فضاء بديل للاحتكار الإعلامي على فيس بوك
لم يعد للفضائيات وهجها السابق الذي كان يسيطر على القلوب والعقول والذي فعل فعله في السنة الأولى للحرب على سوريا.
فمن يراقب ما تحمله منشورات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم السياسية، لن يحتاج إلى كثير جهد ليكتشف أن المواطنين السوريين عمومًا لم يعودوا متلقّين سلبيين لما تبثّه هذه الفضائيات، بل إن الحوارات اليومية التي تدور بينهم عن كيفية تقديم نشرات الأخبار والبرامج والحوارات السياسية تؤكّد أنهم أصبحوا على دراية تامة بكل الأساليب الإعلامية وأدواتها التسويقية، ولا يسلم منهم برنامج أو مقدّم أو فضائية مهما كان الجهد المبذول لتبدو محايدة أو موالية لمشروع الدولة السورية. وأخصّ هنا متابعتي للنشطاء والجمهور الموالي لخطّ الدولة والجيش السوري .
فرغم الهالة الإعلامية الكبيرة التي أحيطت بها مجموعة من المحطات الفضائية، ولأذكر هنا على سبيل المثال محطة الميادين، لم يعد السوريون يتلقّونها إلا بعين الناقد اليقظ، خصوصًا بعد أن كشف كثير من العاملين بالميادين عن وجههم القطري ومراسيلهم المباشرة لأميرها الذي يبحثون بـ"الحيلة والفتيلة" عمّا يبيّض صفحته الصهيونية الخالصة لوجه يهوه. وهذا الناقد اليقظ الذكي لم يعد مهتمًّا بما تقوله وتبثّه فضائيات "العرب" كـ"الجزيرة" و"العربية" بقدر ما أصبح متابعًا نشطًا لما تبثّه القنوات المحسوبة على سوريا والمقاومة عمومًا؛ ولهذا جئت بالميادين نموذجًا.
وقد أدّى هذا التمرين الطويل والشاق في التلقّي إلى تحوّل أغلب هؤلاء النشطاء الألكترونيين إلى موجّه إعلامي وناقد له أتباع ومحازبون يؤيّدونه ويختلفون معه وقت الضرورة، بمعنى أن التفاعل يكون في كثير من الأحيان لحظة بلحظة، لدرجة أنهم يتدفّقون على المختصّين في كثير من شؤون السياسة والإعلام بحذر ودقّة ونقدية مسبّقة. ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي أفسحت المجال لأي كان في أن يكتب ما يريد وينقل ما يريد، إلا أن تمارين التلقّي قد فعلت فعلها في فرز ما هو مميز عن المعتاد والمكرور وأصحاب "نسخ لصق" كما يسمّون.
من جهة أخرى أصبح لإعلاميين وكتّاب وأصحاب رأي ونشطاء جمهور خصوصي يتابعهم بدقّة، يصفّق لهم عبر "اللايكات"، ويناقشهم عندما يشعر أنهم ابتعدوا عنه أو "علّوا العيار". وكأن هؤلاء النشطاء الألكترونيين قد افتتح كل منهم محطّة تلفزيونية، منهم من يتابعه الآلاف، وعلى أغلب تقدير عشرات الآلاف لأن كثيرًا من المتابعين الذين يدخلون صفحاتهم يتسللون خلسة إليها.
لا بدّ من الإشارة إلى أن الحرب على سوريا وحّدت مواطنيها في كياناتهم كلها وفي المغتربات، صحيح أن كثيرًا من النشطاء العرب يتفاعل مع الحدث السوري، إلا أنهم لم يرتقوا إلى المستوى الذي يستطيع به المتابع القول إنهم على اهتمام كبير بما يجري في سوريا، حتى إن كثيرين منهم نفخت فيهم وسائل الإعلام السورية وروّجت لهم لأسباب لا يعلمها إلا الله، لم يستطع الحصول إلا على بضع متابعين سوريين، وأحمد سبايدر الذي استقبله وزير الإعلام السوري خير مثال على ذلك. لكن في المقابل لا يعرف كثير من السوريين إن كان الواقفون إلى جانب سوريا وجيشها ومشروعها المقاوم والمدافعون عنها في الغداة والعشي سوريين أم فلسطينيين أم لبنانيين أم عراقيين أم أردنيين كحسين مطاوع أو زياد حلاوة أو نايل زبيد أو إياد حمّاد أو عبد الإله خريس أو حاتم شريدة أو حنان مداين أو نادي قماش أو عادل سمارة أو سليمى حمدان أو ثريا عاصي أو خضر عواركة أو فاضل الربيعي أو غيرهم الكثيرين ممن ينتصرون لجيش سوريا الذي يعدّونه جيشهم وسند التحرير؛ ولولا إشارات بسيطة لبعض منشوراتهم لحسب من هم داخل الجمهورية أن هؤلاء يسكنون أحياء دمشق أو حلب أو اللاذقية.
سأذكر بعض نماذج لإعلاميين وكتاب ممن تميّزوا بجمهور خاص يتابعهم، لأن إحصائية كاملة لهذا تحتاج إلى مئات العاملين المتفرّغين لأشهر طويلة.
باسل ديّوب إعلامي سوري افتتح قناة خاصّة به على الفيس بوك بآلاف المتابعين الذين يصنّفون بين الموالاة والمعارضة، وبحرفية عالية في أساليب الحرب النفسية استطاع ديوب أن ينوّع في أساليب خطابه ومصطلحاته التي تبدو تارة نزقة ونارية وتارة متهكّمة وتارة حماسية وأخرى هجومية. فعندما يتحدّث عن أي من المعارضين يكتب "فوردة" نسبة إلى السفير الأميركي السابق في دمشق كدلالة على أن هذا المعارض أحد غلمان روبرت فورد، فأصبحت "الفوردة" و"ولاك فوردة" وثوّار الناتو" أهم مصطلحات يستخدمها كثيرون على صفحاتهم. وباسل ديوب الصحافي الذي يكتب في وسائل إعلامية عديدة وآخرها مقالته الأسبوعية في وكالة أنباء آسيا، يكاد يكون أحد أكبر الإعلاميين السوريين الذين لا يهابون نقاشًا في أي موضوع فكري أو سياسي، خصوصًا وأنه فتح معارك كثيرة، اتهمه كثيرون كذلك أنها ليست بوقتها، مع أحزاب وفئات وتجمّعات محسوبة على الدولة السورية وتقف إلى جانبها. وكأنه كان يريد من هذه "المعارك" شقّ طريق إعلامية جديدة في كيفية التعاطي بين الحلفاء وتطوير لغة التخاطب بينهم، وهو بهذا كان بديلًا، وإن بدا عدوانيًّا في كثير من الأحيان، لجلسات الحوار الوطني المملّة على التلفزيون السوري، كما أنه يبدو وقد أخذ على عاتقه أنه يستطيع أن يكون نموذج وزارة الإعلام الخبيرة التي تعرف كيف تجلب جمهورها إليها.
نبيل صالح الكاتب والأديب السوري المعروف ومدير موقع "الجمل بما حمل" صاحب زاوية "شغب" على موقعه، يبدو أقرب في أسلوبه إلى الكتابة الأدبية المبسّطة، ربما لخبرته في فنّ القصّ، وهو لا يفوّت مناسبة تمرّ من دون أن يعمل فيها "دبابيسه" التي لا توفّر أحدًا أيًّا كان. وإذا كان باسل ديوب يظهر في كثير من المواقف مدافعًا عن الدولة السورية "على الخير والشر"، أي حتى في تمظهراتها البيروقراطية كما يأخذ عليه منتقدوه، فإن نبيل صالح لا يتوانى عن النقد اللاذع لكثير من المظاهر "الخشبية" التي يعرف أصولها ومنابتها نتيجة لعمله الطويل في الصحافة الرسمية السورية. يتابع نبيل الآلاف ويتفاعلون مع ما يكتب عبر تعليقات جدية أبعد عن المناكفة أو "المراشقة" الكلامية، لأنه لا يفوّت تعليقًا إلا ويردّ عليه أو يعطي إشارة لكاتبه أنه قرأه مهتمًّا، وهو ما يشي بسياسته الهادئة التي يبدو وكأنه رسم خطوطها بعناية فائقة. لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن نبيل صالح واحد من المثقفين السوريين القلائل الذين خرجوا من أجواء انتظار الغالب ليشتموا المغلوب ويأخذوا حصّتهم الجديدة، وخصوصًا أولئك الذين يعملون في مؤسسات الدولة السورية أو الرديفة لها ولم ينبسوا ببنت شفة في أمر الحرب على بلادهم، بل ظلّوا يكتبون نصوصًا مبهمة، أوضحها هي تلك التي يشتمّ منها تأمين مقعد مقبل عند الغالب. وقد كتب منشورًا في هذا، قبل أيام، الشاعر السوري نصر محسن على صفحته "المثقفون الرماديون أكثر سوادًا وشؤمًا من الغربان. محرمّة عليهم أوطانهم كما حرّمت على الإرهابيين. بإمكاني أن أذكر أسماء كثيرين منهم. ولأنهم يعرفون أنفسهم جيّدًا نقول: اللعنة عليكم واحدًا واحدًا".
خضر عواركة الكاتب والإعلامي المعروف ومؤسس ومدير عام شركة زانيس غروب الكندية للاستشارات والإنتاج الإعلامي، هو الأكثر شغبًا من شغب نبيل صالح الدوري، ذلك أن كتابات عواركة لا توفّر كبيرًا ولا صغيرًا في سوريا والعالم العربي وتطال شظاياه في كثير من الأحيان جزرًا لم يسمع بها أحد، فهو خبير بارع في كسب مزيد من الأعداء والخصوم من سياسيين وكتاب وإعلاميين ومواطنيين عاديين، وخبرته ولغته الخاصّة تجذب إليه أعداء وشتّامين من أصقاع المعمورة كافة، وهو كما تابعته منذ سنوات خير من ينطبق عليه قول الإمام علي (ع) "لم يترك لي الحق صاحبًا". متابعو عواركة يعرفون أنه من المنحازين للتثليث، فمحظوراته وخطوطه الحمر ثلاثة مقدّسات لا يمكن لأحد من مناقشيه أو محاوريه أن يقربها، وهي الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصر الله وسوريا التي تعني له الحاضن والداعم والأساس الذي ترتكز إليه المقاومة ومشروعها المقدّس، وكل ما دون ذلك لا يسلم منه، ومهما بلغت رتبته أو منصبه. لكن ما يميّز خضر عواركة أنه يملك شجاعة كافية للاعتذار عندما يستحق موقف ما الاعتذار، أو عندما يتأكّد أنه اتخذ موقفًا جائرًا من أحدهم وهو لا يستحقه. لا يستخدم عواركة ألفاظًا نابية، لكنه يستبدلها بمفردات وتعابير أقسى بكثير من تلك المفردات الدارجة على ألسنة العامة. وهو بطريقته وأسلوبه هذا جعل صفحته محجّ الباحثين عن تفسير لكل المسائل الإشكالية التي يتداولها الإعلام أو يفجّرها بعض المغرضين على صفحات التواصل الاجتماعي، وقد حسم الجدال عند كثيرين مؤخّرًا في موضوع الأولوية لسوريا أو للمقاومة.
أيهم محمود مهندس إنشائي وأحد المشرفين على موقع "خارج السرب"، هو الأكثر شبهًا بخضر عواركة من ناحية خبرته في كسب العداوات من أجل الحق، لكن أيهم متفرّغ بشكل شبه كامل لتصريحات وبيانات "المعارضة السورية" ولا سيما "الداخلية" منها. فهو يلاحقهم على "الدعسة"، وأعتقد أن "هيئة التنسيق" في الداخل والخارج، ومعها لؤي وحسين وجماعته، ستتحوّل "داعش" إلى إحدى منظمات الموت الرحيم لو أنها تحظى به أو تسطو عليه، ذلك أن أيهم لا يفوّت بيانًا إلا ويعلّق عليه ولا مناسبة إلا ويسأل عن موقف مناع و"هيئة الخيانة" كما يسميها. كما إن أيهم من المدافعين الأشداء عن الجيش السوري والدولة السورية، وقد دفع الثمن تهميشًا وإبعادًا عن أي فعل يستطيع "تطوير بلده" فيه كما يقول وذلك نتيجة لمواقفه السياسية المعارضة. ولعلّ متابعيه يصنّفون من الجديين الذين يبحثون عن الأخبار الصحيحة المدققة، كما يبحثون عن رأي واضح في المسائل الإشكالية التي يدوّرها المثقّفون في العادة.
بسام القاضي صاحب تعبير "الجندي السوري الشريف"، والذي يكرر في صباحاته ومساءاته التحية له. يكاد يكون محطّة فريدة في إيقاظ المشاكل النائمة أو المتغاضى عنها، فله في كل أسبوع متفجّرة جديدة عن الفساد والمعارضة و"الصهيووهابية" لا يوفّر فيها أحدًا من نقده اللاذع والحاد وآرائه القاطعة النهائية، لكنه في الوقت نفسه استطاع أن يحشد جمهورًا كبيرًا بلغ عشرات الآلاف على صفحته لفكرة الالتفاف حول الجيش السوري في أنه حبل النجاة والخلاص لسوريا. مفردات بسام وتعابيره متطرّفة كذلك باتجاه كل مشكك بقدرة الجيش السوري، أو جهة أي "نقّاق" أو "إمّعة" أو "تافه" كما يتكرر في منشوراته، ونقاشه مع روّاد صفحته أبعد ما يكون عن الدبلوماسية المعهودة لدى محبي جمع اللايكات.
صفحة "خاطرة أبو المجد" المنسوبة للسفير السوري في عمّان اللواء بهجت سليمان، استطاعت كذلك أن تشقّ لنفسها مكانًا هادئًا بين محطّات المتابعين، وتميّزت صفحته في أنها صفحة سياسية بلكنة ثقافية، تنوّع في نبش التراث والشعر العربي على وجه الخصوص لتشرق كل يوم في أبيات منتقاة عن الشام والفروسية والحرب. لكن أهمّ ما يلفت في هذه الصفحة، عدا عن انحيازها الكامل الكلي للدولة والقيادة السورية، أنها تخرج منشوراتها مضبوطة بشكل حروف المنشور، مدقّقة في الحركة والسكون، وكأن "أبو المجد" يقطع الطريق على أي تأويل أو تفسير للآخرين في ما يريد قوله، فيحدده بضبطه. وهنا لابدّ من الإشارة إلى الجهد الاستثنائي المبذول في هذه الصفحة في مسألة اللغة تحديدًا، لأن إفساح المجال للنشر لمن شاء في مواقع التواصل الاجتماعي قد أحدث كوارث في اللغة العربية، حتى إن هناك ممن يدّعون أنهم شعراء ولهم آلاف المتابعين ويجمعون مئات اللايكات، يكتبون بلغة كسيحة مكسورة إملائيًّا ونحويًّا.
ثريا عاصي الكاتبة الصحافية التي يتابعها عشرات الآلاف، والتي أصبحت مقالاتها في صحيفتي الديار والأخبار موعدًا منتظرًا لكثير من متابعيها للتفنن في إعادة نشر مقالتها وتقطيعها لنشرها على مراحل في صفحات جمهورها الذي تتميّز علاقتها بهم بودّية استثنائية ظاهرة، فهي تردّ على الجميع ولا تفوّت تعليقًا من الإجابة عليه. ولعلّ مقالات ثريا الغزيرة، والتي تعدّ إحدى أهم الركائز في الحرب الإعلامية المضادّة، هي ما جعلها تنوب عن أحزاب ومنظمات كثيرة في المنطقة تدبّج البيانات "الخشبية" من أجل معارك سياسية رخيصة أو من أجل تأمين تدفّق الدعم من هذه الجهة أو تلك.
حسين مطاوع هو أحد الفدائيين الذين يؤجّلون كل الآراء والنقاشات حتى "انتصار سوريا" وجيشها. واحد من الذين يقاتلون في جميع الاتجاهات خلف الجيش السوري، ومختصره المفيد أن لا أرض ولا عروبة ولا قضية ولا فلسطين من دون سوريا وقيادتها، وهو محطّة في التعبئة الحماسية ضدّ كل من يشمّ منه رائحة ولو عابرة ضدّ سوريا.
أسلفت أن البحث في أمر كهذا يحتاج إلى مئات العاملين لتوثيقه بشكل علمي دقيق، لكنني ما أردته من هذه الإضاءة السريعة، مختارًا نماذج عن الصفحات الوطنية، هو إلقاء الضوء على بدائل إعلامية جديدة شقّت طريقها بين الناس متفوّقة على محطّات إذاعية وتلفزيونية وصحف وأحزاب ومنظمات في مجال الإعلام المقروء الذي يثأر لنفسه هذه المرة من استئثار الإعلام المرئي واحتكاره الجمهور فترة من الزمن لا بأس بها. كما لا بدّ من الإشارة إلى أنني تغاضيت بشكل متعمّد عن صفحات نجوم التلفزيونات من "محللين" و"استراتيجيين" و"خبراء"، وإن كان بعضهم قريب لما أردته في هذه الإضاءة، ذلك أن جمهور هؤلاء هو غير الجمهور الجديد الذي نتحدث عنه هنا، وهو غالبًا ما يكون من جماعة "لايك على عماها".
محمد سعيد حمادة
المصدر : وكالة أنباء آسيا
إضافة تعليق جديد