حياة شاذة
تروي لنا فيرجينيا وولف في "السيدة دالاواي"، سيرة يوم خاص، واحد، من حياة "سيدة" تلاحقها في تصرفاتها اليومية: ما بين باقة الورود التي تشتريها في الصباح وحفل الاستقبال الذي تقيمه (واستقبالاتها هذه هي السبب في شهرتها)، يتبع القارئ، على خلفية رنين ساعة "بيغ بن"، أهوال هذه السيدة كما الأم، أقاصيص الذين يدورون في فلكها. بدون شك، كانت الكاتبة تملك هذه الموهبة، المفاجئة قليلا، بالقفز من شخصية إلى أخرى ومن دون أي تحذير أو تمهيد، كذلك كانت تعرف كيفية الدخول إلى المناطق المعتمة من هذه الأرواح التي تتصادم.
على خطى الكاتبة الكبيرة، التي يذكرها في كتابه، يسير الكاتب الإسباني أنريكي فيلا ماتاس، في روايته "طريقة حياة شاذة"، إذ يروي لنا بدوره يوما خاصا من حياة كاتب. بيد أنه وبخلاف المجتمع اللندني الراقي الذي ترسمه لنا وولف، نجده يروي "أحشاء" حياته وتفاصيلها في سردية تعتمد على ضمير المتكلم.
كلّ شيء، في الكتاب، يتمحور ويدور حول "أنا" هذا الرجل الذي يشيخ بشكل متعب ومريع. لا نمرّ في كتاب أنريكي من شخص إلى آخر، بل نبقى مسمرين فوق شخصية الراوي، وإن كانت شخصية قليلة "الإمتاع والمؤانسة". كاتب تخطى الأربعين، زوج لا يتوقف عن خيانة زوجته، أب "أعمى" (لا ينتبه إلى أولاده) غير رحيم، كاره للبشر ولا يتوقف عن إعلان ذلك، يعرض سأم وجوده: عليه أن ينهي كتابة محاضرته التي عليه أن يلقيها في مساء ذلك اليوم، عليه أيضا أن يختار ما بين زوجته وعشيقته (التي ليست سوى أخت زوجته)، كما عليه أن ينتهي من كتابة ثلاثيته الروائية.
نجد في "طريقة حياة شاذة" الكثير من السخط، من القسوة التي تتولد من "المثاليات المتوهجة بشكل سيئ"، لكنها تعبر عن هذه الـ"أنا" التي تمنع عنه كل عاطفة تجاه الآخرين. من هنا، وبدلا من أن يسبر عمق الشخصيات وعمق تفاصيلها، نجده يراقبها بغيرة، ما يبقيه خارج هذه الكائنات الغريبة عنه. بمعنى آخر: يتجسس عليها. لكنها "جاسوسية" على النقيض من "الذاتية" التي تلامس "البارانويا".
الكتابة هي شكل ما وطريقة. فبدلا من أن يلجأ إلى المخيلة، وهي صفة يتمتع بها ابنه ما يجعله يشعر بالغيرة، يراقب الراوي حيوات الآخرين الذين يلتقيهم كي "يأكل" ليعيد إنتاج صفاتهم: إنتاجها في رواية تأتي في النهاية كأنها (كاليري) على جدرانه هذه "البورتريهات" التي التقاها على باب بيته.
رواية تقرأ بمتعة. يكتب مثلما يتخيل أو مثلما يرى. يكتب أيضا مثلما يتنفس، من هنا تبدو زفراته عميقة، بطيئة ومتعددة. هذا اليوم المروي حول حبكة خفيفة، يغنيها الكاتب بالعديد من الأفكار والتأملات والذكريات العائدة للراوي كما من الاستطرادات المنبثقة من وعي الشخصية الرئيسة.
مزيج غريب يعطي في النهاية رواية "غريبة"، لكنها ساحرة. إذ من خلال هذه الدروب الملتوية يصل إلى هدفه: هذه الإنسانية الكونية.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد