ماو تسي تونغ في سوريا
منذ الأيام الأولى لما سمّي الثورة السورية وبداية شكلها العسكري، كانت العملية المسلحة منظّمة ومموّلة بشكل ضخ. بدأت بظاهرها على شكل انشقاقات في الجيش العربي السوري وتشكيل ما سُمّي الجيش السوري الحر، وتشكيل ألويته وكتائبه العسكرية على شكل ميليشيات، لعل أشهرها ميليشيا خالد بن الوليد أو كتيبته في حمص، التي قادها أحد كبار البلطجية السابقين وهو بلال الكن، الذي قُتل في بداية الأحداث. تطورت الأمور بصورة دراماتيكية إلى أن وصلت إلى الشكل الحالي المؤسف: ميليشيات متعددة الجنسيات تقاتل تحت عشرات العناوين، لعل أكبرها هو جبهة النصرة وأحرار الشام وبقايا ما سمي الجيش الحر، وداعش المكون من عناصر إرهابية متعددة الجنسيات وبقايا بعثية عراقية سابقة، أو من جنود جيش الطريقة النقشبندية.
التعاطي العسكري السوري مع هذه التطورات كان تعاطياً حكيماً ينمّ عن خبرة عسكرية متميزة وتقنية في العمل العسكري لا يسير بقاعدة أو طريقة واحدة كما كل الجيوش التقليدية التي تنطلق استراتيجياتها من قراءة الواقع واتخاذ القرارات بما يسبب النصر. الاختلاف بين الجيش العربي السوري وبقية الجيوش هو الوعي السياسي والفهم السياسي للقادة العسكريين والتفكير بطريقة جدلية متطورة قابلة للتغير. فلم يعد التفكير المثالي عن تحقيق النصر بأقل الخسائر وأكبر الأرباح وارداً، وخصوصاً بعد السّعار الإجرامي لهذه الميليشيات والدعم الذي يصل لتغذية ما تم تجفيفه من هذه المجاميع المتطرفة. فكان لا بد من استخدام تقنية جديدة تحافظ على التراب السوري كاملاً، وتحاول ما استطاعت حسم المعركة لصالح الجمهورية السورية، وهذا ما حصل، لكن، ما هي الطريقة أو الحل لأزمة كهذه تسببت بالخراب والدمار وبث رائحة الموت في المنطقة والعالم؟
تكثر على منابر التواصل الاجتماعي مهاترات بين مؤيدي الدولة السورية في بعض المعارك أن القوميين السوريين (مثلاً) سبب في انتصار معركة ما، ويرد الآخرون بأن السبب هو الجيش العربي السوري، وتبدأ مزايدات فارغة هنا وهناك. وبدأنا نسمع عن قوات الدفاع الوطني ومشاركاتها في المعارك المهمة على الأرض، وكذلك يتقعر المعارضون، وخصوصاً أصحاب الارتباطات الخارجية، أنّه لولا مشاركة حزب الله في الحرب السورية لما انتصر الجيش. هذا الكلام صحيح نسبياً لأنّ العوامل الكثيرة والتكتيكات العسكرية في كل المناطق تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي النصر للدولة والجيش السوري، لكن التغيير الذي طرأ هو بالاستراتيجية العسكرية.
عندما بدأت الأزمة السورية، اتخذت المعارضة المسلحة عنوان استنزاف الجيش العربي السوري في كل مكان بغية إضعافه وتدمير درع الدولة، ما جعل القيادة السياسية تعلن تغييراً في استراتيجيات الحرب على العصابات المسلحة بحرب عصابات أخرى، فتم التغيير من حرب نظامية إلى حرب شعبية شبه نظامية، الأمر الذي أعلنه الرئيس الأسد في أغسطس/ آب من العام الماضي، حين تناقلت وسائل الإعلام خطابه الذي قال فيه إن «الحرب الشعبية كفيلة بإنهاء الحرب على سوريا». المواقع والمراصد الإعلامية الغربية تناقلت الخبر بخبث شديد، فصورت استخدام مصطلح الحرب الشعبية بأنه مشاركة المدنيين فيها، كما نقلت «يورو نيوز» على سبيل المثال: «الرئيس السوري بشار الأسد اعتبر أن ضرب ما سماه الإرهاب بيد من حديد هو الحل الممكن للأزمة، مؤكداً أن الحرب الشعبية (أي أن مشاركة المدنيين الى جانب الجيش كفيلة بحسم المعركة خلال أشهر)».
لكن الحرب الشعبية، هذه الاستراتيجية العسكرية المهمة التي أرسى دعائمها النظرية الرئيس الصيني ماو تسي تونغ خلال الحرب ضد الاحتلال الياباني والحرب ضد الكومنتانغ والتي أدت إلى قيام جمهورية الصين الشعبية، كفنّ عسكري هي المقصودة في هذا المجال. الحرب النظامية التقليدية ضد مجاميع مسلحة تكون خاسرة في معظم الأحوال، كما جرى في النيبال والصين وكوبا وكوريا وفييتنام كذلك. ليس بإمكان الجيش العربي السوري أن يبقى على استراتيجية واحدة مع عصابات تستخدم الأنفاق ومجارير الصرف الصحي للتنقل والفرار بين المناطق، فما إن يسيطر الجيش السوري على منطقة أو نقطة ما حتى يغادر المسلحون عبر طرقهم وأنفاقهم ويعودون في حال مغادرة الجيش أو نقل تمركزه إلى منطقة أخرى يوجدون فيها، كلعبة القط والفأر، ما يسبب إنهاكاً للقوات، فضلاً عن تحطيم نفسيتها. وهذا سبب يكفي لهزيمة أيّ جيش نظامي، كما حصل مع القوات الأميركية في فييتنام على سبيل المثال.
شكّل الجيش العربي السوري بهذا التغيير في الاستراتيجية حالة عسكرية جديدة لاستخدام الجيوش النظامية استراتيجية «شبه نظامية» في حرب داخلية، ما يدلّ على عبقرية سياسية انعكست عسكرياً في الميدان. وما عزّز هذه الاستراتيجية هو المزج بين استخدامها من قبل قوات نظامية ومشاركة قوات شعبية فيها مثل قوات الدفاع الوطني والقوميين السوريين وقوى أخرى، ولكن العلامة الفارقة كانت مشاركة حزب الله صاحب الخبرة الكبيرة في تقنيات هذه الحرب الناتجة من مقاومته للاحتلال الصهيوني في لبنان.
صرحت قوى المعارضة المرتبطة بالخارج بأنها تسيطر على ما يقارب 70% من الأراضي السورية، وكان تصريحهم من باب التبجح والحرب النفسية المرافقة للحرب العسكرية. وعندما ترد أخبار عن تحركات ومعارك الجيش العربي السوري في مناطق كثيرة ومساحات واسعة مثل دير الزور وريف دمشق والقلمون والقصير، يتبادر إلى الذهن أن هذه الأخبار كانت صحيحة، لكن الحقيقة أنّ الجيش العربي السوري والقوى العسكرية تستخدم تقنية الحرب المتحركة بمجاميع عسكرية شبه نظامية وبقوة نارية عسكرية. ولعل الخبرة والمهارة العسكرية تظهران في هذه المعارك التي تخلط بين الحرب الشعبية والدعم الناري من جيش نظامي، كما حصل في معارك الحرب الوطنية العظمى السوفياتية ضد الغزاة النازيين، فكان الجيش الأحمر يوفر الغطاء الناري للقوات الشعبية «الأنصار آنذاك»، وهم يقومون بباقي المهمات. ويستخدم الجيش كذلك تكتيك التطويق والإبادة وتقنيات الهجوم المضاد السريع وتركيز القوات وخفة تنقلها والحرب المتحركة والسريعة والمدعومة بالقوات النظامية، فمعارك القلمون والقصير وريف اللاذقية أظهرت هذه التكتيكات العبقرية التي تطورت خلال احتدام المعارك في مختلف المناطق، وزادت من خبرات القادة العسكريين وأدت إلى تقوية الجيش العربي السوري وتطوير خططه العسكرية. وبالطبع، عامل الأرض والالتزام بالقضية الوطنية كانا من أسس هذه الانتصارات المبهرة، والتي ستستمر خلال الأيام القادمة، مؤكدة نجاح هذه الاستراتيجية. لكنّ هناك عيباً واحداً في هذه الاستراتيجية، وهو المدة الزمنية الطويلة التي تحتاج إليها، وهذا مهم جداً لأن استراتيجية الحرب الشعبية وعواملها وظروفها تحتاج إلى هذا الوقت من أجل تثبيت الانتصار وضمان عدم قيام هذه العصابات المسلحة بالسيطرة على المناطق المحررة. الكل في سوريا يريدون الحسم السريع وإتمام الحرب والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، لكن النصر لا يأتي بالعواطف، بل ليس هناك مكان كبير للعواطف في المعارك المصيرية. أثبتت هذه الاستراتيجية العسكرية التي استخدمتها القيادة السورية نجاعتها ودقة اختيارها، وشكلت أيضاً تطوراً مهماً في العمل العسكري الذي طور التعاون بين قوى نظامية تعمل وفق هذا البرنامج وبين مجموعات عسكرية شعبية، ما أضاف شيئاً جديداً إلى هذه الاستراتيجية يستحق إضافة باب جديد لكتاب «ست مقالات عسكرية» أو ما يعُرف بالكتاب الأحمر العسكري للرئيس ماو تسي تونغ، ليصبح الباب السابع بعنوان قضايا الاستراتيجية في التعاون مع الحرب النظامية.
معاذ عابد
المصدر: الاخبار
إضافة تعليق جديد