التي ستكـون عليهـا الاحتفـالية ... إفتـتاح ضـخم في قـاعـة مـا يحضـرهـا المدعـوون المختــارون ... ألف أو ألفين ، يتـمّ بثــه على الأقنيـة التلفـزيـونـيـة ... عـراضـات ... بضعـة أفـلام قصيـرة تحـاول إبـراز جـوانب مـا عن دمشق ، لا أدري أين سـتـعـرض ... مسرحيـات وعـروض ورقص وموسيقى مـن بـلاد مختلفـة يحضـرهـا بضـع مئـات ... حفلات ومدعـوين هـامين ونشـاطـات عـديـدة أخـرى ، قـد يشـاهـدهـا كلهـا عشرة أو عشـرين ألفـا مـن أصحـاب البطـاقـات المحظـوظين .
ولكـن مـاذا عن الملايين الأربعـة من أهـل دمشق ، والعشرين مليـونـا من سكان سـوريـة الذين يفخـرون بعاصمتهـم ...؟ إنـهـم سيكـونـون فقط الذريعـة الغافلـة للاحتـفـاليـة بـهـم وبمدينـتهم .
الموضـوع برمّـتـه هـو فلسفـة رؤيــة وليس مـوضـوع ميزانيـات وأمـوال . إنــه روح الأشياء ومعنـاهـا ، وهل الأمـر متعلق بالبشـر أم بديكـور الأشيـاء ، متعـلق بالبـاقـي أم بالآني الزائل.
يبدو في النهـاية أنها احتفـاليـة النخبـة ، ولن يعرف الدمشقيـون بأنهم يعيشـون احتفـاليـة إلا مـن خـلال لافتــات وملصقـات تـذكـرهـم بـأن عليهم أن يفرحـوا ويحتفـلوا في الأيـام المحـددة في روزنـامـة البرامج .
لقـد أصـبح أهـالي دمشق كـومبـارسـا في حفلتهـم ومتفرجـون واقفـون على الأرصفـة قي حـال أن مــرّ الاحتـفـال مصـادفـة بالقـرب منهـم
الجمل
التعليقات
لقدتريفت المدن
كلام صحيح و
كومبارس نبيل المالح
إضافة تعليق جديد